تادف على خط تماس رُسمت خطوطه منذ عام 2017، في سباق بين قوات النظام وقسد والجيش الوطني، خلال معارك استعادة المدينة من تنظيم داعش. المدينة التي تطلّ على الطريق الدولي M4 في ريف حلب الشرقي، تبعد نحو 48 كيلومتراً عن مركز محافظة حلب، وتتبع لمنطقة الباب إدارياً وتبعد عنها قرابة 3.5 كيلومتراً، كان يبلغ عدد سكانها نحو 42 ألف نسمة حسب إحصائيات سكانية عام 2004.
قُصفت تادف بمختلف أنواع الأسلحة الجوية والبرية، الأمر الذي دفع سكانها للنزوح عنها إلى مناطق متفرقة في ريف حلب الشرقي قبل أن يعود قسم منهم بعد هدوء المعارك، ليجدوا أنفسهم في مدينة انقسمت إلى قسمين، سكان ونازحون إليها استوطنوا القسم الشمالي وأجزاء من الحي الغربي، كانت تسيطر عليهما قوات الجيش الوطني، بعد عجزهم عن تأمين سكن بديل وارتفاع الإيجارات في مدن وبلدات ريف حلب الشرقي، تفصلهما عن القسم الآخر سواتر ترابية وحواجز لقوات نظام الأسد التي كانت تسيطر على باقي أحياء المدينة وصولاً إلى مشارف مسجد الشيخ إبراهيم آنذاك.
ومع استعادة السيطرة على تادف في كانون الأول 2024، خلال عملية “فجر الحرية”، وجد سكان المدينة أنفسهم أمام خطوط تماس جديدة تحرمهم العودة إلى منازلهم، عنوانها هذه المرة “الدمار شبه الكامل وانعدام البنية التحتية والألغام، وضعف الخدمات”.
رفقة 450 عائلة، عاش إبراهيم حج إبراهيم (32 عاماً) في الحي الشمالي من تادف، طيلة ثمان سنوات سبقت استعادة السيطرة عليها، حياة وصفها بـ “القاسية”، إذ تنعدم في الحي الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية والمياه والكهرباء والصرف الصحي.

لم يكن الحي الشمالي، مسقط رأس إبراهيم، إذ نزح إليه ليسكن بيتاً مدمراً بشكل جزئي لأحد أصدقائه بعد نزوحه من منزله الواقع قرب الجامع الكبير وسط المدينة، والذي يبعد عن مكان إقامته مئات الأمتار، تحرمه من الوصول إليه قوات نظام الأسد التي تمركزت في هذا الجزء من المدينة. تعلّم إبراهيم مهنة إصلاح الببورات (مواقد لطهو الطعام تعمل على الكاز أو المازوت) يمارسها في دكان صغير داخل القسم الشمالي المأهول من المدينة، لتأمين جزء من متطلبات حياة أسرته المكونة من أربعة أفراد.
حالف الحظ أحمد حداد (50 عاماً) الذي يعيش مع أسرته المكونة من 6 أفراد في منزله ضمن الحي الشمالي، كونه لم يخرج منه إلا لبضعة أشهر خلال العمليات العسكرية قبل أن يعود إلى منزله مطلع عام 2018. “منزلي مدمر جزئياً ومحاذ لخطوط التماس، لكنني عدت إليه بسبب ارتفاع الإيجارات في مدينة الباب، كانت الخدمات معدومة لكن قبل أعوام قليلة بدأت تتوفر تدريجياً بعد افتتاح مدرسة وتوفير العيادات المتنقلة”.
أنس الشيخ، أحد سكان الحي الشمالي، شكّل هو الآخر جزء مما تبقى من سوق المدينة، بعد أن فتح بالقرب من دكان إبراهيم محل إنترنت صغير. يقول أنس إنه عمل متطوعاً بجمع إحصائيات أعداد سكان تادف بالتعاون مع مجلس وجهاء وأعيان المدينة (تشكل بمبادرات محلية) بهدف تقديم البيانات للمنظمات الإنسانية لتقديم الدعم الخدماتي في أجزاء المدينة المأهولة بالسكان، كون معظمهم من النازحين.
“بين عامي 2017 و2020 كانت الخدمات في الحي المأهول بتادف معدومة كلياً، لكن خلال السنوات الأربعة التالية استطعنا توفير جزء من الخدمات عبر افتتاح مدرسة ابتدائية، وخلال العام الماضي افتتحت مدرسة للمرحلة الإعدادية بجهود تطوعية”، يقول الشيخ، إن الجهود الخدمية في تادف ضعيفة جداً لأنها كانت خط تماس وتحصل على دعم عبر مجلس محلي مدينة الباب.

غابت الخدمات الأساسية مثل الخبز والكهرباء والماء عن الحي المأهول حتى قبل عامين، إذ استطاع مجلس وجهاء وأعيان تادف توفير الماء من خلال حفر آبار تكفل بها متبرعون من أبناء المدينة، لكنها مياهها مالحة، ولا يمكن استخدامها للشرب ما يضطر السكان لشراء ماء الشرب من مدينة الباب.
الخدمات الصحية والطبية غابت لسنوات أيضاً، قبل أن تجد مناشدات الحي قبل عامين أذناً مصغية من قبل الهلال الأزرق الذي فعّل خدمة العيادة المتنقلة في الحي لمرتين أسبوعياً، كذلك في مجلس محافظة حلب الحرة التابع لوزارة الإدارة المحلية في الحكومة السورية المؤقتة الذي أسهم بتأهيل عيادات المستوصف الصحي التي تعمل أياماً محددة أسبوعياً، بينما يضطر السكان لنقل الحالات الإسعافية الحرجة إلى مستشفيات مدينة الباب.
سوق الحي، يتكون من عدة محال تجارية متفرقة ضمن شارع واحد تصطف إلى جانب محل تصليح ببورات إبراهيم، ومحل انترنت أنس، وتضم متجر محروقات، متجرين للمواد الغذائية وواحد للخضروات، متجر للحوم المجمدة وصيدلية، يوفرون الحاجات الأساسية للسكان بالحدود الدنيا.
عودة تادف إلى أصحابها لم تغيّر من واقع المدينة، لكنها وضعت سكان الحي الشمالي أمام مشكلات جديدة أهمها إخلاء المنازل التي عاشوا فيها خلال السنوات الماضية بطلب من أصحابها، والبحث عن منازل تؤويهم، خاصة وأن منازلهم الأصلية في الأحياء الأخرى من المدينة تعرّضت للدمار الكامل أو الجزئي، وسُرقت منها الأبواب والنوافذ وحتى أسلاك الكهرباء.
خلال جولة في المدينة رفقة إبراهيم حج إبراهيم، وصل إلى منزله الذي وجده متصدعاً، أشار إلى جدران وسقف مهدم، قال إنه منزله. “الدمار في كل مكان، أبواب شبابيك، أسلاك كهربائية، أحجار المطبخ جميعها مسروقة، هكذا وجدت منزلي”، يقول إبراهيم، الذي كان يعمل قبل النزوح من منزله الواقع قرب الجامع الكبير الذي تظهر عليه دمار وتصدعات في جدرانه في متجر مواد غذائية وسط السوق الفوقاني (سوق مسقوف في مدينة تادف)”.
اتجه سيراً على الأقدام من منزله باتجاه الجامع الكبير ومنه إلى السوق الفوقاني الذي لم يتبق منه سوى أكوام من الدمار و بعض الجدران الصامدة، يحدثنا عن محال كانت تعمل في مهن ومجالات متنوعة، يذكر أصحاب محال مدمرة واحداً تلو الآخر، بينهم من فارق الحياة، لكنه عندما وصل إلى متجره وقف ينظر إليه بكل حزن على الأيام التي أمضاها بعيداً عن المكان.
“تخيل 1500 متر فقط كانت تفصلنا عن منزلنا ولا نستطيع الوصول إليه، بينما كانت قوات نظام الأسد تسرق ممتلكاتنا وتنهبها ونحن نبحث عن مكان نعيش فيه” يقول إبراهيم بحزن شديد، مضيفاً، إن المتجر الذي كان يعمل به مع والده يشكل مصدر دخلهم الأساسي، لكن خلال سنوات النزوح اضطر إلى تعلم مهنة تصليح ببورات بهدف التقاط رزقه لإعالة أسرته فتجارة المواد الغذائية تحتاج إلى رأس مال ضخم مقارنة مع معدات مهنته الجديدة.
تبدد حلم عودة إبراهيم رغم تحرير تادف، كل ما تبقى زياراته اليومية إلى منزله السابق، يقول “أي منزل، لا يوجد سوى بضعة جدران قائمة وأخرى مدمرة و متآكلة، نتيجة العوامل الجوية وسنوات الإهمال، وفي حال قررت العودة إلى المنزل ستواجهني مشكلات أخرى تخرج عن استطاعتي مثل الصرف الصحي والمياه والكهرباء”.

أيام قليلة تفصل سامح الحمدو وعائلته المكونة من 12 فرداً عن مغادرة منزل يسكنه منذ نحو 5 سنوات على التوالي في الحي الشمالي. “منزلنا مدمر لا يمكننا العودة إليه، وصاحب المنزل الذي نسكن فيه يريده، إلى الآن لم نستطع تأمين البديل”، يقول الحمدو، البالغ من العمر 23 عاماً ويعيش مع والده وأشقائه في منزل لأحد النازحين من أبناء تادف مضيفاً، إنه من “الصعب ترميم المنزل لأن ضرره تجاوز 90 % ويحتاج إلى تكلفة مالية عالية، ومصادر الدخل المتاحة لديهم ضعيفة جداً وبالكاد تغطي احتياجات المعيشة”.
تنعدم فرصة العودة إلى منزل الحمدو وعائلته، بينما يبحث والده عن منزل بديل يمكن الإقامة فيه، قد يستقر الحال بهم ضمن أحياء محررة حديثاً في حال وافق أحدهم على منحهم منزله للسكن فيه.
اقتصرت جهود تطوعية لأبناء تادف بعد تحريرها على ترحيل الركام والسواتر الترابية من الشوارع تمهيداً لافتتاحها، بالتنسيق مع المجلس المحلي في مدينة الباب، بينما فككت فرق الدفاع المدني الألغام في الشوارع، وما تزال نسبة كبيرة من المنازل والأراضي الزراعية المحيطة مزروعة بالألغام، ما يعرقل عودة النازحين إلى منازلهم.
أمام هذا الواقع يجد أهالي تادف أنفسهم في ظروف قاسية، فلا هم قادرون على إعادة إحياء مدينتهم ولا هم قادرون على استمرار رحلة النزوح، ما اضطر عائلات إلى إغلاق أبواب ونوافذ منازلهم المسروقة ببقايا الركام على أمل العودة يوماً ما من رحلة نزوح قد يطول أمدها مجدداً.