استقرّت أسعار المواد التموينية والمستوردة في مناطق شمال غربي سوريا (محافظتي إدلب وحلب)، بعد ارتفاع مضطرب، لا يمكن قياسه لاختلافه بين محل وآخر ومنطقة وأخرى، عقب إصدار نشرة معدّلة من الرسوم الجمركية شملت آلاف المواد، ترافقت بزيادة رآها تجّار ومواطنون عبئاً جديداً على حياة السكان المعيشية، بينما برّرها المسؤولون عن إصدارها بـ “الضرورية” لدعم الناتج المحلي وتحقيق التوازن في أسعار السلع بين المحافظات ورفد خزينة الدولة.
الاستقرار في الأسعار لم يأت نتيجة لتعديل النشرة الجديدة، بحسب مطالب سكان وتجّار، لكنه جاء بعد ثبات السعر الجديد وتوقف حملة ارتفاع الأسعار العشوائية التي تزامنت مع إصدار النشرة، إذ سجّلت مواد تموينية زيادة سعرية تراوحت بين ليرة تركية واحدة على مواد مثل كيلوغرام السكّر، وليرتين تركيتين على كل كيلو غرام من الطحين ، وثلاث ليرات على كل كيلو غرام من الأرز، أربع ليرات على كل عبوة معلبات، وبين ليرة وليرتين على كل كيلو غرام من قشور التدفئة، أما الزيوت والسمن فسجّلت ارتفاعاً في السوق بمعدل 10 ليرات تركية لكل لتر، والشاي الأسود بمعدل 15 ليرة لكل كيلو غرام، ليبقى “الفروج” أكثر المواد التي سجّلت ارتفاعاً بمعدّل الضعف تقريباً عن كل كيلوغرام واحد.
النشرة الجديدة للأسعار صدرت في 11 كانون الثاني الحالي بموجب قرار من الإدارة العامة للجمارك والمنافذ البرية والبحرية، التابعة لحكومة تسيير الأعمال السورية، والقاضي بتوحيد التعرفة الجمركية للبضائع، عبر المعابر والمنافذ السورية كافة.
وكانت مواقع وصحف إخبارية قد تداولت يوم أمس الاثنين، 27 كانون الثاني 2025، تصريحات منسوبة لوزير الخارجية التركي، عمر بولات، حول تخفيض الرسوم الجمركية على 269 منتجاً تركياً إلى سوريا، الأمر الذي نفاه مازن علوش، مدير العلاقات في المنافذ البرية والبحرية السورية، مؤكداً عدم وجود أي تغييرات في الرسوم الجمركية على المنتجات التركية.
لدراسة التعرفة الجمركية الجديدة قسمناها إلى ثلاثة أقسام، بحسب الأكثر استخداماً وأهمية لحياة المواطن، ثم الأقل أهمية، وصولاً إلى المواد التي تهمّ أشخاصاً أو صناعات محددة من مواد أولية وآلات وقطع تبديل وضمنّاها أيضاً موادّ نادرة الاستخدام في المنطقة.
تضم اللائحة الجمركية الجديدة 6345 صنفاً، يشمل القسم الأول منها المواد المستوردة الاستهلاكية والضرورية للحياة اليومية، مثل المواد التموينية (الزيت، السكر، الأرز، السمن، الشاي، المنظفات وغيرها من المواد المستهلكة) وتشكّل نسبة 3,5% من المواد التي زادت تعرفتها الجمركية بواقع 210 مادة.
يدخل في القسم الثاني موادّ البناء ومستوردات أخرى مثل الأسماك، اللحوم المجمدة، العصائر والمشروبات وغيرها من المواد التي تشكل 12,6% من قائمة اللائحة الصادرة بواقع 800 مادة. أما القسم الأكبر فيشمل موادّ متنوعة من التحف والإكسسوارت والمواد الكيميائية والآلات والأجهزة الكهربائية ويشكل نسبة 83,9% من القائمة بواقع 5335 مادة.
وتراوحت نسبة زيادة التعرفة الجمركية بين 10 إلى 500%، وتوضح دراسة التعرفة وأرقامها أن الارتفاع جاء بنسب تتوافق أيضاً من حيث الأهمية، وفق الشرائح التي قسمناها، إذ طال هذا الارتفاع قسماً من المواد وليس جميعها، فـ الزيادة على مادة السكّر، على سبيل المثال، بلغت ليرة تركية واحدة عن كل كيلوغرام، وفي الطحين وصلت إلى ليرة ونصف الليرة، الشاي الأسود نحو 10 ليرات تركية، الزيوت والسمن المهدرج نحو 12 ليرة تركية، هذه الزيادة تراوحت بين ضعف واحد إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه في النشرة الجمركية القديمة.
الاسمنت زاد 17 دولاراً نحو (600 ليرة تركية) للطن الواحد، أما الرسوم على الحديد فبلغت 60 دولاراً (2145 ليرة تركية) لكل طن واحد، الأجهزة الكهربائية المستعملة حددت فيها الزيادة بدولار واحد (نحو 35 ليرة تركية) لكل واحد كيلو غرام، وارتفعت الرسوم فيها من 20 دولاراً إلى 1000 دولار للطن الواحد.
أثّرت الرسوم الجديدة على أسعار المواد في محافظتي إدلب وحلب، خاصة خلال الأيام الأولى من إعلانها، يرجع من تحدّثنا معهم من تجار ومواطنين ذلك إلى ثلاثة أسباب “الزيادة غير المنطقية في وقت يرونه غير مناسب بعد سنوات من الحرب والبطالة والفقر يعيشه معظم السكان في المنطقة، احتكار التجار والفوضى التي تسببت بها الرسوم الجديدة في تفاوت الأسعار واستغلال الظرف، ضعف الرقابة التموينية وتأخر إصدار نشرات تحدّد الأسعار وتعاقب مستغلي القرار”.
ومع تحميل المسؤولية من قبل من التقيناهم من مواطنين للرسوم الجديدة والتجار، لكن النسبة الأكبر حمّلت حكومة تصريف الأعمال المسؤولية الأكبر، إذ عبّر مواطنون عن سخطهم وعدم رضاهم عن القرارات الصادرة التي وصفوها بـ “غير المدروسة”، والتي لا تراعي متوسط دخل المواطن والبطالة وسنوات الحرب، خاصة وأنها أتت عقب “فرحتهم بانتصار الثورة”، واصفين ما يحدث بـ “الغصة” التي أفقدتهم “مشاعر السعادة والأمل بتحسن ظروفهم المعيشية”.
تجّار في إدلب أيضاً عبّروا عن عدم رضاهم عن القرارات الجديدة، ما دفعهم “لإغلاق محلاتهم”، خاصة في المدن الكبيرة مثل إدلب المدينة والدانا سرمدا، كما شهدت الأسواق، بحسب أصحاب محلات لم يشاركوا أقرانهم في الإغلاق، تراجعاً في البيع والشراء، الأمر الذي دفع تجّار ومواطنون للإضراب والتظاهر، مطالبين الحكومة بضرورة التراجع عن القرار، لكن دون جدوى.
من تحدثنا معهم من المشاركين في الإضراب رأوا في القرار “إجحافاً” بحق السوريين الذين يحتالون على حياتهم لتأمين لقمة عيش خالية حتى من “الفروج واللحم والفاكهة”، ويمثل أولئك أكثر من 85% من سكان إدلب، على حدّ قولهم الذي يتوافق مع إحصائيات منسقو استجابة سوريا الذين أوردوا أن 89% من سكان الشمال السوري يعيشون تحت خط الفقر.
آخرون تحدّثوا عن زيادة سعرية على المواد المباعة في الأسواق، فـ “التجار وأصحاب المحلات لا يتأثرون، يضيفون أرباحهم على الأسعار الجديدة ويبيعونها للمواطن”، الأمر الذي رفضه تجّار أخبرونا عن “خسائر مالية كبيرة طالتهم بسبب الأسعار الجديدة، إضافة لكساد بضائع اتفقوا على استيرادها، خاصة مع ما سيخلفه ذلك من ضعف في القدرة الشرائية لدى المواطنين”.
أبو سعيد يملك شركة تجارية تستورد المواد التموينية في سرمدا قال إن التعرفة الجمركية رفعت أسعار المواد بنحو “الثلث”، وإن لم تتراجع الحكومة عن قرارها فسيتوقف أو يقلّ الاستيراد، علماً أن دوران عجلة الإنتاج المحلي شبه متوقفة، ولا يمكن الاعتماد عليها.
مهنّد العلي، يملك محلّ بيع بالجملة في أريحا بريف إدلب، قال إن الزيادة تسببت في تراجع قدرة السكان على الشراء، إذ “ربما يبدو الارتفاع بليرة أو ليرتين قليلاً لكنه يمثل رقماً عند العائلات، كذلك سيزيد أسعار كل شيء من إيجار المنازل، وحتى الخضار، خاصة مع ارتفاع الوقود، علف الحيوانات، الأسمدة وغيرها من الأشياء التي تدخل في الزراعة والصناعة”.
نور المصطفى، مدرسة وأم لطفلين، عبّرت عن غضبها وتساءلت إن كان من أصدر القرار “درس متطلبات عائلة يوماً ما”، وأوضحت أنها ومن خلال اطّلاعها على استجابة “الدول في الأزمات، تعفى المواد من الرسوم الجمركية ولا تزيد، سوريا اليوم تحت الصفر في كل شيء، والأولى أن يصدر قراراً بإعفاء جميع المواد من الرسوم لا زيادتها، خاصة مع توقف الدعم الأممي أو قلّته، وغياب الدعم الحكومي بالكامل”.
تضيف نور أن الأمر لا يتعلّق فقط بارتفاع الرسوم بل بـ “احتكار التجار”، ففي الأيام الأولى، ومع إضراب قسم من المحلات، استغلّ القسم الآخر الواقع العام وبدأ بالبيع على “هواه”، دون تسعيرة محددة، “اشتريت السكّر بثلاثين ليرة تركية، أي بزيادة ثلاث ليرات عن سعره الحالي، والطحين بعشرين ليرة تركية، أي بزيادة خمس ليرات عن سعره، ويمكن أن تقيس المواد الأخرى بالميزان ذاته”.
مقابل الشارع المعترض على القرار وردت تطمينات متفرقة على لسان مسؤولين في الجمارك ووزارة الاقتصاد، نفت ما قالت إنه “مزاعم الأثر السلبي على السلع”، وأن للقرار فوائد اقتصادية تصب في صالح المواطن، منها ما ورد على لسان إياد نجار مسؤول العلاقات العامة في وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، والذي قال: “إن معبر باب الهوى كان يعتمد التعرفة الصفرية، كون الشمال السوري يفتقر للمصانع والإنتاج المحلي ضعيف، ولا يعتبر مصدراً يعتمد عليه في تأمين المواد اللازمة لحاجة المواطن”. كما وصف موجة ارتفاع الأسعار بأنها “حالة مؤقتة ريثما تعود لتستقر عند حدودها المنطقية خلال فترة وجيزة”.
كذلك برر مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية مازن علوش القرار، بأنه أتى “دعماً للقطاع الصناعي وتعزيز جذب الاستثمار، حيث تضمن إعفاءات للمستثمرين وأصحاب المعامل الذين اضطروا لإخراج آلات مصانعهم خارج القطر لظروف الحرب، كذلك الراغبين بإنشاء معامل جديدة”، وبين العلوش أن ” النشرة قلصت الرسوم الجمركية بنسب تتراوح بين 50- 60 بالمئة عن المنافذ الجمركية الأخرى سابقاً، إبان حكومة الأسد” ما “سيعزز القدرة الاستهللاكية للمواطن، ويرفع مستوى المعيشة في المستقبل القريب”.
تصريحات العلوش وزملائه تركت أثراً متباينا لدى من تحدثنا معهم، إذ انتقد عبد الحكيم النعسان، تاجر ومستورد لحديد البناء في مدينة الدانا بريف إدلب الشمالي، هذه التصريحات، خاصة وأن “الإنتاج المحلي ما يزال ضعيفاً، وشبه معدوم بعد سنوات الحرب، وأن أغلب المصانع وأصحابها هاجروا إلى الخارج، كذلك القطاع الزراعي ليس بحال أفضل”.
وأضاف النعسان “كان الأولى بالحكومة تحسين واقع الإنتاج بداية، عبر منح تسهيلات جمركية وتراخيص وغيرها، مخصصة لهذا الجانب، وعدم التعامل مع الصادرات والواردات ككتلة واحدة”. وبرر ذلك الرأي بحاجة الاقتصاد السوري لفترة تعافٍ وعندها يتحسن دخل المواطن وقدرته الشرائية. “مكانك راوح”، يقول أحد المحتجين على الزيادة السعرية في مدينة الدانا، ثم يجيب نفسه بنفسه “ليس ذلك صحيحاً، بل إلى الوراء درّ، توقعنا أن تتحسن حياتنا لا أن تسوء”.
لم تجب الإدارة العامة للجمارك والمنافذ البرية والبحرية، كذلك وزارة الاقتصاد، عن استفسارات نقلناها من السكان على شكل أسئلة لتبرير ما يحدث، وتهدئة المعترضين على النشرة الجديدة، حتى تاريخ نشر هذا التقرير.