يتوقف صخب الحياة في شوارع وأسواق مدينة منبج بريف حلب الشرقي مع غروب الشمس، يلملم أصحاب محلّات وبسطات في المدينة، التي استعادت قوات عملية “فجر الحرية” السيطرة عليها قبل شهر ونيف، أرزاقهم وبضائعهم، يهرول سكان بعد قضاء حوائجهم إلى منازلهم، يغلقونها بإحكام قبل أن تبدأ ساعات الليل “المظلمة”، خشية تعرضهم لعمليات نهب أو تشليح تفرضها قوة السلاح المنتشر في طرقاتها.
منبج التي كانت لسنوات مضت خاضعة لسيطرة قوات قسد استعادت فصائل الجيش الوطني السيطرة عليها منذ الثامن من كانون الأول الماضي، لتتمركز قسد على ضفة نهر الفرات شرقي المدينة بنحو 25 كيلومتراً، ما تزال تشهد حالة من الفوضى الأمنية والعسكرية والإدارية، تغيب فيها الشرطة المدنية ويقتصر الوجود العسكري فيها على وحدات من شرطة جرابلس القريبة، خلال ساعات النهار فقط، وعناصر من فصائل الجيش الوطني بزيهم العسكري يجوبون الشوارع، يقضون حوائجهم مثل باقي سكان المدنية، ثم يعودون إلى مقراتهم العسكرية، أو يلتحقون بـ الحواجز المنتشرة على مداخل منبج.
ساعات الليل في منبج تحمل فوضى أمنية وعمليات سلب، سواء في داخل أحيائها أو على الطرق الواصلة بين قرى وبلدات تتبع لها، يترافق ذلك مع قطع للطرقات أمام حركة السكان واقتحامات ليلية تنسب لمجهولين لم تكشف هوياتهم، يقول سكان في المدينة تحدثنا إليهم واصفين مدينتهم بـ “غير المستقرة”، الأمر الذي دفع متطوعون منهم إلى الخروج في دوريات ليلية لحماية أحيائهم ريثما تجد “السلطات المحلية” حلاً لما وصفوه بـ “الخلل الأمني والحدّ من عمليات السرقة والسلاح المنتشر بين أشخاص من المدنيين والعسكريين على حد سواء”.

“ليلنا مظلم ومخيف بسبب عدم توفر الكهرباء ونحتاج إلى ضبط الأمن في منبج وفرض الاستقرار” يقول الخمسيني أبو عمر، وهو يجلس أمام متجره لبيع المواد الغذائية قرب الساحة العامة التي تحولت إلى كراج للسيارات الخاصة وسيارات الأجرة. الفرح بعودة المدينة إلى أبنائها يشوبه خوف من الفلتان الأمني الحاصل فيها، ما ترك آثاراً وصفها أبو عمر بـ “المقيتة على حياتهم لا سيما خلال ساعات الليل الطويلة”، بعكس ساعات النهار التي تضج بالناس والأسواق العامرة.
يحدثنا أبو عمر عن تعرّض قريب له، قبل أسبوع، إلى عملية “تشليح”، يقول “طرق باب منزله ملثمون مسلحون، وطلبوا منه تفتيش المنزل لدواع أمنية، بعد دخولهم أشهروا السلاح في وجهه وسلبوه ماله بقوة السلاح، لم يكونوا سوى مجموعة من اللصوص”. “لا يمكن تحديد جهة معينة تقوم بعمليات سلب الأهالي لأن هناك عناصر من قسد تركوا سلاحهم ودخلوا بين المدنيين، وآخرين من أصحاب السوابق خرجوا من السجون، إضافة لعناصر الفصائل”، يقول أبو عمر بحذر وتردد شديدين في محاولة منه للابتعاد عن خطر الحديث والكشف عن هويته.
الجميع في المدينة يقضي حوائجه في النهار على وجه السرعة، أما الليل وإن جبر الأشخاص على الخروج لأمر طارئ، فقد يكونوا عرضة للسلب، وهو ما شهده الحي الذي يسكنه أبو عمر مراراً، إذ سُرق أكثر من رجل في الحي، سلبت هواتفهم المحمولة وما يحملونه من نقود تحت تهديد السلاح، يقول: “الأيام الأولى لدخول الجيش الوطني إلى مدينة منبج كانت الأشد صعوبة بالنسبة للأهالي بسبب تكرار حوادث السلب والسرقة التي طالت ممتلكات عامة وخاصة من بينها سيارات ودراجات نارية وماشية”.

لم تقتصر عمليات السلب على أحياء منبج فقط بل تعدتّها إلى الطرقات الفرعية والزراعية الواصلة إلى القرى والبلدات المحيطة بالمدينة، إذ تكررت حالات سلب سيارات وأموال وممتلكات شخصية لأفراد مدنيين من قبل أشخاص استغلوا الفوضى الأمنية الحالية.
تبعد قرية أبو محمود (45 عاماً) نحو 30 كيلومتراً عن مدينة منبج التي يعمل فيها على بسطة لألبسة “البالة” بالقرب من ساحة الساعة التي تحوّلت إلى ما يشبه سوق البسطات يضم أشخاصاً من قرى وبلدات متنوعة يسعون لكسب رزقهم. بحذر يخرج أبو محمود يومياً متجنباً الطرق الفرعية والزراعية ليصل إلى منبج، يحسب وقت غياب الشمس ليغادر قبله بنحو ساعة خوفاً من الرحلة التي تستغرق نحو 45 دقيقة، والكثير من المخاطر.
يقول “اضطررنا للخروج من منازلنا أثناء الاشتباكات والقصف المتبادل بين قسد والجيش الوطني لكن منازلنا تعرضت للنهب والسرقة بشكل واسع بعد عودتنا”، ويضيف أن عمليات السرقة طالت الأدوات الكهربائية وعفش المنازل ولم تستثن حتى المؤن في المطابخ، لكنها قلّت أخيراً بعد عودة السكان إلى منازلهم.
بصوت خافت يتحدث عن الطريق الواصل بين قريته التي يسكنها ومدينة منبج والذي شهد حالات سلب لسيارات ودراجات نارية تعود ملكيتها لأشخاص مدنيون، “يقطع الطريق أشخاص ملثمون يرفعون السلاح وينزلون السائق ويأخذون السيارة وممتلكاته الشخصية”، يقول أبو محمود. فوضى الأمن على الطرقات وقطاع الطرق الذين يخرجون عليها شكّلت هاجساً لدى الأهالي، عطّلت حياتهم وقللت من ساعات عملهم وسط ظروف معيشية قاسية.

الممتلكات العامة لم تسلم هي الأخرى من النهب والسرقة، إذ تعرّضت مؤسسات ومرافق عامة للسلب، من قبل مدنيين وعسكريين، 13 سيارة إسعاف من المستشفى الوطني، معدّات طبية من المستشفى العسكري ومستشفى الرابطة الذي تحوّل إلى مقر عسكري، دوائر حكومية ومراكز تخزين لا سيما مستودعات الطحين والخميرة، محطات الوقود العامة، آليات البلدية، مؤسسة المياه، مؤسسة الكهرباء، الفرن الآلي، ما تسبب في توقف الخدمات لأيام قبل استئنافها بنصف طاقتها المعتادة في الوقت الحالي، وغير ذلك الكثير من المفقودات التي أثّرت على سير الخدمات في المدينة.
يقول عبد المنعم أبو ثائر، مسؤول الإدارة المدنية في مدينة منبج (شكلها الأهالي لإدارة الشؤون الخدمية)، إن المدينة شهدت تعديات على الممتلكات العامة والخاصة تحت ذريعة أنها أموال تعود لقوات “قسد”، لكن استمرار الفوضى يعود إلى “تشرذم وتعدد القوى العسكرية وعدم وجود مرجعية عسكرية وأمنية موحدة في منبج”.
الإدارة المدنية في منبج بالتعاون مع الأهالي اتخذت تدابير أمنية عبر تشكيل لجان أهلية تطوعية من الأحياء والقرى مهمتها حراسة الأهالي والممتلكات العامة والخاصة ليلًا، بينما اعتمد التجار في الأسواق الرئيسة مجموعات حراسة ليلية يدفعون رواتبهم من أموالهم الخاصة، بسبب غياب دور شرطة جرابلس ليلاً.

في المقابل، وجهت الإدارة المدنية نداءات إلى أهالي منبج والفصائل العسكرية إلى رد الممتلكات العامة إلى المؤسسات والدوائر الحكومية لإعادة تفعيلها ضمن القطاعات الخدمية التي تعود بالنفع على جميع السكان، إلا أن الاستجابة كانت محدودة مقارنة مع حجم الممتلكات العامة المسروقة.
وتشرف الإدارة المدنية في منبج على إدارة الشؤون الخدمية والتواصل مع الجهات الفاعلة لتأمين الدعم بهدف تقديم الخدمات الضرورية للسكان إلا أنها تواجه صعوبات عديدة بسبب الفوضى الأمنية المستمرة، فيما يربطها اتصال مع محافظة حلب دون تدخل إداري يذكر لتوجيه الإدارة الخدمية والأمنية في المدينة.
لا يخفي أهالي منبج مطالبهم من السلطات السورية (حكومة تصريف الأعمال) في فرض الأمن والاستقرار من خلال منع الأفراد من حمل السلاح بين الأحياء السكنية والأسواق وعلى الطرقات العامة إلا بمهام عسكرية، وهوية واضحة، للحد من استغلال الظروف الأمنية السيئة في السرقة والسلب، موجهين نداءات لإيجاد حلول حقيقية تضمن حياة سكان المدنية والحفاظ على أرزاقهم.