فيما يتعرج الطريق بك بين قرى ريف إدلب، لا تخطئ عينك التمييز بين قرية احترقت ومدينة دمرت أو قصفت أو نُهبت. استهدفت كل المنازل، على مدار سنوات ومع تبادل السيطرة بين المعارضة وفصائلها من جهة، والنظام وحلفائه من جهة أخرى. لم تستثنِ الطائرات الحربية السورية والروسية أي بناء هنا، حتى لو كان متواضعاً، وأياً كان سكانه الذين نزحوا شمالاً لأكثر من مرة أثناء المعارك التي أجبرتهم على الفرار، فهل بدأ الآن موسم العودة جنوباً بعد سقوط نظام الأسد في سوريا؟
يصل عادل الحمود إلى مدينته “كفرنبل” بعد رحلة شاقة ومكلفة من مخيمه في شمالي إدلب إلى منزله، يتفقد ما تبقى منه، هو سعيد لأن سقف المنزل ما يزال في مكانه على عكس منازل أخرى محيطة به، سُرقت نوافذها وأبوابها ودمرت جدرانها، لكنه وأياً كان وضعه الحالي، يرى أنه سيكون أفضل من الخيمة التي كان يسكنها شمالاً، حيث كان يعيش مع تسعة من أفراد عائلته، يقول لنا وهو يرفع بعض الركام عن الأرض، ويتأمل الجدران ويلمسها.

تنشغل العائلة فور وصولها إلى المنزل باستخدام البطانيات لتغطية النوافذ، وترميم الجدران ببعض الأخشاب والأحجار. يفحص الحمود وصلات المياه والصرف الصحي وتمديدات الكهرباء، عسى أن يكون ما تبقى منها صالحاً للاستخدام، يتنهد وهو يقدر تكاليف إعادة تأهيل المنزل قائلاً: “ملايين.. أحتاج للملايين” فيما لا يخطر بباله أن يعرض المنزل على مهندس كي ينصحه بإمكانية ترميمه أم هدمه كاملاً بعد.
ركام فقط
تمكن الحمود من العودة، لكن عائشة الهزاع، التي ما تزال تقيم في مخيم بشمالي إدلب، وقد نزحت قبل سنوات من خان شيخون، غير قادرة على السكن من جديد في مدينتها، “حتى القضبان الحديدية سُرقت من السقف، وأسلاك الكهرباء والنوافذ والأبواب.. لا شيء بقي في المنزل”.

تجول حول الركام، لا شيء لتتفقده، لكنها تحاول علها تجد أي إشارة تقول لها إن المنزل ما يزال صالحاً للسكن. رغم أن المشهد كافٍ لتقديم الإجابة، كانت تعلم أن المنزل متضرر، فقد أخبرها جيران ومعارف أن القصف طاله وطال الحي كله، لكنها وإن لم ترَ بنفسها، لم تكن لتصدق. نسألها: “إن كنت تعرفين حال المنزل، فلمَ أتيت؟” تقول: “أريد أن أراه بعيني” لا تخفي السيدة الثلاثينية أنها كانت تعتقد أن ناقلي الأخبار لها ربما بالغوا في وصف وضع المنزل.
طوال سنوات، وبعد أن أعادت قوات النظام السيطرة على خان شيخون في شهر آب/أغسطس 2019، تحدث حقوقيون سوريون عن عمليات نهب واسعة طالت منازل المدينة، التي سبق أن تعرضت لهجوم بالأسلحة الكيماوية في 4 نيسان/أبريل 2017.
تترك الهزاع منزلها وحيها لتعود إلى المخيم، حيث يعمل أطفالها منذ سنوات في مهن شاقة ومتدنية لتأمين قوت يومهم، فهذا حالهم منذ قضى زوجها قبل سنوات متأثراً بإصابته في عملية قصف، لا تنطق بكلمة أثناء مغادرتها ولا تملك أدنى فكرة عن موعد محتمل للعودة إلى منزلها أو إلى بلدتها.
المحظوظ بلا ألغام
نظرياً، بات بإمكان أكثر من مليوني نازح سوري في الشمال العودة إلى المدن والقرى التي هجروا منها، بينما تقول أرقام فريق “منسقو استجابة سوريا” إنهم مازالوا يقطنون اليوم في 1833 مخيماً في ظروف صحية ومعيشية سيئة. الوضع الاقتصادي العام في البلاد، والظروف الخاصة التي عاشها النازحون، لا تشي بقرب عودتهم، و قدّرت الأمم المتحدة في تقرير نشرته في التاسع من كانون الثاني /يناير الحالي أن 15 مليون شخص في سوريا يحتاجون إلى دعم صحي إنساني وما زال ما يقرب 13 مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد.

فؤاد الدياب، الذي زار منزله في مدينة سراقب أيضاً، كان محظوظاً على عكس غيره، ليس لأن المنزل سليم، فهذا طلب مستحيل في سراقب، بل لأنه انتبه إلى وجود قذيفة غير منفجرة في المنزل، أبعد أطفاله عنها واتصل بالدفاع المدني السوري، الذي عمل على تفكيكها، فنجا من الموت أو الإصابة، يقول لنا: “لا أعلم كيف شاهدتها وسط الركام، كنت مندفعاً لتفقد ما تبقى من المنزل حين شاهدتها، أعتقد أن عيني باتت تميز القذائف، لقد عشنا معها سنوات الآن”.
نجا الدياب مع عائلته من إصابة أو موت، على عكس اثني عشر مدنياً آخرين أصيبوا أو قتلوا في مناطق من حلب وحماة وإدلب، وفق ما أعلن الدفاع المدني السوري، حيث شهد يوم واحد فقط، هو الثاني عشر من كانون الأول، إصابة 12 شخصاً، بينهم 9 أطفال، في أربعة حوادث لانفجار مخلفات الحرب، المنظمة حذرت من تصاعد خطر انفجار مخلفات الحرب مع عودة السكان لتفقد منازلهم مع تلاشي خطوط التماس.

وكان منسقو استجابة سوريا قد وثقوا مقتل 109 أشخاص بينهم 9 أطفال و 6 نساء، وإصابة أكثر من 121 آخرين بينهم 48 طفلا وامرأة بسبب انفجار الألغام والذخائر العنقودية، في 108 موقعاً بسوريا في الفترة الممتدة بين 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وحتى 10 كانون الثاني/ يناير 2025.
لا عودة قريباً
حتى وإن كانت المنازل سليمة أو صالحة للسكن، فإن الكثير من مقومات الحياة ليست كذلك، الخدمات الأساسية مفقودة ومتضررة، ولا توجد بنية تحتية تخدم القرى والبلدات، وحتى الطرقات الرئيسة بحاجة إلى الكثير من أعمال الصيانة.
وفقاً دراسة صادرة عن البنك الدولي في عام 2023 ، تقدّر تكلفة إعادة الإعمار في سوريا بين 250 إلى 300 مليار دولار، كما تقدّر عدد المباني المهدمة بنحو 210 ألف وحدة سكنية مدّمرة بشكل كامل أو جزئي، مع دمار واسع طال المنشآت الصحية والتعليمية والخدمات العامة.

لكن مدير الدفاع المدني السوري، رائد الصالح، يقول إنه لا يمكن تحديد التكلفة المتوقعة لعملية إعادة إعمار المنازل المدمرة في شمال وشمال غرب سوريا، ويشرح لنا أن المنظمة لا تزال في مرحلة التقييم الآن، وهي تدرس حجم الدمار وتكاليفه، مشيراً إلى أن الإجابة على سؤال “متى يعود السكان؟” ليست متاحة الآن.
مع انهيار شبكات الصرف الصحي، يؤكد عضو المجلس المحلي في مدينة معرة النعمان، أحمد الذكرى، بأن المناشدات مستمرة لبدء تأهيل عدد كبير من المرافق العامة في المدينة. “طول فترة سيطرة النظام على المدينة في آخر خمس سنوات، لم يُرمم أي شيء. كانت المدينة أشبه بمدينة أشباح رغم سيطرته عليها، لم يصلح حتى أي طريق، فقط تمثال لحافظ الأسد هو ما أعلن عن إعادته قبل أيام من سقوطه في مدينة خان شيخون مثلاً”.

يضيف الذكرى: “إن عملية العودة الكاملة للنازحين قد تستغرق وقتاً طويلاً، حيث يشكل ترميم منازلهم وممتلكاتهم تحدياً لهؤلاء النازحين، الذين استنزفت مواردهم المادية مع بقائهم خارج أراضيهم وأملاكهم لسنوات، علماً أن إعادة إعمار منازلهم التي هُدمت بشكل كامل في معظمها، تحتاج مبالغ كبيرة معظم السكان غير قادرين على تأمينها حالياً”.