ينذر توقف الدعم المادي واللوجستي للمستشفى الوطني، في مدينة منبج بريف حلب الشرقي، بخطر حرمان مئات آلاف المرضى المستفيدين، خاصة مرضى غسيل الكلية، من العلاج وتعريض حياتهم للخطر، أو دفع مبالغ مالية كبيرة لا يمتلكونها للوصول إلى العلاج في المستشفيات الخاصة أو المستشفيات العامة في مدن مجاورة.
انقطاع الكهرباء عن المستشفى، وعدم وجود جهة حكومية أو غير حكومية تتكفل بتغطية التكلفة التشغيلية لتوفير الكهرباء عبر المولدة أبرز الصعوبات التي تواجه المستشفى المجاني الوحيد في المدينة.
خدمة الكهرباء توقّفت عن المستشفى منذ سيطرة الجيش الوطني على منبج في 8 كانون الأول 2024 في إطار عملية فجر الحرية، وخروج قوات قسد منها إلى ضفاف نهر الفرات (نحو 25 كيلو متراً عن منبج)، و وصول الاشتباكات إلى سدّ تشرين الذي يغذّي المدينة ومرافقها العامة بالكهرباء.
يقول الطبيب أمين المشهد، مدير المستشفى الوطني وعضو الإدارة المدنية في منبج، إن انقطاع الكهرباء وانعدام الموارد لتشغيل المولدات الكهربائية الاحتياطية للمستشفى، وارتفاع أسعار المحروقات وصعوبة دخولها من شرقي الفرات ساهم في زيادة الأعباء على إدارته لتأمين التكلفة التشغيلية واستمرار المستشفى بالعمل.
داخل المستشفى الوطني في منبج يمكن وصف الخدمات بـ “السيئة”، في ظل ضعف “الخدمات ونقص المعدّات والأسرة وغياب التدفئة، إضافة لنقص الكهرباء وقلة المحروقات ما يحول دون وصول كهرباء بديلة للمستشفى”.

الطبيب أمين المشهد قال إنه وفي الوقت الحالي “تعتمد المستشفى لتوفير الكهرباء على مولدة تستهلك يومياً نحو ألف لتر من مادة المازوت، (متوسط سعر لتر المازوت في المنطقة نحو دولار واحد) لا تقدّمها أي جهة ما يعرض المستشفى لخطر التوقف بين لحظة وأخرى”.
ويضيف “يرتبط عمل المستشفى بالكهرباء، وبدونها لا يمكن العمل، فجميع الأجهزة الطبية تتوقف ولا يمكن الاستغناء عنها. حالياً، نعمل على تأمين المازوت كل يوم بيومه من خلال علاقات عامة وتبرعات شخصية دون وجود أي جهة رسمية تتبنى تغطية هذه التكلفة”.
الطبيب أمين قال إن تأمين التكلفة التشغيلية للمولدة ليس حلّاً جذرياً، خاصة مع احتمال تعرّضها للأعطال في أي وقت، وتوقفها عن العمل للصيانة، ما يجعل الحاجة لوصول الكهرباء أو وجود مولدة بديلة ضرورة لاستمرار العمل.
ولا يتوقف الأمر عند الكهرباء، إذ تبدو معدّات المستشفى وأجهزته الطبية، كذلك بناؤه متهالكاً ويحتاج للصيانة، يضاف إلى ذلك حاجة المستشفى لسيارات إسعاف بعد أن سرقت جهة وصفها الطبيب أمين بـ “المجهولة” 13 سيارة إسعاف من أصل 14 كانت موجودة في الخدمة، ما يضطر أهالي المدينة لنقل المرضى بسياراتهم الخاصة أو في سيارات أجرة.
ويعدّ المستشفى الوطني اليوم، المستشفى المجاني الوحيد في منبج إثر توقف كل من المستشفى العسكري ومستشفى الرابطة في المدينة بعد تعرّضهما للسرقة والنهب من قبل “فصائل الجيش الوطني”، بحسب من تحدثنا معهم في المدينة، إضافة لست مستشفيات خاصة تقدم الخدمات الطبية مقابل مبالغ مالية في منطقة يسكنها أكثر من مليون شخص، من أبناء المنطقة والوافدين، إذ يقدّر عدد سكانها، حسب إحصائية 2004، بأكثر من 600 ألف نسمة.
يقدّم المستشفى الوطني اليوم خدمات متقطعة، بحسب ما يتوفر من أجهزة وموادّ، إذ يستقبل المعاينات الطبية في أقسام العيادات (الداخلية، العصبية، النسائية، الداخلية العصبية، العظمية، الأذن والحنجرة، الأطفال، الكلية، النسائية والتوليد، الأطفال، الإسعاف، الجراحة العامة، العناية المشددة).
الخطر الأكبر يمكن مشاهدته في قسم الكلية، أهم أقسام المستشفى الوطني الذي توقف عن العمل لعدة أيام قبل أن يعود لاستقبال المرضى بعد توفّر مادة المازوت لتشغيل المولدة، إذ يستقبل قسم الكلية نحو 78 مريضاً (جلستان أسبوعياً لكل مريض)، ولا يوجد في المنطقة أي مستشفى آخر لاستقبالهم.

على سرير ضمن غرفة غسيل الكلى في المستشفى الوطني، رفقة عشرة مرضى آخرين، يستلقي جمعة الداوود (44 عاماً، من قرية سجدة صغير بريف منبج) إلى جانبه زوجته ريثما تنتهي عملية الغسيل التي اقتصرت على ساعتين عوضاً عن ثلاثة بسبب أعطال المولدة.
يقول الداوود الذي يشكو من مرض الكلى منذ أكثر من 17 عاماً “فتحت الممرضة وريد يدي اليسرى قبل تشغيل جهاز غسيل الكلى لوصل أنابيب انتقال الدم إلا أن الكهرباء انقطعت لأكثر من ربع ساعة بسبب عطل صغير في المولدة”.
ويضيف “أعادت الممرضة فتح وريد في يدي مجدداً بعد عودة الكهرباء، شعرت بآلام حادة وصبغ مرفقي باللون الأزرق، لكن ذلك أقل خطراً من توقف الكهرباء خلال مرحلة الغسيل أو انقطاعها بالكامل”.
يقصد الداوود المستشفى الوطني قادماً من قريته سجدة صغير التي تبعد نحو نصف ساعة عن مركز مدينة منبج مرتين أسبوعياً (السبت، الإثنين) لغسيل الكلى. خلال الأسبوع الماضي تأخّرت جلستاه عن موعدهما بسبب توقف القسم نتيجة عدم توفر الكهرباء. يقول “كدت أصل إلى الموت بسبب تأخر جلسة الغسيل، لا يمكنني العيش في حال تأخرت عن الموعد، وأنا لا أملك ثمن الجلسات في المستشفيات الخاصة أو تكلفة الوصول إلى الباب وجرابلس، هذا إن وجدت مكاناً فيها”.
تكاليف النقل وأعباء التنقل ليست المشكلة الوحيدة، إذ يضطر مرضى غسيل الكلية لشراء حقن “إيبوتين” اللازمة لغسيل الكلى بنحو 6 دولارات للعبوة الواحدة في كل جلسة، لعدم توفرها في المستشفى الوطني.
فاطمة الحسن، فنية غسيل الكلية في المستشفى الوطني قالت إن “توقف غسيل الكلى يتسبب بمضاعفات خطيرة على المرضى، إذ أن تراكم السوائل يعرض حياتهم للخطر”، وأثناء توقف القسم عن العمل “اتجه قسم من المرضى إلى مستشفيات الباب وجرابلس بريف حلب الشرقي لغسيل الكلية، آخرون اتبعوا حمية محددة من الغذاء والسوائل للحفاظ على حياتهم ريثما يعود القسم إلى العمل”.

تعمل كوادر المستشفى الوطني في منبج اليوم بشكل تطوعي، دون أي أجور، ما يضاعف عقبات استمرار العمل في المستشفى الذي سيشهد استقالة كوادره والبحث عن مستشفيات أخرى لتأمين نفقاتهم.
غيداء، ممرضة في قسم الحواضن ضمن المستشفى الوطني تدفع خلال رحلتها من المنزل إلى المستشفى (ذهاباً وإياباً) 40 ألف ليرة سورية (نحو 4 دولارات يومياً)، تقول “نعمل منذ تحرير المدينة بشكل تطوعي بسبب عدم وجود جهة تتبنى التكلفة التشغيلية للمستشفى”.
مثل غيرها من كوادر المستشفى الوطني الذين تحدثنا معهم تصف غيداء تكاليف الوصول إلى المستشفى بـ “المرهقة”، خاصة مع غياب أي بدل مالي عن عملهم لتغطية نفقات تنقلهم واحتياجاتهم المعيشية على أقل تقدير، وهو ما يدفعهم للتفكير بمغادرته.
توقف الكهرباء وتكاليف المحروقات وصيانة الأجهزة والرواتب الشهرية يهدد المستشفى الوطني بالإغلاق، ويحمّل مرضى وسكان في منبج، إضافة للكوادر الطبية الحكومة المؤقتة والتي لم تقدّم أي دعم أو ردّ على مناشداتهم، كذلك حكومة تصريف الأعمال في دمشق والمنظمات الإنسانية التي اقتصرت ردودهم على تقديم الوعود دون أي استجابة، مسؤولية تأمين الطبابة للأهالي وإيجاد حلّ لاستمرار عمل المستشفى الوطني الذي يخدم، بحسب تقديرات إدارة المستشفى، نحو مليون شخص من سكان المنطقة والوافدين إليها.