فتحت الحاجّة زهديّة عبداللطيف ذات الثمانين عاماً عينيها لأول مرة بعد خضوعها لعمل جراحي في العين، صباح يوم الأحد، الثامن من كانون الأول الفائت، لتفاجأ بخبر سقوط بشار الأسد، كانت في تلك اللحظات تتساءل: “هل أرى كل شيء مختلفاً لأن العملية كانت ناجحة، أم أن سوريا صارت أجمل فجأة”؟
قبل شهر تقريباً توجهت الحاجة زهدية المنحدرة من محافظة دير الزّور إلى مدينة الحسكة، شرقي سوريا، لإجراء عمل جراحي في عينها اليسرى التي كادت أن تفقد النظر فيها بسبب حزنها على ابن اختها المعتقل في سجون قوات النظام منذ ست سنوات، حسب قولها. تقول إنها ربته بعد وفاة أمه عندما كان في العاشرة من عمره، وبعد أن صار شاباً اعتقلته قوات النظام، فأصابها مرض السّكري وفقدت النّظر بشكل كامل في عينها اليمنى.
معبر الزغيّر دون إدارة
أثناء عودتها من مدينة الحسكة إلى دير الزور بدا عبور نهر الفرات هذه المرة مختلفاً، ففي كلّ مرّة يكاد قلبها يسقط خوفاً من الماء، ولكنها اليوم تشعر بالحماس للوصول إلى حاجز السّلامة عند مدخل المدينة لتراه دون عساكر جيش النظام السابق الذين اعتادوا أن يطلبوا البطاقة الشخصية للتفييش (التدقيق الأمني) دائماً، إضافة لمعاملتهم السيئة للأهالي، حسب وصفها.
عند عبور الحاجة زهدية من معبر الزغيّر غربي دير الزور، الذي يفصل مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الجهة الشرقية من نهر الفرات عن مناطق سيطرة إدارة العمليات العسكرية في الجهة الغربية من النهر، لم تلحظ تغيراً في الطرف الشرقي سوى نقاط التفتيش التّابعة لقسد التي باتت فارغة، والمعابر المائية التي يديرها اليوم أهالي القرية مثلما يديرون عمليّات انتقال السّكان بين الضفتين، “على هواهم”، تقول الحاجة زهدية.
كلّ شيء يعبر النّهر إلى مناطق سيطرة إدارة العمليات العسكرية أو ما يسمونه الأهالي بالمنطقة المحررة له تسعيرة، فأجرة نقل الراكب الواحد عشرون ألف ليرة سورية (أكثر من 1.5 دولار)، أما السّيارات فوصل رسوم دخولها إلى مليون ليرة سورية، (ما يعادل 87 دولار).

ذاكرة بحاجة للتعافي
لأول مرة أرى الناس منتشرين حول دوار الحلوين، الواقع في حي القصور، يستمتعون بأشعة الشمس. قبل أيام كان هذا المكان مسرحاً لسيّارات الميليشيات المختلفة، منهم عناصر من الدفاع الوطني، الأمن العسكري، عناصر أجانب من حزب الله وإيران، وكان الشّباب لا يجرؤون على الخروج من بيوتهم إلا للضرورة، خوفاً من الوقوع في قبضتهم.
رجاء العبدالله، اسم مستعار لسيدة أربعينية من دير الزّور، كانت شاهدة على مجزرة قُتل فيها أخوها الأصغر في حي القصور، تقول رجاء: “لا يفارقني مشهد اقتحام عناصر من الحرس الجّمهوري لبيتنا، سألوا إخوتي عن أسمائهم وأعمالهم، إخوتي الثلاثة موظفون حكوميون وأخي الأصغر عبدالله، كان طالباً في السّنة الأولى لقسم الأدب الإنكليزي في جامعة الفرات بدير الزّور”.
اقتاد العناصر عبدالله وسط توسلات والدته وتشبّثها به، ولكنّ أحد العناصر طمأنها بأنه سيكون بخير، ثم فرض حظر تجوال على جميع سكّان حي القصور استمر لثلاثة أيام، تقول رجاء: “في اليوم التالي عثر جيراننا على أخي مقتولاً بطريقة وحشيّة ومرمياً في بيت مهجور يشتهر باسم الباخرة نظراً لمساحته الكبيرة، دفنوه بشكل مؤقت في هذا البيت مع عدد من الشهداء من أبناء الحي ثم تم نقل جثامينهم لاحقاً إلى مقبرة خاصة، ومنذ ذلك اليوم لم أرَ ابتسامة أمّي الّتي توفيت بعد عامين قهراً عليه”.
وقعت مجزرتي حيي القصور والجورة في أيلول 2012، وراح ضحيّتها أكثر من أربعمائة شخص من الحيين في حين اختفى آخرون، نفذّها الحرس الجمهوري بعد عمليّات اعتقال عشوائيّة تبعها قتل وتصفية بطريقة همجية. تفيض عيناها بالدموع عند إخبارنا بأنّ سقوط النّظام الّذي قتل “كعيدتهم” (آخر ولد في العائلة) حقّق شيئاً من العدالة وبأنّ محاسبة العناصر المسؤولين عن المجزرة فقط ما سيشعرهم بالعدل أكثر.
إجراءات إدارية في جامعة الفرات
رئاسة جامعة الفرات كانت وجهتي التّالية، وتحديداً مكتب شؤون الطّلاب المركزيّة، علّني أستطيع استلام شهادتي الجامعية. لم يتغير كادر الموظفين، ولكنني لاحظت تحسناً بالمعاملة، ومثل العادة لم تكن شهادتي جاهزة. لكن لأول مرة لم أشعر بالاستياء، فمن الطبيعي أن تكون الأمور عالقة نتيجة لسقوط النّظام في دمشق، وسيطرة قوات “قسد” على مدينة دير الزّور لأربعة أيام، ثم انسحابهم منها بعد احتجاج أهالي المدينة على وجودهم.
عينت حكومة تصريف الأعمال في دمشق لجنة تسيير أعمال في جامعة دير الزور بإدارة كل من الدكتور عادل حديدي عميد كليّة الآداب في إدلب، والدكتور أحمد العفدل عميد كليّة الزراعة في إدلب أيضاً، وعلمتُ من موظف في الجامعة فضل عدم ذكر اسمه أن اللجنة بعد اجتماعها بالموظفين الحاليين وعدت بالتّعامل مع ملفات الفساد المتراكمة.
وتشمل الإجراءات التي سلطت اللجنة الضوء عليها لمعالجتها نقاط عدة أبرزها عرقلة أوراق الطلّاب وتعمّد إتلافها بقصد ابتزازهم، وتفشي الوساطات والمحسوبيات. كما أشارت اللجنة إلى “بورصة” الدراسات العليا والبعثات والمنح الّتي كانت تمنح لشريحة ضيقة على حساب الطلاب ومستقبل الجامعة الّتي انحدر تصنيفها إلى المرتبة 1020 بحسب تصنيف “ويب ماتريكس webmetrics” والّذي يعنى بتصنيف الجامعات عالمياً.

مخاوف الأهالي.. المال والأمان
دون وجهة محددة تابعت السير في شوارع مدينتي الّتي كنت أتجنّب زيارتها إلّا للضرورة بسبب انتشار الميليشيات الإيرانيّة وعصابات جيش النظام السابق وعناصر الدفاع الوطني. وصلت أقدامي إلى حيّ الحميديّة حيث ترعرعتُ، رحت أتأملّ الأسقف المتهاوية والأبنيّة الّتي تراكمت وكأنها كومة ملح. شعور بالوحشة يتملك المتجه نحو دوار غسّان عبّود الّذي لم يبق منه شيء سوى اسمه، وللعودة إلى حيّ الجورة، على الزائر انتظار الباص طويلاً، فوضع المواصلات سيء في الأحياء المتضررة أو المدمّرة.
بعد انتظار يزيد عن ربع ساعة صعدت الحافلة وأعطيت المعاون 500 ليرة سورية، تأمّلها قليلاً ثمّ قال لي: “الأجرة 2000 ليرة أختي”، لا أعرف لماذا ارتفعت التسعيرة خلال أيّام قليلة أربعة أضعاف، سألته: “هل هذه تعرفة رسميّة جديدة”؟، أجابني بنبرة المتذمر: “لا، هذه تسعيرتي ومن لم يعجبه يمكنه النزول”.
في حيّ الجورة، بدت التغييرات واضحة، عدد كبير من المحال في سوق شارع الوادي مغلقة، تعود ملكيّة بعضها إلى قائد الدّفاع الوطني فراس جهام، الملقب بـ “فراس العراقيّة”، وبعضها الآخر لضبّاط هربوا ليلة سقوط الأسد. السيّارات العسكرية التابعة للإدارة العسكرية راحت تجول في المدينة، كذلك العسكريون ذوو الشّعر الطويل المجعد، قيل لي أنّهم يتبعون لفصيل أسود الشّرقيّة الّذي ساند قوّات إدارة العمليات العسكرية خلال عملية السيطرة على المدينة.
خلال جولتي في الأحياء سمعت بعض الأخبار من أهالي المنطقة، مثل إصابة ثلاثة مراهقين في اقتتال شوارع، حصلوا على السّلاح من عناصر النظام الّذين رموا سلاحهم وفرّوا من المدينة، وإصابة طفل كان يعبث بالرصاص المتناثر في الشّوارع بعد احتفالات التّحرير، أدت الإصابة لبتر يده.
رغم التفاؤل الذي يغلب على أحاديث السكان، إلا أن بعض حوادث انتحال الشخصيّات الأمنية من قبل مسلحين لدخول منازل بحجة التفتيش ثم سرقتها، جعلهم يخافون من انفلات أمني محتمل. حدث هذا بشكل خاص في أحياء متضررة من قبل، مثل العمّال والجبيلة، واقتصرت التّجاوزات على سرقة مال ومصاغ ذهبي، وانحسرت هذه الممارسات بشكل واضح بعد تعيين حكومة تسيير الأعمال للمقدم محمد الشيخ قائداً لشرطة دير الزور في الأسبوع الأخير من شهر كانون الأول الماضي، وبعد تسيير دوريّات تابعة للشرطة في المدينة.
مشاهد من القطاع الطبي
تغييرات شكليّة طرأت على القطاع الطبي بحسب الدّكتور مأمون حيزة، مدير صحة دير الزّور، مثل عودة اسم المستشفى العسكري سابقاً إلى مستشفى الشّهيد أحمد طه هويدي، حيث أصبح متخصصاً بأقسام الأطفال والدّاخليّة والنسائيّة، أما أقسام العظميّة، الكسور، حوادث السير، العصبيّة، فبقيت في مجمع المستشفيات على طريق البانوراما، والذي كان يطلق عليه اسم مستشفى الأسد.
في مستوصف الثورة اضطرت الممرضات لتقديم الخدمة للأطفال بمعدات بسيطة بعد أن سرقت جميع محتويات المستوصف. أما في شارع سينما فؤاد وتحديداً في السّوق المشهور في دير الزّور الواقع في حيّ القصور فانتشرت على واجهة محلات بيع ملابس (صراف عملة/ دولار) و رأيت الكثير من هذه اللّوحات في محال أخرى، واختلف سعر الصرف بين محل وآخر.

خدمات بحاجة لضبط
أثناء حديثي مع الأهالي لمست خوفهم من التقلب السريع الذي طرأ على أسعار بعض المواد في الأيام الماضية، فقد ارتفع سعر ربطة الخبز من ألف ليرة سورية إلى أربعة آلاف ليرة من الفرن، و4500 من المعتمد، وهي تكلفة لا يستطيع تحملّها أكثر من نصف السّكان في دير الزور، حسب وصفهم، بالإضافة إلى حاجة النّاس للانتظار لعدّة ساعات حتّى يضمنوا حصولهم عليه بهذه التّكلفة المرتفعة بسبب تلاعب المعتمدين وانعدام الرّقابة عليهم، فعلى الرغم من تخصيص ما يقارب ثلاثمائة ربطة لكل معتمد، تحوي كل ربطة على 12 رغيف خبز، إلا أن شكاوى تسمع من الأهالي بأن أغلب المعتمدين يلجؤون لتوزيع كميّة أقل، وبيع الباقي في السّوق السوداء بأضعاف سعره.
منذ أيام قليلة انخفض سعر المازوت إلى 6500 ليرة سورية بعد ارتفاعه بداية انسحاب قسد من 8500 حتى وصل لسعر 16500 ليرة سورية، إلا أن السعر يتفاوت بين بائع وآخر، لذا يلقي من قابلناهم باللوم على المهربين الذين يحصلون عليه من مناطق سيطرة قسد، وعدم مراقبة إدارة المعابر المائية الواصلة بين المدينة والرّيف التابعان لسيطرة حكومة تصريف الأعمال ومناطق سيطرة قسد التي تعتبر المصدر الوحيد حالياً للمحروقات في السّوق السّوداء.
تغيير بسيط طرأ على الكهرباء في المدينة، فساعات التقنين لا تقل عن خمس ساعات تقابلها ساعة تشغيل. هذه الساعة كانت قبل سيطرة الإدارة الجديدة تختصر إلى 30 أو 40 دقيقة يتخللها 20 دقيقة قطع، الأمر الّذي حرم الأهالي من الاستفادة حتى من هذه الفترة القصيرة، فتتعطل دورة غسيل الملابس، أو وجبة الطعام في الفرن. هذا التحسن الطفيف جاء بعد قطع خطوط الكهرباء العسكريّة، والخطوط الّتي كان يبيعها مدراء الدوائر الرّسميّة عن طريق سماسرة.
مشهد يغلب عليه الترقب والغموض يمكن ملاحظته في المدينة، فتارة يذم أحدهم الحكومة الجديدة والبطء بتقديم الخدمات التي طال انتظارها، وتارة يبرر آخر هذا التأخر بعبارة “مهما ساء الوضع سيكون أفضل مما كان عليه في زمن الأسد”، ويعتبر آخرون أن الحكومة الجديدة حديثة العهد ولا بد من إعطائها فرصة كافية لتستطيع إنجاز أثر يمكن قياسه.