يجهّز علي الحمود، خبير بتفكيك الألغام، حقيبتة المزودة بأدوات بسيطة أهمها كماشة، مقص، أسلاك وخيوط، معتمداً على خبرته وحذره من عدم الوقوع في الخطأ الأول لأنه سيكون الأخير حسب قوله.
أكثر من 2000 عبوة ناسفة ولغم فككها الحمود خلال سنوات الحرب، تشمل ألغام دبابات، ألغام أفراد، بالإضافة لصمامات قذائف طائرات ومدفعية زرعتها قوات النظام السوري وعناصر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في قريته معرتحرمة والقرى المجاورة في ريف إدلب الجنوبي.
وثقت مؤسسة الدفاع المدني السوري من تاريخ 27 تشرين الثاني 2024 حتى الثاني من كانون الثاني 2025 مقتل 26 مدنياً بينهم ثمانية أطفال وامرأة، وإصابة 43 مدنياً بينهم 22 طفلاً بجروح منها بليغة في انفجار لمخلفات الحرب والألغام في المناطق السورية، بحسب حميد قطيني، مسؤول إعلامي في الدفاع المدني.
كما نفذت فرق مختصة من الدفاع المدني 822 عملية إزالة وإتلاف مخلفات حرب بدون ألغام، ووثقت أيضاً 117 حقلاً ونقطة لوجود الألغام، و80 منطقة ملوثة في الفترة الممتدة من 27 تشرين الثاني 2024 حتى الثالث من كانون الثاني 2025. وتشير مؤسسة الدفاع المدني إلى أن تهديدات خطرة لمخلفات الحرب والألغام تسرق أرواح المدنيين وتسبب إصابات خطرة، وتزيد من سوء الواقع الإنساني وتقوّض عودة المدنيين لمنازلهم ومن العمل في مزارعهم بمناطق سورية واسعة.
رصد الحمود أثناء عمليات الاستجابة التي نفذها بجهود فردية أنواعاً مختلفة من الألغام المزروعة في ريف إدلب الجنوبي، يشرح آلية بعضها فيقول: “ألغام الأفراد تُزرع على عمق قليل تحت الأرض، وتنفجر بحركة بسيطة، أما الألغام الثقيلة فلا تنفجر إلا عند مرور وزن يزيد عن 12 كيلوغرامًا، لضمان إصابة الأفراد وليس الحيوانات”، كما فكك قنابل الطائرات التي تتراوح أوزانها بين مئات الغرامات إلى عدة كيلوغرامات، وهي تعمل بآلية “الفعل ورد الفعل”، مؤكداً أن جميعها كانت صناعة روسية.
أخطر ما يواجهه الحمود ذو الستين عاماً بحسب قوله هو “التفخيخ”، لأنه يعتمد على ذكاء المصمم بزيادة تعقيد الألغام لتصعب إزالتها، ما يجعل التفكيك أشبه بمعركة مع الموت، حسب وصفه. اكتسب الحمود خبراته بتفكيك الألغام والقنابل عام 1982 عند التحاقه بكلية الهندسة العسكرية أثناء خدمة العلم الإلزامية.
تنتشر الألغام الأرضية والقنابل العنقودية والذخائر غير المنفجرة في المدن والبلدات والمزارع بأعداد كبيرة يصعب إحصاؤها بسبب غياب خرائط الانتشار وعشوائية زراعتها، وبحسب تقرير صدر نهاية عام 2024 عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان فإن الألغام الأرضية ومخلفات الذخائـر العنقوديـة منتشـرة علـى نطـاق واسـع فـي العديـد مـن المحافظـات السـورية وتهـدد حيـاة السـكان، كما تشير عمليات الرصد إلى أنَّ أطراف النزاع والقوى المسيطرة اسـتخدمت الألغام الأرضيـة بشـكل واسـع، فـي حيـن سـجل اسـتخدام الذخائـر العنقوديـة فقـط مـن قبـل النظـام السابق والقوات الروسية.
يفسر التقرير الاستخدام المكثَّـف للألغام مـن قبـل أطـراف النـزاع المختلفـة، بسـهولة تصنيـعها وكلفتهـا المنخفضـة، مؤكداً أن استخدامها كأداة تمّ دون الاكتـراث بالإعـلان عـن مواقعهـا أو إزالـة آثارهـا. موضحاً أن ذلك يبـرز بوضـوح في المحافظات التي شهدت اشتباكات مكثَّفة وتغييرات متكررة في مواقع السيطرة خلال السنوات الماضية.
حوادث متكررة ومخلفات الحرب في كل مكان
بين قريتي كفرموس والفطيرة في ريف إدلب الجنوبي قتل ثلاثة شبان بعد انفجار لغم أرضي في السيارة التي يستقلونها. كما لقي شابان آخران مصرعهما أثناء زيارتهما لقريتيهما على الطريق الواصل بين قريتي معرتحرمة ومعرزيتا بريف إدلب الجنوبي، وأصيب شاب ثالث برجله ما أدى لبترها، ومازالت الحوادث المشابهة تتكرر في مناطق مختلفة.
وبحسب التقرير السابق للشبكة السورية لحقوق الإنسان فإن الألغام الأرضية تسببت بإحداث إصابـات خطيـرة، إذ تخترق مئات الشظايا أجسـاد المصابيـن، مـا يـؤدي غالبـاً إلـى بتـر أطـراف، تمـزق الشرايين والخلايا، بالإضافة إلـى إصابـات فـي السـمع أو البصر. وعلـى الرغـم من صعوبة تحديد العدد الدقيق للجرحى، فـإنَّ تقديرات الشَّـبكة تشـير إلـى إصابة مـا لا يقل عن 10400 مدني بجروح متفاوتة منذ عام 2011، منهم عدد كبير بحاجة إلـى أطراف صناعية، فضلاً عـن سلسلة طويلة مـن عمليات إعادة التأهيل والدعم النفسي.
فاطمة الحسن أرملة خمسينية من ريف إدلب الجنوبي، هجرت منذ ست سنوات من قريتها بعد أن اعتقلت قوات النظام زوجها أثناء توجهه إلى لبنان بحثاً عن فرصة عمل. تخبرنا أنها لا تملك الشجاعة لإرسال أبنائها لزراعة أرضهم رغم وضعهم المادي السيء، مؤكدة أنها لن تخاطر بأرواحهم ولن تجرؤ على إرسالهم قبل أن تفحص الفرق المختصة الأرض وتمشطها.
الفقد الذي تعيشه عائلة فاطمة بوفاة زوجها بسجن صيدنايا ما زال ينهش قلوبهم، تقول: “خسرت الأب ما بدي أخسر الأولاد، الفقر أهون من الفقد” تربط قولها بخبر بثته صفحات الدفاع المدني عن مقتل طفلين شقيقين وإصابة طفلين أبناء عم القتيلين في انفجار لغم أرضي من مخلفات قوات النظام السابق في الأراضي الزراعية على أطراف قرية سان بالقرب من بلدة النيرب جنوب شرقي إدلب، ما زاد من خوف الأهالي والمزارعين من الاقتراب من الأراضي الزراعية والعمل بها قبل تنظيف المنطقة من قبل جهات مختصة .
“الآبار وخزانات المياه لم تسلم هي الأخرى من عبث عناصر الأسد والميليشيات الموالية”، تقول سامية العلي، مهجرة من ريف إدلب الجنوبي تروي لنا كيف عثر أخوها على قنابل في قاع خزان المياه عند تسليطه الضوء عليه لتفقده، مؤكدة أنه فوجئ بوجود أكثر من عشر قنابل في قاعه، حاله حال آبار أخرى في الحي الذي يسكن فيه.
يقول زين الحامد، مساعد منشق عن قوات النظام السابق: “إن مخلفات الحرب في غالبيتها تضم ألغاماً أرضية معدّة للتسبب بأضرار جسدية أو مادية، إضافة إلى ذخائر صاروخية فشلت في أداء عملها ولم تنفجر”، كما يعثر على ألغام ومخلفات مزروعة بشكل عشوائي في الشوارع والأراضي أو في مستودعات مهجورة داخل القرى أو على أطرافها أو في الكهوف التي تنتشر في غالبية أرياف إدلب الجنوبي.
تختلف أشكال مخلفات الحرب في المنطقة بحسب مشاهدات الأهالي، فمنها ما يصنع بأساليب تمويهية خطيرة كألعاب الأطفال أو قطع الأثاث ومنها ما هو على شكل زجاجات أو أسلاك مربوطة وضعت بالقرب من المنازل والأراضي.
مبادرات محلية
لتقليل الأضرار يشكل شبان من أبناء بعض المناطق فرقاً للمساهمة بتنفيذ حملات وأنشطة تطوعية للحماية من مخلفات الحرب، الهدف من هذه اللجان تحديد الأماكن التي يشتبه بتوزع الألغام فيها أو التي تم التبليغ عنها وتمييزها بعلامات تنبيهية، حتى يملك الأهالي القدرة على زيارة قراهم دون خوف أو قلق بحسب أحمد الإبراهيم، من قرية ترملا بريف إدلب الجنوبي. ويؤكد الإبراهيم على ضرورة تكثيف الجهود في ريف إدلب الجنوبي الغربي وقرى جبل شحشبو التي يسهل إخفاء الألغام فيها بين الصخور وفي الكهوف وعلى حواف الطرق، كما يناشد المنظمات المدنية بتخصيص أنشطة تساهم بتوعية المجتمع لخطورة التعامل مع المخلفات والألغام.
في ظل المبادرات الخجولة لإزالة مخلفات الحرب، يخطط غالبية المزارعين في الوقت الحالي لحراثة الأراضي وزراعتها رغم المخاطر التي قد تحدث لهم بسبب عدم إعطاء مسألة إزالة الألغام أولوية لدى المنظمات الإنسانية أو الحكومية، فما من خيار آخر أمامهم سوى المجازفة، بحسب السبعيني خالد المحمد، مزارع من أبناء ريف إدلب الشرقي.
ردينة صطوف العاملة سابقاً في التوعية من مخلفات الحرب تنوه بأهمية تدريب السكان على التعامل مع المتفجرات فور العثور عليها، كما تقترح على المنظمات الإنسانية استهداف الأطفال بالدرجة الأولى لأنهم عرضة للإصابة بها أكثر من غيرهم، لميلهم للعب وعدم قدرتهم على تمييزها، وتكون الأنشطة عبارة عن جلسات جماعية مباشرة في المدارس والمساجد وأماكن التجمعات بالتعاون مع فرق للدفاع المدني المهيأة للاستجابة العاجلة.
يؤكد حميد قطيني، المسؤول الإعلامي في فريق الدفاع المدني، على أن الفرق تعمل على إزالة هذه المخلفات، عبر عمليات المسح والإزالة، وتسعى المؤسسة لحماية المدنيين وضمان سلامة الأهالي في منازلهم ومزارعهم وطرق عودتهم إلى قراهم من خلال نشر تعليمات بشكل دوري على شكل فيديو أحياناً أو منشورات تتضمن نصائح أبرزها: لا تلمس، لاتقترب، بلغ فوراً، وهو ما يسميه المتطوعون أثناء أنشطة التوعية بالقاعدة الذهبية.
كذلك يخبرنا منسق برنامج إزالة مخلفات الحرب، محمد سامي المحمد، بأن فرق الدفاع المدني السوري قدمت 82 جلسة توعية لسكان قبل عودتهم إلى المناطق التي هجروا منها. يؤكد المحمد أن الفرق تسعى جاهدةً للحد من خطر مخلفات الحرب والألغام التي تهدد حياة المدنيين، وتفرض واقعاً صعباً يحول دون عودتهم لمنازلهم، أو العمل في مزارعهم.
لا يوفر علي الحمود الخبير بتفكيك الألغام جهداً بتلبية كل نداء يوجه له، مؤكداً أن ما يقوم به هو مبادرات تطوعية لا يتقاضى أجراً عليها ولا على تنقلاته عبر دراجته الآلية، موظفاً خبرته التقنية في هذا المجال، ويحذر من مخاطر الاقتراب من الأجسام الغريبة أو الذخائر غير المنفجرة، وينصح بتجنب المناطق التي شهدت اشتباكات أخيراً أو كانت تحوي مواقع عسكرية وحقول ألغام، وينصح عند العثور على أي جسم مشبوه بإبلاغ المختصين فوراً وعدم الاقتراب من الجسم أو تحريكه.