تشكل الألغام ومخلفات الحرب وشبكات الأنفاق هاجساً لمهجّري تل رفعت وقرى سد الشهباء بريف حلب الشمالي، الراغبين بالعودة إلى مدنهم وبلداتهم بعد استعادة السيطرة عليها بداية كانون الأول الماضي، دون اتخاذ السلطات المحلية أي إجراءات للحفاظ على سلامة العائدين وحمايتهم.
وتسبّبت الألغام ومخلفات الحرب التي زرعتها قوات قسد بمقتل مدنيين اثنين وإصابة آخرين من العائدين إلى منازلهم في المنطقة، إضافة لخروج مسلحين يتبعون لقسد من أنفاق كانوا يحتمون بها في قريتي الشيخ عيسى ومنغ شمال شرقي تل رفعت.
وكانت قوات قسد حتى كانون الأول الماضي تسيطر على كل من مدينة تل رفعت وقرى وبلدات دير جمال، منغ، عين دقنة، تنب، كشتعار، مرعناز، المالكية، شوارغة، كفرناصح، كفرنايا، الشيخ عيسى، أحرص، تلقراح، حربل، أم حوش، فافين، حساجك، الوحشية، أم القرى، وقول سروج، الساعد، السموقة تل جيجان ضمن تجمع قرى سد الشهباء التابعة لمارع وصولاً إلى الدغلباش على مشارف مدينة الباب شرقي حلب.
الألغام ومخلفات الحرب
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير نشرته قبل أيام مقتل 3521 مدنياً نتيجة انفجار الألغام الأرضية بينهم 931 طفلاً و 362 سيدة، إضافة لنحو 10400 مصاباً بجروح متفاوتة في الفترة الممتدة بين آذار 2011 وحتى نهاية كانون الأول 2024.
وفي الفترة الممتدة بين 27 تشرين الثاني 2024، بدء عملية ردع العدوان في سوريا، وحتى 31 كانون الأول 2024، وثقت الشبكة مقتل 45 مدنياً بينهم 6 أطفال و 4 سيدات نتيجة انفجار ألغام أرضية في مناطق متفرقة من سوريا.
يتركز انتشار الألغام على طول خطوط التماس السابقة التي كانت تفصل بين مناطق سيطرة الجيش الوطني من جهة وقوات قسد من جهة أخرى، وتمتد من جنوب شرقي مدينة عفرين مروراً بجنوبي أعزاز وغربي مارع وجنوبها وصولاً إلى مشارف مدينة الباب شرقي حلب.
أبو أسعد (40 عامًا وينحدر من قرية حربل بريف حلب الشمالي) لم يتمكن من الدخول إلى منزله الذي هجّر منه قبل 10 سنوات، خشية انفجار الألغام التي تحيط وتملأ بيته المتضرر في الأصل جراء القصف، لقربه من خطوط التماس السابقة التي كانت تفصل بين فصائل الجيش الوطني السوري وقوات قسد شمالي القرية. يقول أبو أسعد “الألغام تحيط بمنزلي من كل الاتجاهات، وأتوقع وجودها داخله، الدخول إلى المنزل يمكن أن يؤدي إلى انفجاره بأي لحظة”.
اضطر أبو أسعد للإقامة في منزل أحد أقربائه جنوبي القرية ريثما تقوم فرق مختصة بتفكيك الألغام خلال الفترة القادمة ليبدأ بترميم منزله والاستقرار فيه، لكن، وبعد مرور شهر على استعادة المدينة ما تزال الألغام الموزعة في المنازل على حالها، إذ فككت فرق الهندسة التابعة للدفاع المدني السوري، وأخرى تابعة لفصائل الجيش الوطني السوري مخلفات الحرب والألغام المنتشرة على الطرق الرئيسة فقط، بهدف فتح خطوط السير أمام حركة تنقل المدنيين دون تمشيط المنازل والأراضي الزراعية.
تأخر استجابة فرق الهندسة بتفكيك الألغام دفع الأهالي إلى تفكيكها بأنفسهم رغم خطورة القيام بمثل هذا العمل، يقول مصطفى العبود، مزارع ينحدر من قرية السيد علي ويملك أرضاً زراعية تقع على مشارف بلدة أم حوش شمالي حلب، إنه “اضطر إلى تفكيك الألغام في أرضه بشكل فردي”. ويضيف “منذ تحرير المنطقة حتى الآن نفكك الألغام بأيدينا”، إذ لا توجد فرق مختصة حالية تعنى بهذه المسألة، ويحتاج الأهالي للعودة إلى منازلهم وحراثة أرضهم تحضيراً للموسم الزراعي الذي لا يمكن أن ينتظر.
حسن الأحمد (37 عامًا) من قرية سروج، إحدى قرى تجمع سد الشهباء، قال إنه استأجر شخصاً لتمشيط منزل عائلته والتأكد من عدم وجود ألغام زرعت داخله، لكنه وجد في محيط المنزل قذائف غير منفجرة، اكتفت السلطات المحلية التي أخطرها عن وجودها بوضع إشارات حمراء اللون حولها دون تفكيها أو تفجيرها، ما يجده يهدد حياة عائلته وآخرين في القرية، وهو ما دفعه لتأجيل العودة إلى منزله ريثما يتم التعامل مع الألغام والمخلفات في القرية.
ويعتمد السكان بتفكيك الألغام على عناصر يتبعون لفصائل الجيش الوطني يمتلكون خبرة بالتعامل مع المتفجرات، مقابل مبالغ مالية، إذ تصل تكلفة تمشيط دونم من الأراضي الزراعية لنحو 100 دولار أمريكي، وهو ما تسبب بنشوء نوع من أنواع السمسرة بهدف تحصيل الأموال مقابل تفكيك الألغام، إذ يشير أحد العاملين في هذا المجال ويملك جهاز كاشف للألغام يدعى أبو يوسف إلى أن جهودهم فردية ويعملون حسب بلاغات الأهالي.
يفكك أبو يوسف مختلف أنواع الألغام نتيجة الخبرة التي اكتسبها أثناء المعارك العسكرية مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذي اشتهر بزراعة الألغام كأحد وسائل الحماية التي يستخدمها في محيط مناطق سيطرته.
بين الألغام التي فككها أبو يوسف وأصدقاؤه، ألغام متخصصة بالآليات الثقيلة والمدرعات، ألغام موجهة، ألغام المسطرة، الألغام الفردية، لكنه يخبرنا أن هناك آلاف الألغام في هذه القرى والبلدات لا يمكن تفكيكها بجهود فردية، إذ أنها تحتاج لمعدات عسكرية “كاسحة ألغام” تعمل على تمشيط الأراضي الزراعية كافة دون تعريض حياة السكان للخطر.
شبكات أنفاق مقعدة
على الطرف الآخر تمثل شبكات الأنفاق التي حفرتها قوات قسد، أثناء سيطرتها على المنطقة، هاجساً آخر يؤرق الأهالي الذين يخشون خروج عناصر يتبعون لهذه القوات وبشكل مفاجئ منها، وتعريض حياتهم للخطر بعد تكرر حالات خروج عناصر بعتادهم العسكري في قريتي منغ والشيخ عيسى.
هذه المخاوف دفعت الأهالي العائدين إلى بلداتهم وقراهم إلى اتخاذ تدابير أولية لحماية أنفسهم، من خلال تنظيم مناوبات ليلية حول هذه الأنفاق، بحسب محمد يحيى بدران (57 عاماً من مدينة تل رفعت). يقول بدران واصفاً مناوبته الليلية رفقة عائلته “خوف ورعب طوال الليل واحد بنام والثاني بفيق، هي الحال استمرت من وقت رجعنا إلى المدينة وما منعرف لايمت بتستمر”.
رغم محاولات بدران طمأنة أسرته في ساعات النهار حول عدم وجود مخاوف، إلا أن ساعات الليل المظلمة تكشف وحشة المدينة وتزيد مخاوفهم، بسبب عدم إيجاد حل للأنفاق التي تمر تحت منازلهم بمسافات طويلة تصل بين القرى والبلدات ولها مخارج ومداخل ومنافس احتياطية.
فوكس حلب وصلت إلى بوابة رئيسة لأحد الأنفاق الموجودة ضمن منزل في مدينة تل رفعت، وفتحة أمان أخرى موجودة في مستودع مدمر يبعد نحو 100 متر، لكننا لم نستطع الدخول بسبب عدم توفر سبل الأمان مثل المنافس والأكسجين وسط احتمال خروج عناصر من قوات قسد الذين يستخدمون عبوات ومنافس مخصصة للأوكسجين.
ردم هذه البوابات لا يجد نفعاً، إذ تتصل هذه الأنفاق فيما بينها وتمتد لمسافات طويلة وتضم بوابات خارجية غير ملاحظة للعيان في منازل متفرقة وأراض زراعية محيطة، ويتوجب على السلطات المحلية الدخول إليها وتمشيطها وإغلاق فتحاتها من الداخل، تقول أم صالح، صاحبة منزل لم تستطع العودة إليه بسبب وجود بوابة واسعة لأحد الأنفاق داخله.
وبحسب سكان في المنطقة، فإن قوات قسد لجأت إلى تحصين وجودها في المنطقة السهلية التي تمتد من مدينة تل رفعت والقرى المحيطة بها شمالي حلب وصولاً إلى مشارف مدينة الباب شرقي حلب، من خلال حفر الأنفاق لتعويضها عن الجيوب في جبال منطقة عفرين قبل سيطرة الجيش الوطني عليها في عام 2018.
يصف أبو علي، أحد عناصر الجيش الوطني أحد الأنفاق التي دخلها من نقطة شرقي قرية الشيخ عيسى، يقول “كان بعمق ثلاثة أمتار ثم يتجه نحو الغرب، كلما سرنا فيه يزيد عمقه، وبين كل مسافة وأخرى فتحة تهوية لدخول الأوكسجين، خرجت من الجهة الغربية للقرية دون أن أكمل النفق الذي ما يزال مستمراً باتجاه مدينة تل رفعت”.
تهدف هذه الأنفاق، بحسب أبو علي، إلى تعزيز النقاط العسكرية لقوات قسد وحمايتها من الهجمات، قسم منها مثل الأنفاق الداخلية التي وجدت في تل رفعت تضم غرف عمليات محمية وغرف معيشة للعناصر والقادة العسكريين، وقسم آخر يستخدم فقط للتنقل بين المواقع في القرى والبلدات.
شهر مرّ على استعادة السيطرة على المنطقة التي لا تزال متخمة بالألغام وشبكة أنفاق معقدة تحول دون عودة آمنة للسكان الذين ينتظرون حلّاً سريعاً يمكنهم من سكن منازلهم وزراعة أراضيهم من جديد.