يمثّل قطاع الصرافة شريان حياة لمعظم السكّان في سوريا، إذ تعتمد، بحسب تقديرات البنك الدولي، نسبة كبيرة منهم، في مختلف مناطق السيطرة، على الحوالات المالية في تأمين مستلزماتهم الأساسية، إذ وصلت قيمة هذه الحوالات في عام 2022 لأكثر من 1,5 مليار دولار، سواء عبر المكاتب الرسمية أو السوق السوداء.
حلب، مثل غيرها من المحافظات السورية التي كانت تخضع لسيطرة النظام، تعتمد في وصول الحوالات لأبنائها على المكاتب الرئيسة المرخصة، الهرم، الفؤاد، الفاضل، المتحدة وغيرها من المكاتب، إضافة لمكاتب غير رسمية (عبر أشخاص للتسليم باليد)، جميع هذه المكاتب كانت تسّلم المبالغ المحوّلة بالليرة السورية، بأسعار صرف تقارب ما يصدره موقع “الليرة اليوم”.
ومنذ دخول الإدارة العسكرية لعملية ردع العدوان وسيطرتها على مدينة حلب في 29 تشرين الثاني 2024، أغلقت مكاتب الصرافة الرئيسة والمرتبطة بالنظام في حلب أبوابها، وتوقفت المكاتب الأخرى عن العمل، ما شكّل عائقاً أمام السكّان ووصول المبالغ المحوّلة إليهم، وصعوبة أخرى تتمثل في تمكّن الأشخاص، خارج حلب، من مساعدة أقربائهم في المدينة.
تقول أم مصطفى، تسكن في حي مساكن هنانو بحلب، إنها تعتمد بشكل كامل في تأمين مستلزمات حياتها الأساسية على حوالات مالية يرسلها ابنها في ألمانيا إليها بشكل منتظم منذ أربع سنوات. ومنذ توقف مكاتب الصرافة في المدينة وهي تبحث عن حلّ لمشكلتها، دون جدوى، خاصة وأن ابنها هو الآخر لا يجد طريقة في إيصال النقود إليها، على حد قولها.
أيهم، ربّ أسرة مؤلفة من خمسة أشخاص تسكن في حي بستان الباشا بحلب، قال إنه لم يتمكّن، في هذا الشهر، من الحصول على مستحقاته المالية من عمله في واحد من التطبيقات الصوتية عبر الإنترنت، بسبب توقف مكاتب الصرافة. وأضاف: ” تشكل الحوالة المالية التي نحصل عليها كل شهر مصدر دخل وحيد لأسرتي، فأنا أعمل بالمياومة وعملي اليوم متوقف، ولا أعرف كيف أتصرف في حال استمر تعطل مكاتب التحويل عن العمل لفترة أطول”.
أم أحمد، تسكن رفقة عائلتها في حي الحيدرية بحلب، قالت إنها تشعر بـ “القلق والخوف من استمرار توقف مكاتب التحويل، وتأخر وصول المبالغ التي اعتادت الحصول عليها من أقارب يعيشون خارج سوريا كل شهر تقريباً”، وتضيف ” زوجي عامل بسيط وإذا برك ثلاثة أيام خلص مصروفنا، صرلنا أسبوع بدون عمل أو مصاري، عبتدين من السمان و بوعدو وفيه بس وصلت الحوالة”.
رحلة الحوالة المالية إلى حلب، تمرّ اليوم بمعوقات كثيرة، يشرحها مصطفى العبد الله، يقيم في ألمانيا، يقول: البداية تكون من اختلاف سعر التصريف بين الشاشة ومكتب التحويل غير الرسمي، ففي الوقت الذي تظهر فيه شاشة الليرة اليوم سعر صرف الدولار الواحد بنحو 25 ألف ليرة سورية في حلب، فإن الأشخاص المعتمدين في هذه المكاتب يقدّرون سعر الصرف بنحو 15 ألف ليرة سورية فقط.
وتختلف هذه الأسعار بين يوم ويوم، إذ وصل سعر صرف الدولار في المدينة لنحو 41 ألف ليرة سورية، من خلال من أشخاص تحدثنا معهم، ثم تراجعت اليوم إلى 17 ليرة، لكن هذه الأسعار غير المنضبطة جعلت المكاتب في أوروبا وحتى تركيا تعزف عن تسليم الحوالات وتعيدها لمرسليها، أو تسليمها بالدولار في بعض الحالات.
العقبة الأخرى كانت في إيصال المبالغ إلى حلب، إذ تتخذ واحداً من طريقين، إيصالها إلى إدلب وتسليمها هناك، ومن ثمّ عبر أحد المعارف يقوم صاحب الحوالة بإيصالها إلى الشخص المطلوب، أو تسليمها باليد و بالليرة السورية وفق سعر الصرف الذي يفرضونه في حلب، في ظل صعوبة الاتصالات والتنقل أو تسليمها بالدولار أحياناً.
وزادت، بحسب مصطفى، أجور التحويل في الأسبوع الماضي، بنحو 3% عما كانت عليه، ووصلت إلى 10% من قيمة المبلغ الكامل، إذ تتقاضى المكاتب 105 يورو لإيصال 100 دولار إلى حلب، ويضطر المستفيدين للذهاب إلى المنطقة التي يحددها المكتب ما يفرض عليهم أجور تنقل، أو يقتطع مبلغ 5 دولارات أخرى لإيصالها إلى أقرب نقطة.
ويضيف مصطفى “أرسلت منذ ثلاثة أيام حوالة مالية وصلت إلى إدلب في اليوم ذاته، لكنها لم تصل إلى عائلتي بانتظار صديق يوصلها إلى حلب”. يقدّر مصطفى الفارق بين وصول الحوالة بهذه الطريقة، رغم المعوقات، في الأيام الأولى بأكثر من نصف المبلغ، إذا أخذنا بالاعتبار، فارق التصريف وما يقتطعه “الأشخاص العاملين في التحويل” والسماسرة في المدينة. أما اليوم فتقدّر هذه الخسارة بنحو 15% فقط.
يقول محمد، يسكن في حي الشعار بحلب، إن توقف مكاتب الصرافة فتح الباب لاستغلال السكان من قبل السماسرة الذين رفعوا سعر الصرف إلى الضعف في حلب، وهو ما يعني “خسارة مبالغ كانت تدعم معيشة الأسر الفقيرة، وفتح الباب لمستغلين تحكموا بسعر صرف الليرة السورية”.
لا تقتصر المعوقات على الحوالات القادمة من أوروبا، يقول محمد البكار، يسكن في تركيا، إنه تواصل مع أصدقاء له داخل حي الفردوس، حيث تقطن والدته (80 عاماً)، رفقة ابنتها الوحيدة عله يجد من أصدقائه من يمد يد المساعدة لوالدته وأخته، ريثما يتمكن من إرسال حوالة مالية لهم في حال عادت مكاتب التحويل للعمل.
ويضيف محمد: “الوسيلة الوحيدة التي وجدتها لإيصال مبلغ إلى حلب كانت عبر مكاتب تقع في حي الأشرفية، وهناك صعوبة كبيرة في وصول أختي إلى ذلك المكان، بسبب تقدم سنها، ناهيك عن خطورة تلك الأحياء، لسيطرة قوات كردية على المنطقة هناك”.
أهمية وصول هذه الحوالات وصعوبة إيصالها دفعت فرقاً تطوعية، مثل فريق ملهم التطوعي إلى إطلاق مبادرة تحت اسم “واصل”، تعمل، بحسب محمد عثمان مسؤول البرامج ضمن الفريق، إلى تأدية خدمة إيصال المبالغ المالية، التي يرغب أصحابها بإرسالها إلى ذويهم داخل مدينة حلب، وذلك بأن يقوم الشخص المرسل بإيداع المبلغ في حسابات الفريق المصرفية المخصصة للتبرع، بعد أن يقوم بملء استمارة خاصة بالمبادرة، يعطي من خلالها التفاصيل التي تسهل على الفريق إيصال المبلغ إلى وجهته الصحيحة، بواسطة أفراده المتطوعين المنتشرين في معظم أحياء المدينة، دون اقتطاع أي أجور مقابل التحويل.
يقول عثمان: ” تلقينا عشرات الطلبات من أبناء المدينة الذين يقطنون في دول مختلفة من العالم لملء استمارة المبادرة”، ويضيف “المبادرة حديثة العهد، فهي أحدثت في الرابع من الشهر الحالي، لهذا لم يتسنى للفريق إيصال أي من الحوالات بعد”، لكنه وعد بأن العمل بها سيستمر، حتى تعود مكاتب التحويل للعمل بصورة طبيعية.
محمد حسين الحسين، مدير شركة سراب للصرافة والحوالات الكائنة في مدينة سرمدا، قال إن شركته بدأت التحويل المصرفي إلى مدينة حلب في اليوم الثاني من إعلان إدارة العمليات العسكرية سيطرتها الكاملة على المدينة، وإن الشركة التي يديرها أحدثت فرعين لها في حيي الجميلية والموغامبو، لكنه نوه إلى أن تلك المكاتب لم تؤد مهمتها بالصورة المطلوبة حتى الآن، معللاً ذلك بضعف إقبال الناس عليها، كونها حديثة الإنشاء، كما تلعب عملية اعتياد السكان على التعامل بالليرة التركية، دوراً في بطء عمليات التحويل واستحالة التعامل بالليرة السورية. وهذا السبب الأخير هو ما جعل أصحاب مكاتب تحويل و صرافة آخرين، يتريثون في إحداث فروع لهم داخل مدينة حلب.
وأشار الحسين إلى وجود تعميم صادر عن مؤسسة النقد والصرافة التابعة لحكومة الإنقاذ، يفيد بالسماح لأصحاب المكاتب المرخصة في محافظة إدلب التقدم لمنحهم تراخيص لمزاولة عملهم ضمن مدينة حلب، وهذا ما لم نستطع التأكد منه من المصدر المسؤول حتى لحظة إعداد رغم محاولاتنا المتكررة.
تطل قضية غياب مكاتب التحويل برأسها، لترقى سلم الأولويات ضمن سلة من الخدمات الملحة التي يحتاجها أبناء مدينة حلب اليوم، مثل الماء والكهرباء والانترنت وغيرها.