جانب مكّب قمامة قاح الشرقي بريف إدلب الشمالي، نحو الساعة السادسة صباحاً، كانت أم سالم (55 عاماً) قد وضعت على رأسها كوفية زرقاء وربطت خصرها بشال أخضر، بيدها كيس سماد مفتوح فارغ داخله عدة أكياس أخرى، وبالقرب منها مجموعة من النسوة والأطفال، غير بعيد عنهم كان رجل يخفي وجهه ولا تظهر إلا عينيه رفقة أطفاله مكشوفي الوجه، إضافة ليافعين جلسا على رماد تلة قمامة فقدت قدرتها على الاحتراق، وامرأة مسنة تحمل معولاً تقلب في كومة ما يزال الدخان ينبعث منها أملاً في العثور على أي شيء، المشهد كان مكرراً على أطراف المكب الذي تحرسه مجموعات من النباشين جميعهم كانوا ينتظرون وصول جرارات القمامة الجديدة.
يمتدّ مكب قاح الشرقي على مساحة 15 دونماً تقريباً، في مساحة مفتوحة بين تلال القرية المزروعة بشجر الزيتون، مليئة بكوم صغيرة من القمامة المحترقة أو رمادها لا يكاد يفصل بين كومة وأخرى أي فاصل سوى طرق صنعتها أقدام وأيدي النباشين الباحثين فيها قبل أو بعد حرقها، عسى أن يجدوا فيها ضالتهم.
آلات بشرية تصل إلى المكب مع ساعات الفجر الأولى، دون أدوات نبش أو قفازات سميكة لحماية الأيدي التي يغلب عليها اللون الأسود والتشققات، قسم منها تظهر عليه بقع توحي بأمراض جلدية مزمنة وأخرى بجروح عميقة تركت دون علاج.
ملتقطو القمامة أو النباشون، بحسب الاسم الشائع، بالعشرات في كل مكب من مكبات إدلب، إن لم يكن بالمئات لغياب الإحصائيات أو التنظيم، فهي مهنة تسارع انتشارها في السنوات الأخيرة وباتت حلّاً لتلبية احتياج العائلات الفقيرة في مدينة يعيش أكثر من 90% من سكانها تحت خط الفقر.
قبل أن تتابع القمامة رحلتها إلى الحرق تتجمع العائلات، معظمهم من النساء والأطفال، بلثام أو من غيره، بكفوف جراحية رقيقة على اليدين أو بدونها أيضاً، يربط كل منهم على إزاره شالاً أو خيطاً تتوزع عليه أكياس من النايلون البيضاء (عادة تكون من أكياس السماد أو الطحين)، كل منها مخصص لنوع من النفايات التي يمكن بيعها أو الاستفادة منها، وبحسب الخبرة تلقم هذه الأكياس موادّها بما يناسب مصيرها لاحقاً.
تسمع صوت طقطقة ظهر الخمسينية “أم سالم” بعد وقت لا يمكن تحديده من انحنائها فوق جبل من القمامة صنعته جرارات النفايات التي أفرغت حمولتها في مكب قاح الشرقي. تحاول إعادة فقرات ظهرها إلى مكانها، تصلح اللثام على وجهها قبل أن تبدأ الغوص من جديد للبحث عن كل ما يمكن أن يستخلص من النفايات (نحاس، حديد، علب بلاستيكية أو كل شيء بلاستيكي، أدوات منزلية مرمية بالخطأ أو لعيب فيها، ألبسة وأحذية، أكياس من النايلون..).
تنهار جبال القمامة بين أيدي النباشين ومعاولهم وتتحول مثل سابقاتها إلى كوم صغيرة على طول المكب وعرضه قبل أن يغادروها بأكياسهم مختلفة الامتلاء ليعيدوا تدوير ما عثروا عليه، متناسين ما قاسوه اليوم في رحلة بحثهم ومتجاهلين ما يمكن أن ينقله عملهم من مخاطر صحية على حياتهم وحياة أطفالهم.
فرز أول
الرائحة التي لا تنفذ إلى أنوف النباشين بفعل الاعتياد تخز أنفك كلما اقتربت أكثر من كوم القمامة الجديدة، تحدّي الرائحة لا يفيد سوى بتصاعد درجات الصداع، وأنت تشاهد الأيدي مثل ماكينات تفرز ما تجده، ترمي ما لا يمكن إعادة تدويره وتفرز ما يمكن الاستفادة منه في أكياس قبل نقلها إلى الخيام.
(هناء) نباشة في العقد الرابع من العمر، قالت إنها تخصص كيساً للمواد البلاستيكية من أكياس وأحذية، آخر للأشياء المعدنية من فوارغ وعلب وأسلاك إضافة لمواد بلاستيكية غير تلك التي لقمتها الكيس الأول، وكيساً للـ “الأغراض المفيدة”!. لم تجب عن معنى الأغراض المفيدة، سيدة بجانبها قالت إنها تعني “أوان منزلية، ألبسة، أحياناً مواد غذائية ومعلبات”.
ليس هناك قانون حول هذه المهنة يفرض عمليات الفرز تلك، لكن عرفاً بدأ ينظم العملية الفوضوية، لكل كيس محتواه ومصيره بعد خضوعه لعملية فرز ثانية تكون بعد العودة إلى المنازل أو الخيام.
فرز ثان
قبل أن تغسل أم أحمد، إحدى النباشات في مكب قاح، يديها وتبدلّ ثيابها المتسخة تبدأ بفرز ما وجدته اليوم وتفرزه إلى مواد للحرق، تستخدمها في الطهي والتدفئة، وأخرى للبيع لتلبية احتياجات عائلتها، أما القسم الآخر فيكون للاستعمال المنزلي أو التوزيع.
على عجل تستعيد أم أحمد صفتها كربة منزل، تنزع عنها ما يشي بصفتها القديمة كنباشة، وتجلس أمام الببورية (موقد محلي الصنع وقوده الحطب) لتصنع كأساً من الشاي لي ولزميلاتها في العمل اللواتي اجتمعن حولها.
لا حطب يغذي الببورية، بعد أن تجاوز سعر طن الحطب حاجز المئتي دولار، وهو ما يدفع أم أحمد وسيدات أخريات لإيجاد وقود بديل، تحمل بيدها لفافات من الأكياس تضعها في الببورية في انتظار غليان الإبريق، تقول “نحن لا نقتني المواقد العاملة على الغاز، ثمن الأسطوانة الواحدة اليوم تجاوز 500 ليرة تركية، نصنع الببورية ونشعلها بهذه الأكياس، نطبخ ونغلي المياه عليها، هي تكفينا عوز الحاجة لأي وقود آخر”.
تروي أم أحمد وثلاث عاملات أخريات تحدثنا معهن أن عمل النباشة لا ينتهي بعودتها إلى المنزل، إذ تجلس كل سيدة لساعات طويلة وهي تلف الأكياس التي جمعتها حول بعضها البعض، وتضغطها لتشكل لفافة بطول شبر أو شبرين تربطها بخيط يمنعها من الانفلات، ثم تخزنها داخل أكياس يستخدم قسم منها كوقود للببورية أما القسم الآخر فيخزن في مكان داخل خيمة ليكون وقود مدافئ الشتاء، تضحك إحداهن وهي تقول إن “الصيف لا ينتهي إلا مع امتلاء خيمة التخزين بلفافات الأكياس والأحذية”.
أسلاك الكهرباء النحاسية كنز النباشين الأكثر حظاً، يلي ذلك “نايلون البيع” والحديد، هكذا قسّم نباشون مواد البيع التي يجدونها في مكبات القمامة من حيث الأهمية والسعر، إذ يباع كيلو غرام النحاس بـ 80 ليرة تركية، أما “النايلون” فيباع بـ 3 ليرات والحديد بليرتين تركيتين.
لا يوجد دخل ثابت للنباشين، لكن نباشين قدروا دخلهم اليومي بما يتراوح بين 30 إلى 150 ليرة تركية، فقط من المواد المعدّة للبيع، يضاف إليها مواد الحرق التي تقدّر بنحو 50 ليرة يومياً، إذ تغنيهم عن شراء وقود الطهي والتدفئة، ويفسّر الفارق الكبير في الدخل نوع المواد الملتقطة والقدرة على البحث دون أن نغفل الحظ كسبب رئيسي في ذلك.
الحظ هو ما جعل سيدات في مخيم شمالي إدلب، يطلقن لقب المغناطيس على أم سالم، تقول علياء، 28 عاماً، إن سبب التسمية يعود إلى قدرتها على التقاط الأدوات المنزلية من المكب، إذ توزع أم سالم عليهن ما تحتاجه مطابخهن من أدوات حادة مثل السكاكين والملاعق وحفارات الخضار و غيرها من الأدوات.
في خيمة أم سالم “سطل كبير مليء بأدوات المطبخ”، لا تردّ أم سالم محتاجة، تقول وهي تشير إلى مكان “السطل” إنها تجد مثل هذه الأشياء في المكب، تقوم بفرزها وغسلها جيداً مرات عديدة ثم تضعها في هذا المكان لمن يريد.
لا يقف الأمر عند أدوات المطبخ الصغيرة، من سكاكين وملاعق وغيرها، أحياناً تجد النسوة “طناجر وصوان وأباريق وأشياء أخرى، غالباً ما تكون معوجّة أو ربما مثقوبة أو بمسكة مكسورة، يقمن بإصلاحها واستخدامها من جديد”.
تضيف أم أحمد مواد أخرى مثل الألبسة لما يجده النباشون في المكبات. وتقول سيدة شاركتنا تعمل في المكب ذاته إن الثياب الداخلية أكثر ما تجده النباشات، دون أن تقدم سبباً لذلك، وتصفها بأنها “شبه الجديدة”، يغسلنها بالكلور ويستخدمنها أو يبعنها، أحياناً تجد النباشات ثياباً أخرى مثل “التفريعات والفيزونات والعباءات والفساتين، تقمن بإصلاحها أو ترقيعها إن لزم الأمر، لكن ذلك يكون نادراً” على حسب قولها.
بينما تتحدث علياء عن القفازات التي يرتديها قسم من النباشين، هي الأخرى من المكب، على حد قولها، إذ “لا تصلح للحرق أو البيع، يرتدونها بعد غسلها، هي رقيقة لذلك قد يرتدي النباشون أكثر من زوج منها معاً”.
ضحايا أم تجار
“لا يمكن لأحد أن يكون سعيداً بالبحث في مكب بين النفايات والرائحة الكريهة”، أستعير هذه الجملة من تقرير صحفي عن نباش في مدينة غزة قال إنه “لا يريد هذا العمل ولكنه لن يترك أطفاله يتضورون جوعاً في الوقت ذاته”. تقرير آخر عن أطفال نباشين في منطقة الزرقاء في الأردن أورد المعنى ذاته تقريباً، ووصف كيف ينتظر الأطفال خلو الشارع من المارة قبل أن يذهبوا إلى بيوتهم، يرمون في أيدي أمهاتهم ثيابهم وما جنوه من عملهم قبل أن يستعيدوا حياتهم كأطفال من جديد بعد الاستحمام.
في دمشق يبدو العمل منظماً بشكل أكبر، إذ يوجد سماسرة كبار يوزعون المكبات على النباشين ويتقاضون مبالغ منهم حول ذلك، وقدّر تقرير لصحيفة الوطن الموالية للنظام ما يجنيه النباش بعشرة أضعاف راتب موظف حكومي وبضعفي راتب موظف في القطاع الخاص. أما في إدلب فأكثر الجمل التي تداولها النباشون في إجابة على سؤال حول سبب عملهم “هي مهنة، أفضل من التسول، ما في شغل، ما لقينا أحسن، يعني نموت من الجوع والبرد”.
تصف أم علياء 50 عاماً عملها وابنتها في نبش القمامة بـ “تدبير للوضع الحالي”، فقسم من العاملين “دفعته الحاجة لذلك” وهناك “من يتخذه كعمل اعتاده رغم عدم حاجته المادية، بعض النسوة يعملن في النبش لتأمين مصروفهن الشخصي”، أما القسم الأكبر فـ “تدفعه الحاجة قبل أن يتحول العمل إلى مهنة بمرور الزمن”.
عمالة أطفال ومخاطر صحية
نحو ثلث من شاهدناهم في مكب نفايات قاح كانوا من الأطفال، وهو بحد ذاته يمثل إهداراً لحقوقهم الأساسية التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية الطفل، إضافة لما يتركه عملهم في مكب النفايات من مخاطر صحية ونفسية عليهم.
ليست الأرقام صادمة، خاصة وأن تقريراً نشره منسقو استجابة سوريا في شباط الماضي أوضح أن عدد الأطفال العاملين ضمن الفئة العمرية (14 – 17 عام) يتجاوز نسبة 37 % من إجمالي الأطفال الموجودين في مخيمات النازحين.
طريقة تعاطي الأطفال مع المخاطر الصحية للعمل في مكب النفايات كانت صادمة، إذ نقلت لنا هناء مواقف وصفتها بـ “الغريبة” صادفتها خلال عملها وحديثها مع نباشين صغار في المكب، تقول “كان يعمل قربي يافعٌ بعمر 14 عاماً، وجد قرنبيطة، حملها وابتعد بضعة أمتار وبدأ يأكل منها، حاولت تحذيره من الضرر فأجابني عادي يا خالة ما بيضرنا شي”، وأضافت “مشهد الأكل في المكب لم يعد غريباً فقد شهدته مرات عديدة، خاصة الأطفال فعندما يجدون فاكهة أو خضار يمسحونها و يأكلون منها”.
علياء ذكرت مايخص الطعام أيضاً، قالت إن نباشين في المكب لا يفوتون حتى المعلبات الفاسدة، و أضافت أن إحدى النسوة وجدت كمية من علب المرتديلا الفاسدة أو منتهية الصلاحية، أكلت منها هي وأطفالها ووزعت منها أيضاً.
في المكب حالات مصابة بأمراض جلدية خاصة في اليدين، وأخرى مصابة بأمراض الجهاز التنفسي بسبب روائح القمامة و الاعتماد على البلاستيك في مواقد الطبخ والتدفئة.
خالد طفل بعمر 12 عام، امتلأت يداه بالبثور والبقع السوداء، لم نعرف طبيعة مرضه الجلدي، لكن ما تسنى لنا معرفته من سيدة في المكان “أنه ومنذ أشهر وهو يعاني من مرضه الجلدي هذا، وأنه يتجاهل ذلك هو وأهله”، على حد وصفها. طفل آخر كانت يداه مليئة بالجروح التي تركها دون تعقيم، قال إن سبب ذلك يعود للعلب المعدنية التي تجرحه خلال بحثه في النفايات، وإنها ستشفى وحدها دون علاج أو طبيب، لقد اعتدنا على الأمر.
لم يبد الطبيب أمجد الصطوف أي دهشة من انتشار الأمراض عند النباشين فـ “تعامل الأطفال والناس مع النفايات هو تعامل مع الانتانات بشكل مباشر”، وقال إنه ومن خلال المراجعين لعيادته لاحظ زيادة في أعداد المصابين بـ “انتانات معوية شديدة وإسهال جرثومي، حالات الكوليرا، حالات لمصابين بطفيليات وديدان بشكل كبير لدى الأطفال”، وأرجع السبب “للابتعاد عن شروط النظافة والتعامل مع النفايات، أيضاً لحشرات النفايات الحاملة للانتانات والأمراض سواء الجلدية مثل اللشمانيا أو غيرها أو الناقلة المسببة للأمراض الهضمية”.
أوضحت دراسة نشرت في مجلة الطب الشرعي وحقوق الإنسان المخاطر الصحية للتعامل مع النفايات، كان أبرزها التعرض للأدوات الحادة والمواد الكيميائية والبيولوجية الضارة، والكيماويات الصناعية والمنزلية، إضافة للمخاطر البيولوجية الناتجة عن نفايات الطعام المتعفنة والمناديل الورقية المستعملة وغيرها من المواد وما تحتويه من مسببات الأمراض من جراثيم وطفيليات وبكتيريا وفيروسات، كذلك مخاطر النفايات الطبية والتي قد تنقل أمراضاً خطيرة مثل التهاب الكبد الوبائي، أيضاً التعرض للعض من قبل حيوانات وقوارض تنتشر في مثل هذه المكبات، أو الأمراض المنقولة بوساطة الذباب والبعوض الذي يجد في المكبات بيئة خصبة لتكاثره، وما يسببه حرق النفايات من تولد غاز الميثان الذي يسبب الاختناق وأمراض الجهاز التنفسي.
لا يمكن مطالبة النباشين بالتوقف عن عملهم دون تأمين بدائل تغنيهم عنه، ومع غياب الجهات الرسمية عن إيجاد حل للحدّ أو قوننة عمل النباشين في إدلب، وتزويدهم بالمعدات، تبقى توعيتهم بالمخاطر الصحية وضرورة اتخاذ الاحتياطات من كمامات وقفازات عازلة حلاً جزئياً لا يشمل الأطفال الذين يتوجب على الجهات كافة السعي لإعادتهم إلى مقاعد الدراسة وحماية حقهم في التعلم والنمو والحياة.