مع بزوغ فجر كل يوم، تحضّر أم محمد، 45 عاماً، زوادة من أرغفة خبز مدهونة بالزيت والزعتر تطلق عليها اسم “سندويش الدراويش” ثم تسارع رفقة بناتها الأربع بالتوجه من خيمتها إلى نقطة تجمع عاملات وعمال ورشة الشفلح لانتظار السيارة التي ستقلهنّ من المخيم إلى مركز فرز وتعليب ثمرة الشفلّح أو القبّار.
أصوات العاملات كانت خافتة خشية أن يصحو أطفال بعضهنّ داخل الخيام القريبة من مكان وقوفهنّ وهنّ يكسرن سكون الفجر، يتهامسن بينما يسردن أحداث يومهنّ السابق، كيف أمضينه بعد أن افترقن عند نزولهنّ من السيارة في النقطة نفسها التي ينتظرن فيها الآن.
لا يطول الطريق من مخيم مرام، الواقع على طريق معارة الإخوان، إلى بلدة حزانو شمالي إدلب حيث المركز، ومع ذلك تسرد كل واحدة منهنّ قصة حياتها وحياة من تعرفهنّ، بحسب أم محمد التي لا تشارك في الحديث أحياناً، فخيالها يسرح بذكريات ما قبل التهجير، قبل أن تفقد أطفالها بسبب القصف.
تتبادل النسوة الحديث طوال الطريق عن التزامات تنتظرهن في المنزل بعد انتهاء العمل، وعن استقبال أطفالهنّ حين العودة وكأنهنّ آتيات من سفر طويل. تمتنع أم محمد عن المشاركة في هذا الحديث وتبتسم ابتسامة ممزوجة بالحسرة والحزن وهي تحدث نفسها “لا شيء ينتظرني عند عودتي إلى المنزل”، فأبو محمد ذهب إلى عمله وبناتها معها، أما أطفالها الآخرون فقد قضوا في قصف للطائرات على بلدة كفرنبل حال نزوحها من بلدة التوينة بريف حماة الغربي منذ أعوام.
تعمل أم محمد وباقي العاملات في المركز نحو تسع ساعات يومياً عدا يوم الجمعة، تفرز مع بناتها نحو مائة كيلوجرام يومياً، ما يوفر لها مبلغاً تستطيع به مساعدة زوجها وإعالة أسرتها.
عشبة الشفلح نبات ينتمي إلى الفصيلة القبارية، وهي شجيرة معمرة وشائكة ذات أوراق خضراء يصل طول الواحدة منها إلى 70 سم، أزهارها وردية بيضاء ويوجد بها عدد كبير من الأسدية البارزة ذات اللون البنفسجي الفاتح، كما أن لهذه الشجيرة ثمار كمثريّة لونها أخضر داكن.
في الشمال السوري، امتداداً من مدينة الباب وصولاً إلى مدن وبلدات ريف إدلب يشكل العمل بموسم الشفلح مصدر دخل موسمي لعائلات تجد فيه فرصة لسداد الديون أو لشراء احتياجات الأسرة المختلفة. هذه النبتة صارت في الآونة الأخيرة محور اهتمام لعدد من المصانع المحلية التي تحاول استغلالها لأقصى حد من خلال عملية دقيقة تبدأ من القطاف وتنتهي بالتصدير.
ورشات الشفلح ليست بالجديدة على المنطقة، فعلى مدى عقود مضت كانت الأسر تشكل ورشاً عائلية تخرج في الصباح لقطاف وتجميع الثمرة وتعود ظهراً خوفاً من خروج الأفاعي، ثم يرجعون للقطاف بعد الظهر حتى غياب الشمس.
بالنسبة لكثر لا يعرفونها، ترسم هذه النبتة إشارة استفهام عن سبب جمعها وارتفاع سعر الكيلوغرام الواحد منها مقارنة بنباتات أخرى، ومَن هي الجهات التي تقف خلف جمعها، فكل ما كان يُعلم عنها أنها كانت تصدر (إلى الخارج) لأغراض دوائية بحسب أبو غسان، صاحب محل قديم بريف حماة الشمالي، كان يشتري ثمار الشفلح ويبيعها للتجار دون أن يعلم تفاصيل استعمالها.
لكنّ الجديد اليوم هو توسع مراكز التجميع من أصحاب محال يجمعون كميات قليلة لا تتعدى برميلاً واحداً إلى مراكز كبيرة تستقبل ورشاً أخرى غير ورشة القطاف للعمل بفرز الثمرة وتخليلها وتعليبها ضمن مرطبانات كوجبة غذائية تسمى “مكدوس الشفلح”، وهي وجبة تشبه في طريقتها مكدوس الباذنجان الذي تموّنه عائلات، كوجبة إفطار شهية ومكوّن أساسي في المطبخ السوري.
في بلدة حزانو، تلتقي عشرات النسوة مع بناتهنّ للعمل في مركز مخصص لتعبئة ثمرة الشفلح، أغلبهنّ من مخيمات مجاورة للبلدة، مثل مخيم مرام على طريق معارة الإخوان والتح وكفرومة في بلدة كللي والكمونة جنوبي مدينة سرمدا، بالإضافة لعاملات من داخل البلدة.
يبدأ العمل بإزالة الشوائب والعيدان وفرز الحبات بحسب الحجم إلى حبة صغيرة ومتوسطة وكبيرة، وتوضع داخل براميل مخصصة ومرقمة، تمهيداً لتصديرها إلى تركيا ومنها إلى دول العالم، بحسب أصحاب المعامل الذين قابلناهم، ليدخل في تركيب أدوية ومواد تجميل.
مخلل الشفلح أو القبار يحضّر مثل باقي المخللات بغسله جيداً ثم حفظه بالماء والملح وروح الخل أو بالماء والملح والقليل من السكر، ومنهم من يضيف إليه الثوم، ثم يحكم إغلاق المرطبانات. أما مكدوس الشفلح فيغمس بالماء المغلي ثم يضاف إليه القليل من الملح والفليفلة الحمراء الناعمة ويغمر بالزيت ويحفظ في مرطبانات محكمة الإغلاق تمهيداً لتصديرها مع المخلل.
لم يشتهر مخلل ومكدوس الشفلح كثيراً في المنطقة إلا أن إعجاب العاملات اللواتي تذوقنه بنكهته وحديثهن عنه أمام معارفهن وأقاربهن جعله يدخل مطبخ بعض السوريات في المنطقة لتجريبه. وتتوقع أم محمد أن يصبح صنفاً أساسياً على المائدة السورية في الأعوام القادمة لما سمعت عن فوائد هذه الثمرة أولاً ولكونه لذيذ الطعم ثانياً.
تتمتع عشبة الشفلح بنكهة لاذعة وتستخدم كبهارات للطعام أو كعلاج، فهي تحتوي على عدة فيتامينات إضافة للألياف، وبحسب مواقع إلكترونية طبية فإن لها فوائد طبية مختلفة، فهي مفيدة لمرضى السكري في بعض الحالات، وتساعد في تقليل أمراض متعلقة بالعظام، كما تحمي من الحساسية كالطفح الجلدي والربو وتساهم في الوقاية من أمراض جلدية، وتساعد على الهضم وإنقاص الوزن.
تتقاضى العاملات من أربع إلى ست ليرات تركية مقابل فرز كل كيلوغرام بحسب حجم الثمرة، وكلما كانت الثمرة أصغر كلما كانت أجود وأعلى سعراً. تستطيع العاملة منهنّ فرز ما يتراوح بين 20 إلى 30 كيلوغراماً يومياً، أما ساعات العمل فتبدأ من الخامسة والنصف صباحاً حتى الثانية ظهراً، تتبادل خلالها النساء الأحاديث والهموم، وتقوم بعضهن بشراء الطعام أو القهوة أو خبز الصمون لسدّ جوعهنّ.
أثناء العمل تجلس “أم محمد” وبناتها بصحبة جارتها السابقة في بلدة التوينة بريف حماة الغربي أم محمود، تحدثها عن الكهرباء والماء المتوفرين في مدينة معرتمصرين التي استأجرت بيتاً فيها بعد أن تركت خيمتها في مخيم مرام، ومتانة السقف الذي لا حرّ تحته كحرّ الخيام.
يصطحب أبو محمود زوجته يومياً عبر الدراجة النارية إلى مخيم مرام حيث نقطة انطلاق العاملات من المخيم إلى المعمل، تحاول فرز أكبر قدر من الثمار التي بحجم حبة العدس لأن ثمن فرزها أكثر من غيرها، تقول: “علينا التزامات كثيرة، أهمها دفع إيجار المنزل وعمل زوجي لا يكفي عائلتي المؤلفة من سبعة أبناء”.
يتقاسم العمال والعاملات المهام، ففي المستودع بين 15 إلى 20 شاباً ورجلاً، يتولون مهام المحاسبة وإحضار الشفلح من المراكز الصغيرة إلى المستودع، وأعمال التحميل والتنزيل من السيارات، بينما يعمل قسم منهم على الغربال الحديدي حيث يفرز الشفلح حسب حجمه، وغيرهم يحملون الشفلح المفروز وغير المفروز من القاعة التي تجتمع فيها النساء للعمل.
في معمل حزانو يتقاضى المحاسب 150 دولاراً شهرياً بينما يتقاضى كل عامل من أربع إلى سبع ليرات تركية مقابل كل كيلوغرام يقومون بتحميله وتنزيله وغربلته، “بحسب المهمة تحسب الكمية ويقسم المبلغ على جميع العمال” يقول صاحب المعمل الحاج رحمون، 55 عاماً.
في الشمال السوري معملان لتجميع وفرز وتخليل و تصدير ثمرة الشفلح، واحد في بلدة حزانو وآخر في بلدة كفر يحمول شمالي إدلب، وهناك العديد من المراكز الصغيرة في مناطق متفرقة قريبة من المعامل مثل مدينة معرتمصرين وبنش والفوعة وغيرها، يحول فيها صاحب المنزل قسماً من منزله إلى مركز لشراء الشفلح وحفظه مؤقتاً قبل إحضاره إلى المعمل.
في بلدة الفوعة شمالي إدلب، تجتمع عاملات داخل منزل مصطفى الديك، 28عاماً، من بلدة كفرومة بريف إدلب الجنوبي، لفرز ثمرة الشفلح وتجميعها داخل براميل مخصصة وإضافة الماء والملح لحفظها من الفساد، وعند اكتمال الكمية كل عشرة أيام تقريباً يأخد مصطفى البراميل لبيعها في المعامل القريبة.
مع بداية الموسم يشتري مصطفى الشفلح بسعر يترواح بين 35 إلى 40 ليرة تركية للكيلوغرام الواحد، يقول “ورشتي كلها من الجارات وبناتهنّ، زوجتي أيضاً تعمل معنا، فالعمل بموسم الشفلح فرصة ذهبية لتأمين حاجيات المنزل من مؤونة وغيرها في ظل قلة فرص العمل”.
تصدّر إدلب شمالي سوريا نحو 2900 طن سنوياً، يفرض على الطن الواحد رسوماً بقيمة 5 $ بحسب حمدو الجاسم، من مكتب علاقات وزارة الإقتصاد بحكومة الإنقاذ، أما من معمل منطقة الباب شمالي شرق حلب، فتبلغ الصادرات من الثمرة ذاتها نحو 1000طن سنوياً، يتم تصديرها بشكل دوري على عشر دفعات خلال الموسم كاملاً على مدى أربعة أشهر كل دفعة 100 طن بحسب “أبو البراء” محاسب في معمل مدينة الباب.
يبدأ موسم الشفلح في سوريا مع مطلع شهر أيار ويمتد لخمسة أشهر تقريباً، وأوج قطافها بين شهري حزيران وآب. ومع اقتراب نهاية هذا الموسم استطاعت أم محمد توفير مبلغ يكفيها لإعداد مؤونة الشتاء مثل الملوخية والباذنجان المقدد والمربيات، وتؤكد بابتسامة رضا مرسومة على وجهها أنها خصصت مبلغاً لشراء قشر الفستق والحطب لتشغيل المدفأة تحضيراً للشتاء القادم.