أكوام من الثياب المتسخة تتراكم في سلة الغسيل المركونة بزاوية خيمة فاطمة، 37 عاماً، بعد أيام من الحرّ قضاها أطفالها تحت سقف الشادر المصنوع من “النايلون” في مخيمات كفردريان شمالي إدلب.
خزان المياه الفارغ بعد توقف المنظمة الداعمة عن تزويد مخيمهم بالماء وعجزها عن شرائه من الصهاريج جعلها تلجأ لاقتراض كمية قليلة من الماء جمعتها في أواني المطبخ من خزان صديقتها التي تبعد عن خيمتها أمتاراً قليلة.
تراقب فاطمة طريق المخيم بين الفينة والأخرى بانتظار عودة زوجها مجبور الخاطر بحصوله على عمل يكسب منه ما يسد احتياجاتهم اليومية وأهمها الماء، علّها تغسل ملابس أطفالها وتنظف أرض خيمتها التي لم ترَ الماء منذ أيام.
وبالفعل كان زوجها محظوظاً اليوم بعد أن حصل على فرصة عمل تقاضى منها 70 ليرة تركية أجرة عامل مياومة في الإنشاءات والبناء، دفع منها 50 ليرة ثمن تعبئة خزان المياه بسعة خمسة براميل قبل أن يدخل الخيمة.
عقدة حاجبي فاطمة انفكت عن وجهها بعد أن رأت زوجها يتجه نحو البيت رفقة الصهريج، لكنها فرحة لم تدم طويلاً بعد أن علمت أن ما بقي في جيبه لا يكفي لشراء الخبز، تقول “تعب يوم كامل طار مع الريح قبل أن نأكل أو نفكر باحتياجات المنزل، ليس هذا فحسب، نحن ندفع ثمن الماء مرتين، مرة عند تعبئة الخزان وأخرى عند سحبه من حفر الصرف الصحي”.
منذ مطلع عام 2024، صار الانسحاب التدريجي للمنظمات الإنسانية وإيقاف مشاريعها الخدمية أمرًا واضحًا، وعليه حذر فريق “منسقو استجابة سوريا” من أن أكثر من ألف مخيم للنازحين شمالي غرب سوريا يشتكون من انقطاع المياه بشكل كامل بسبب توقف دعم هذا القطاع وسط ارتفاع درجات الحرارة، مناشداً المنظمات الإنسانية والجهات المحلية، لتأمين المياه بشكل فوري. وأشار الفريق، في بيان نشره على معرفاته الرسمية، إلى ارتفاع تكلفة شراء المياه، وعجز 80% من النازحين عن توفيرها.
فاطمة واحدة من سيدات أخريات يواجهن، بسبب انقطاع المياه عن المخيمات شمال غربي سوريا، تحديات تختلف باختلاف ظروف كل أسرة، وقد لا تكون ريم المحمد، مهجرة من ريف حماة الغربي إلى مخيمات سرمدا شمالي إدلب، أفضل حالاً من فاطمة، فهي تتشارك مع ثلاث عائلات من أقربائها خزان مياه خصصته لهم إحدى المنظمات سابقاً.
تشترك العوائل الثلاث بتعبئة مخصصاتهم من الماء (40 لتراً يومياً لكل فرد من العائلة) كونه يتسع لنحو 1500 لتراً، وكان الوفاق سائداً لأن الماء كان مجانياً ويكفي احتياجهم اليومي، إلا أن الحال تبدّل بعد انقطاع الدعم عن المخيم، وبدأت أصواتهم تتعالى بشكل شبه يومي متبادلين الاتهامات بإسراف المياه وعدم التقنين بها في ظل احتياجات كبيرة لاستخدام المياه في فصل الصيف.
تتحدث ريم غاضبة وهي تلعن الحال الذي هم فيه واصفةً إياه بـ “الموت البطيء”، تقول “حتى الماء قطعوه عنّا، صار علينا شراء كل شيء، ولا نملك عملاً ولا مصدر دخل، لا أحد يشعر بنا لا منظمات ولا حكومات”.
شهد قطاع المياه والإصحاح وقطاعات المواد غير الغذائية تراجعاً ملحوظاً منذ بداية العام الحالي، بحسب مهندس في منظمة إحسان (فضل عدم ذكر اسمه)، التي كانت تتلقى دعماً من منظمة اليونيسف في الأعوام السابقة إلا أن مشاريعها المتعلقة بتزويد المياه توقفت مع بداية العام الحالي حالها حال منظمات أخرى.
يتوسع انقطاع الدعم بشكل متسارع ضمن مخيمات شمال غربي سوريا من قبل المنظمات، إذ ينتشر يومياً خبر توقف الدعم عن مخيمات جديدة في المنطقة، لتصل نسبة الاستجابة ضمن القطاع إلى 22% فقط بحسب فريق “منسقو الاستجابة”.
تغيرات كثيرة طرأت على قائمة الأولويات خلال الأشهر الستّ الأخيرة، فبعد انقطاع السلل الغذائية عن المخيمات تصدّر الغذاء قائمة الاحتياجات التي يجب على رب الأسرة اقتطاع جزءٍ من أجور عمله غير المستقر لتأمينها. أخيراً حلّ الماء مكان الغذاء كونه احتياج أساسي لا يقل أهمية عن الغذاء بل ويتفوق عليه، تقول ريم متسائلة “كيف سيكون حال الناس الذين يشترون الماء بالدَّين بعد أشهر قليلة؟”.
هذه الخدمات كانت مجانية قبل انقطاع الدعم عن المياه والإصحاح (الصرف الصحي والنهوض بالنظافة المعروفة باسم wash) عن معظم منظمات شمال غربي سوريا. يشمل هذا القطاع خدمات سحب الحمأة من الجور الفنية، وترحيل القمامة والنفايات من المخيمات إضافة لخدمة تزويد مياه الشرب، وعلى الأسر بعد انسحاب المنظمة من أي مخيم تنفيذ هذه الأنشطة على حسابهم الشخصي.
أمراض جلدية وأخرى معدية أصابت أطفال ريم وجاراتها في المخيم، منها الجرب والقمل في ظل عجزهم عن تأمين المياه، تتنبأ ريم بانتشار هذه الأمراض بشكل يصعب السيطرة عليه في حال استمر توقف المنظمات عن تزويد المخيمات بالمياه لفترات أطول، فتعقيم الملابس وغسلها و الاستحمام المنتظم له دور كبير بالحد من هذه الأمراض، ولا بد من توفر المياه لذلك.
تضطر ريم محرجة لنقل المياه مراراً من خيمة إحدى جاراتها، فزوج جارتها يملك صهريجاً لبيع المياه في المخيم والمخيمات المجاورة. تصفهم بالأوفر حظاً منها كونها لا تعيش كابوس انقطاع الماء الذي يبدأ بتوفير سعر خزان المياه إلى التقنين في الاستهلاك وتأنيب الزوج في كل مرة يراها تنظف أرض خيمتها المغبرة بسبب الطرق غير المعبدة.
تكرار المشاكل اليومية بين العوائل الثلاث دفعت إحداهنّ لمغادرة المخيم لآخر يتوفر فيه دعم المياه بعد أن تفاقمت المشاكل العائلية ووصلت حد الضرب والشتم وتكسير الخزان المشترك. تعزو ريم سبب المشكلة لعدم توفر المياه بالاحتياج المناسب لكل عائلة بشكل مجاني، فالعائلة المكونة من 5 أفراد تحتاج بشكل يومي لبرميلي ماء بتكلفة 30 ليرة تركية.
الأرملة ربيعة، 48 عاماً في مخيم صلوة شمالي إدلب، تضطر لدفع طفلها ذي الـ 12 عاماً للعمل كمرافق لصهريج يبيع الماء لسكان المخيمات، طمعاً في حصولها على الماء بشكل مجاني مقابل عمل الطفل لساعات طويلة تحت أشعة الشمس. تقول “أعلم مخاطر العمل وصعوبته واحتمالية سقوطه من أعلى الصهريج في طرقات المخيمات الجبلية الوعرة، إلا أني لا أملك خياراً آخر، فأنا أعجز عن توفير ثمن الماء”.
بيديه الصغيرتين وجسده النحيل يحاول الطفل أمجد سحب خرطوم صهريج المياه بطول عشرة أمتار وقطر 2 انش وربما أكثر، ليضعه فوق الصهريج عند الانتهاء من تزويد المياه لكل خيمة، يعيد سحبه ووصله بخزانات المياه مرات عدة خلال اليوم، يمسكه بكلتا يديه مخافة أن يسقط على الأرض فتهدر المياه، لكن محاولاته في الغالب تبوء بالفشل فيفقد القدرة على الإمساك به ما يدفع السائق لضربه وتوبيخه وتهديده بأن يستبدله بآخر أقوى منه.
لا تجهل ربيعة ما يحصل مع طفلها لكنها تتجاهل ذلك مبررةً أنها مجبرة هي وطفلها على تحمل الضغوط مقابل الحصول على الماء دون دفع ثمنه. تقول “مضطرين نتحمل التعب والاستغلال والمهانة كرمال نحصل ع المي ما في خيار تاني قدامنا” تدمع عيناها عندما تخبرنا بأنها تقوم بإجبار طفلها على الاستيقاظ فجر كل يوم قبل شروق الشمس عند رفضه الذهاب للعمل بينما من حقه النوم لوقت كافٍ دون همّ على حد وصفها.
ربيعة تؤكد أن أهالي المخيم مجبرون على مواجهة تحديات انقطاع المياه باستراتيجيات مختلفة منها التقنين الزائد في التنظيف وغسل الملابس والاستحمام، فلا طاقة لكثيرين على شراء الماء يومياّ، كما لا يستطيعون استعارة الماء من الجيران لأن ذلك سيجعلهم ينفرون إذا تكرر ذلك كثيراً، تقول ربيعة “بقول المثل ثقّل على أمك وأبوك بيكرهوك”.
فجأة وجدت مخيمات بأكملها نفسها مضطرة لإيجاد حلول دائمة لمشكلة ترحيل القمامة بعد أن توقف الدعم عنها أيضاً، ربيعه وجاراتها يشعرن بالحيرة مما سيفعلنه بالقمامة المتراكمة أمام خيامهنّ وحولها وفي نقاط متعددة من شوارع المخيم وعلى أطرافه.
انبعاث الروائح والحشرات من أكوام القمامة وتناثرها بشكل عشوائي بسبب عبث الأطفال بها أثناء بحثهم عن البلاستيك لبيعه، وكذلك القطط و الكلاب في الليل، خلق مشاكل عدة بين ساكني المخيم وزاد من انتشار الذباب والبعوض، فبحث بعضهم عن حلول مؤقتة مثل ترحيل القمامة بشكل فردي أو الاشتراك لتخصيص عامل بأجور يومية لترحيلها إلى أقرب مكب نفايات، لكن البعض ممن لم يشاركوا بالحلول السابقة يلجؤون لتجميعها وحرقها بالقرب من الخيام ما يعرضها لخطر الحرائق وانبعاث دخان حرق النفايات المزعجة، على حد وصفها.
يتزامن انقطاع دعم المياه عن المخيمات مع ارتفاع درجات الحرارة والحاجة لزيادة استخدام المياه في الاستحمام والتنظيف الأمر الذي قد ينذر بكارثة صحية وانتشار للأمراض والأوبئة وهو ما تواجهه المنشآت الصحية من مراجعة المرضى بأمراض جلدية عديدة. تقول الطبيبة العامة عائشة المحمد، إن حالات كثيرة من النساء والأطفال يراجعون عيادتها الخاصة بأعراض أمراض جلدية مثل الجرب واللشمانيا وغيرها من الأمراض المعدية، تفسر سبب ذلك بانتشار القمامة وعشوائية الصرف الصحي وقلة المياه واحتياجهم لها نتيجة سكنهم في الخيام.
أحمد، أحد قاطني مخيم إسماعيل آغا في قرية كلبيت شمالي إدلب، يصف حظه بـ “السيء” نتيجة موقع خيمته على أطراف المخيم ما جعل السكان يرمون القمامة في الأرض المجاورة لخيمته حتى صارت مكباً للنفايات لخلوها من الخيام، وقبل أن تتحول لمكب كانت فسحة للعب أطفاله وأصدقائهم ومتنفساً لهم في ظل عدم توفر أماكن للترفيه واللعب في المخيم. محاولات أحمد لمنع سكان المخيم من رمي الأوساخ في هذا المكان باءت بالفشل لعدم قدرتهم على دفع تكاليف نقل سيارات القمامة وزيادة الأعباء على الناس.
لم يكن فاتح أوفر حظاً من أحمد، فسكنه وسط مخيم المدجنة في قرية صلوة شمالي إدلب لم يمنع بعض سكان المخيم من تجميع القمامة بالقرب من خيمته. يقول “حاولت مراراً أن أقنعهم بأنها ستجذب الذباب، ما سيجعلنا عرضة للأوبئة والأمراض، عدا عن رائحتها المزعجة، لكن دون جدوى، مبررين ذلك بعدم وجود مكان مخصص لرميها وهم غير قادرين على دفع أجور ترحيلها دائماً”.
تتراوح أجور نقل القمامة بالسيارة الخاصة ما بين 400 إلى 500 ليرة تركية يتعاون مجموعة من سكان المخيم فيما بينهم لدفعها، لكن ذلك لا يتم إلا بعد امتلاء الحاويات ومحيطها وانبعاث روائح كريهة لمسافات بعيدة.
في تقرير عن الأوضاع الإنسانية شمالي غربي سورية، قالت الأوتشا OCHA “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” إن الارتفاع الشديد لدرجات الحرارة هذا الصيف والذي يصل لأكثر 40 درجة يؤثر سلباً على المخيمات التي يقطنها نحو مليوني شخص، مضيفة أن “نحو 80% من سكان المخيمات هم من النساء والأطفال، وكثير منهم يعيشون في ظروف مكتظة دون تهوية وتبريد مناسبة، فضلاً عن انعدام الخصوصية في الخيام”.
يناشد علي الخالد، مدير مخيم كوكبا غربي مدينة سرمدا، المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية للالتزام الأخلاقي تجاه سكان المخيمات شمال غربيّ سوريا والنظر في أحوال النازحين الذين يعانون الفقر وصعوبة العيش وقلة مصادر الدخل وفرص العمل وتقديم الدعم لمشاريع المياه والإصحاح بأسرع وقت.
وإلى جانب القمامة، بدأت الجور الفنية تفيض بالمياه العادمة (مياه الصرف الصحي) التي كانت تُسحب من قبل هذه المنظمات، ما ينذر بكارثة صحية أخرى بسبب انتشار الأوبئة والأمراض التي قد تصيب سكان المخيمات، وحذرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان من مخاطر انتشار الأمراض والأوبئة المنقولة بالمياه داخل المخيمات، معربة عن أسفها لتخفيض المساعدات الإنسانية للنازحين في سوريا، الذي جاء بعد تقليص مساعدات برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة نهاية العام الماضي، في جميع أنحاء سوريا، بسبب نقص التمويل.
روائح جور الصرف الصحي وامتلاؤها وتدفقها بين الخيام يشعر سكان مخيم المدجنة في صلوة بالقلق والخوف من انتشار الأمراض، فالمياه العادمة تجري في الشوارع وبين الخيام وفي أماكن لعب الأطفال، ما يؤرق سكان المخيم العاجزين عن إيجاد حلول في ظل توقف منظمة شفق عن تقديم خدمات المياه والإصحاح في المخيم.
عدنان الخالد أحد سكان المخيم، يقول إن المشكلة هذه المرة لا تُحل إلا بسحب المياه من جور الصرف بشكل دوري فطبيعة المخيم الجبلية تمنع امتصاص التربة للماء، كما أن الصخور لم تسمح لهم بأن تكون الجور ذات اتساع أكبر، ما يزيد الطين بلة على حد وصفه، فالحاجة الملحة لشفط الجور بشكل دوري هي خيار صعب وغير متاح أمام جميع سكان المخيم، خاصة أن أجور سحب الجور ليست بالقليلة حسب وصفه، فتكلفة شفط كل متر مربع 100 ليرة تركية، أي ما يزيد عن ثلاثة دولارات، وهو ما يعجز عن دفعه معظم سكان المخيم، يتمنى الخالد أن لا يبقى الوضع على هذا الحال فترة أطول.
محمد حاج أحمد، رئيس شعبة الاحتياج والتوجيه في دائرة المياه والإصلاح في مديرية المشاريع الإنسانية والتنموية، يوضح أن منح المنظمات تراجعت منذ بداية العام 2024 بسبب الأزمات الخارجية الدولية، ما جعل المأساة السورية قضية ثانوية ضمن القضايا الإنسانية العالمية.
ولاحتواء نقص دعم قطاع المياه ركزت وزارة التنمية في حكومة الإنقاذ على المشاريع المستدامة من خلال حفر بعض الآبار الجوفية ضمن المخيمات وتجهيزها، وتوجيه المنظمات لإنشاء محطات وشبكات مياه ضمن المخيمات، وتوسيع شبكات المياه القديمة لاستيعاب عدد أكبر من المستفيدين، كما قامت الوزارة بحملات لترحيل القمامة من مخيمات توقف عنها الدعم بالتعاون مع بعض المؤسسات العاملة في المنطقة، بحسب حاج أحمد.
أما عن ترحيل الحمأة من الجور الفنية فيقول حاج أحمد إن الوزارة قامت بتنفيذ مشاريع صرف صحي مثل مشروع طريق الحياة في كفرجالس شمال غربي إدلب، وهو مثال على مساعي استكمال تجهيز المرافق الخدمية الضرورية في مخيمات بعد توقف عمل المنظمات الإنسانية داخلها، كما ركزت المديرية على دعم المشاريع الصغيرة بكافة السبل المتاحة لدفع الأهالي والمهجرين إلى الاعتماد الذاتي في تأمين لقمة العيش، بحسب حاج أحمد.
تزويد المياه، ترحيل القمامة، وسحب الجور الفنية هي حاجات ملحة، وقطعها يعتبره متضررون كقطع شريان الحياة عن سكان المخيمات، فآثاره التي بدأت بالظهور والانتشار لن تقتصر على مخيم بعينه بل ستمتد إلى المنطقة كاملةً حسب توقعهم معتبرين أن قرارات الجهات المانحة هذه لا يمكن تبريرها.