فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

app-chat- freepic

مجتمعات افتراضية.. رزق وتواصل في آن معاً

مريم الإبراهيم

“اجلس في بيتك واحصل على المال”.. هذا هو شعار التطبيقات التي راجت أخيراً في الشمال السوري وجذبت إليها آلاف المستخدمين من الفقراء والباحثين عن العمل

في زاوية خيمته المهترئة خصص أحمد ركناً ينعزل فيه لساعات طويلة عن محيطه في عالمه الافتراضي مكتفياً بشاشة جواله، وصلة الشحن، إبريق الماء وكأس المتة المرافقة له طيلة جلسته التي تبدأ عصر كل يوم وتمتد إلى فجر اليوم التالي منتظراً أشعة الشمس لشحن جواله من جديد.

أحمد، شاب ثلاثيني عازب، فقد طرفيه السفليين في قصف جوي تعرضت له بلدته معرتحرمة، فبات حصوله على فرصة عمل من المستحيلات، حسب ظنه، ما دفعه للاشتراك ببرامج الدردشة المنتشرة في الشمال السوري بعد أن سمع أنها تساهم بتأمين بعض الدخل لمشتركيها.

أحمد واحد من عدد كبير من مستخدمي برامج الدردشة الاجتماعية في الشمال السوري، وهي تطبيقات تعتمد على الانترنت لنقل البيانات الصوتية والمحادثة وتبادل الهدايا الرقمية بين المستخدمين الذين لا تتوفر إحصائيات لقياس نسبتهم من نسبة السكان الإجمالية أو جنسهم أو فئتهم العمرية، إلا أن تقديرات غير دقيقة لوكلاء برامج من هذا الصنف تقول إنه قلّ ما يخلو بيت من أحد المستخدمين.

التحول الذي حدث في حياة أحمد بعد اشتراكه ببرنامج للدردشة الصوتية كان كبيراً حسب وصفه، فقد “صرتُ أشعر بمحبة أصدقائي الجدد واهتمامهم بي ودعمهم لي في لحظات الضعف”، يقول، إذ يدعم تطبيق Hawa ميزة الدردشة الصوتية التي تتيح لأحمد مشاركة همومه مع الكثير من أصدقاء العالم الافتراضي فيشعر بالارتياح.

لا عمر أو جنس محدد هنا

تجمع هذه التطبيقات شبان وشابات، أطفال وكبار سن، في مجموعات أو غرف، جلهم من الباحثين عن العمل والأرامل والمعوّقين، يتعاملون معها كوسيلة اتصال وعمل يومي يجب الالتزام به وبالمهام الموكلة لهم داخله.

ما أن تصل سلمى، امرأة في العقد الرابع من عمرها وأم لخمسة أطفال، من عملها بمعمل لفرز البلاستيك ببلدة قاح شمالي إدلب، حتى تسارع لتبديل ملابسها وإطعام أطفالها دون أن تأخذ قسطاً من الراحة، لتدخل إلى برنامج دردشة آخر مستعينةً بأحد أطفالها لكسب هدايا تمنح له أثناء تلاوة آيات من القرآن الكريم لتضاف قيمتها إلى رصيدها الشهري.

منذ خمس سنوات توفي زوج سلمى فصارت المعيلة الوحيدة لأطفالها، ولأن الأجر الذي تتقاضاه من العمل (80 ليرة تركية يومياً) لا يسد احتياجاتهم اليومية، وبعد تراكم الديون عليها، وجدت نفسها مضطرة للاستجابة لدعوة صديقتها لتحميل التطبيق والانضمام له، إذ يتفاوت دخلها بين خمسين إلى مائة دولار شهرياً.

بعد 13 عاماً من النزاع يرزح أكثر من ربع السوريين في فقر مدقع، بحسب تقريرين نشرهما البنك الدولي شهر أيار الفائت. طول فترة النزاع خلقت أزمات اقتصادية متلاحقة وجعلت ملايين السكان عاجزين عن تأمين احتياجاتهم الرئيسية.

في حين كشف فريق “منسقو استجابة سوريا” في تقرير يوضح مؤشرات الحدود الاقتصادية للسكان المدنيين في الشمال السوري خلال شهر أيار 2024 أن نسبة العائلات الواقعة تحت حد الفقر ارتفعت إلى 91,16%. كما ارتفع حد الجوع بنسبة 0,12% لتصل نسبة العائلات التي تعاني من الجوع إلى 40,9%، بينما تجاوزت نسبة البطالة 88% ما تسبب بعجز شرائي لدى السكان.

تبادل الهدايا أساس الربح

توفر هذه التطبيقات فرصة للمستخدمين ذوي التعليم المحدود لكسب المال من خلال التفاعل عبر الإنترنت، خاصةً أنها مصممة لتكون سهلة الاستخدام، مما يتيح للأشخاص الذين لا يملكون مهارات تقنية متقدمة المشاركة والاستفادة منها بحسب أحمد بربور، مبرمج ومصمم مواقع إلكترونية وصاحب مكتب نافذة ميديا في مدينة الدانا شمالي إدلب.

يشرح بربور، خوارزمية عمل برامج الدردشة الصوتية وكيفية تحقيق الربح للشركة والمستخدمين، إذ يبدأ المستخدم بتحميل التطبيق وتسجيل حساب جديد، ثم يختار اسم مستخدم وصورة ملف شخصي ثم الدخول إلى الغرف (الرومات).

الغرف هي مجموعات دردشة مختلفة تتسع لعشرات أو حتى مئات المستخدمين في وقت واحد. ثم يأتي دور التفاعل الصوتي بين المستخدمين عبر الميكروفون، ويمكن إرسال واستقبال هدايا افتراضية (مثل الورد أو العملات الرقمية) التي يتم شراؤها بالمال الحقيقي وتُترجم إلى عملات رقمية داخل التطبيق.

تحقيق الربح للشركة المبرمجة يكون من خلال بيع العملات الرقمية والهدايا للمستخدمين مقابل المال الحقيقي، تأخذ الشركة نسبة من كل عملية بيع أو تحويل للعملات الرقمية بين المستخدمين. كما قد تقوم الشركة بإدراج إعلانات داخل التطبيق كوسيلة إضافية للربح.

أما كيفية تحقيق الربح للمستخدمين فيكون من خلال تلقي هدايا افتراضية من مستخدمين آخرين تُترجم إلى عملات رقمية يمكن استبدالها بأموال حقيقية من خلال تحويلها عبر الوكيل المسؤول أو النظام المصرفي المتاح داخل التطبيق.

كثيرة هي الهدايا داخل التطبيقات، وهي رموز تعبيرية مثل القصور والسيارات والحيوانات والنباتات. تتدرج قيمتها بدءاً من الوردة الأقل قيمة بينها، وصولاً إلى القصر الأعلى قيمة، وتعادل الوردة 9 قطع ذهبية، بينما يصل القصر إلى 49999 قطعة ذهبية. بناءًا على سياسات الشركة يكون تحديد سعر صرف هذه الهدايا، فمثلاً كل 6000 قطعة نقدية قد تُساوي 100 ليرة تركية في بعض التطبيقات، وأقل أو أكثر في تطبيقات أخرى.

مجتمع متاح على مدار الساعة

الغرفة الواحدة تتسع لنحو ألفي مستخدم، يمكن الدخول إليها في أي ساعة، ولابد له من البقاء ثلاث ساعات متواصلة يومياً كحد أدنى. يمكن للموجودين تبادل الحديث في الوقت نفسه من خلال (المايكات) المتوفرة وعددها عشرون، يتحكم بها الوكيل والداعم والمشرف فيغلقونها إذا ما أرادوا منع أحد من الكلام أو في حال تجاوز أحد المستخدمين شروط المجموعة. كذلك يمكنهم نقل (المايك) بين المستخدمين الذين يرغبون بالتحدث لإعطاء الفرصة لهم، كما أن الدردشة المكتوبة متاحة للجميع في حين لا توفر هذه التطبيقات خدمة فتح الكاميرا أو مكالمات الفيديو.

بعد تحميل التطبيق وتسجيل الدخول إليه يمكن الاطلاع على المجموعات الكثيرة والمتنوعة لاختيار إحداها، والتحدث إلى المسؤول عن تلك الغرفة (الوكيل) فيقوم بإرسال معلومات العميل إلى الشركة المصممة للبرنامج التي تضيف هذا المشترك إلى الغرفة التابعة للتطبيق.

مستخدمو التطبيقات يصنفون ضمن ثلاث فئات، الداعم والوكيل والعميل. الداعم هو من يدعم العملاء ويحقق أرباحه من مبرمجي التطبيق مباشرة من خلال رفع مستواه تعويضاً عمّا ينفقه داخل (الرومات). والوكيل هو الذي يدير (الروم) ويجمع أكبر عدد من العملاء ويرشدهم إلى كيفية الاستخدام، وهو الوسيط المسؤول عن تسليمهم الأرباح من مبرمجي التطبيق، والعملاء هم المستخدمون الذين يسجلون الدخول إلى التطبيق وينفذون المهام فيجنون الربح.

رأس مال هذه البرامج هو هاتف ذكي واتصال بالإنترنت فقط، وعلى العملاء أداء مهامهم اليومية. لكن لا تقتصر خدمات التطبيقات على العملاء السوريين فحسب، إنما تضم المجموعات مستخدمين من مختلف البلدان العربية والأجنبية، منها السعودية، اليمن، مصر، الهند، اليابان والصين، بحسب لينا (طالبة جامعية).

تقول لينا إنها تسعى لأن تكون الأفضل داخل التطبيق من خلال أداء المهام والحوار الراقي، حسب وصفها، معتبرة أن صداقاتها داخل التطبيق لا تقل أهمية عن الصداقة الواقعية.

تكاليف الدراسة الجامعية، هي ما دفعت لينا لتحميل التطبيق والتسجيل فيه، وهناك ما يدعى targets أو أهداف يتم تسجيلها ضمن مخطط بياني لكل شخص، وهو يحتوي على عدد الساعات وعدد القطع النقدية من “ألماس” أو “قطع ذهبية”.

على العملاء شحن رصيدهم في التطبيق عبر حساب بنكي، إلا أن الحسابات البنكية غير متوفرة للقاطنين في الشمال السوري، ويقتصر توفرها على صالات الإنترنت المحلية ومكاتب حوالات مرخصة في تركيا يلجأ إليها المستخدمون لشحن أرصدتهم بعملات وهدايا.

تختلف قيمة الهدايا من تطبيق لآخر إلا أنها تتشابه بخوارزمية العمل وقيمة المردود الشهري وكثير من التفاصيل الإضافية. من هذه التطبيقات (YoYo، BoBo، VlGo، Hawa)، وغيرها من البرامج التي يصعب حصرها لكثرتها.

في نهاية كل شهر يحصل كل مستخدم على قيمة الهدايا التي جمعها، يطلقون عليها اسم الراتب الشهري، يكون ذلك بعد إرسال الشركة المصممة للبرنامج هذه المستحقات للوكلاء الموزعين حسب المناطق الجغرافية عن طريق مكاتب الحوالات، ليتم توزيعها على المستخدمين عن طريق حوالات شخصية في المكاتب المحلية.

تعويض عن العلاقات المفقودة

توفر تطبيقات الدردشة الصوتية في مناطق الحروب والنزاعات وسيلة للتواصل وكسب المال وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي. يرى المبرمج بربور أنه يمكن لهذه التطبيقات إنشاء شبكات اجتماعية افتراضية جديدة من خلال بناء صداقات وعلاقات جديدة، تعويضًا عن العلاقات المفقودة بسبب النزوح والصراع.

يقول:تسببت العزلة الاجتماعية الناتجة عن النزوح بقطع الروابط الاجتماعية التقليدية فكان التواصل الافتراضي عبر تطبيقات الدردشة الصوتية وسيلة للبقاء على اتصال مع الآخرين مما يقلل من الشعور بالوحدة والعزلة”، معتبراً أن السكان في مناطق شمالي غرب سوريا يعانون من صدمات نفسية وعاطفية.

ويضيف “هذه التطبيقات توفر منصة لتبادل الدعم والمشاركة في الحديث عن المشكلات والتحديات. ويمكن لهذه التطبيقات أن تمنح المستخدمين شعورًا بالانتماء لمجتمع افتراضي داعم، مما يساعد في تحسين حالتهم النفسية”.

دون قصد خسر حسن وزوجته دلال أصدقاء العائلة، كان عليهما حضور التحدي لـ “تقفيل” رصيدهما، والمقصود بتقفيل الرصيد بحسب دلال أن على المستخدم حضور تحدٍّ مسائي يحدد نهاية كل شهر لتبادل الهدايا والحصول على الدعم لاستكمال الحد الأدنى من الرصيد. تقول إن زيارة زميلتها المعلمة في المدرسة وعائلتها صادفت وقت التحدي، وهو فرصتهما الوحيدة وإلا فإنهما لن يحصلا على الحد الأدنى الذي يسمح لهما سحبه وسيعود رصيدهما للصفر مع بداية الشهر الجديد.

دلال استطاعت تقفيل رصيدها عند مبلغ 60$ وزوجها أيضاً حصل على المبلغ نفسه، إلا أنهما لم يسلما من انتقادات عائلة الأصدقاء وعتابهم لهما، حتى أن دلال التي تعمل معلمة للحلقة الأولى أعادت تبرير الموقف لزميلتها في المدرسة دون جدوى.

ما تجنيه دلال وزوجها من البرنامج يساعدهما كثيراً على تسديد الديون المتراكمة عليهما خلال الشهر. تقول إنها لم تكن راضية عن دخولها للبرنامج كونها معلمة ولن يرحمها المجتمع من الانتقادات، إلا أن أول ما تبادر في ذهنها حين اتخذت القرار مقولة “ما جبرك على المر غير الأمر” فراتبها الشهري الذي ينقطع مع انتهاء العام الدراسي بالكاد يكفي لثمن الخبز والقليل من المصاريف الأخرى.

الفقر والبطالة دفعا أرباب أسر لتفعيل حسابات لمعظم أفراد العائلة كوسيلة للعمل، مع أن شروط البرامج لا تسمح باستقبال الأطفال دون سن الـ 18، لكنّ أهالٍ استطاعوا تجاوز هذا الشرط بتقديم بيانات شخص آخر يحقق الشروط، غير أن الأطفال الذين يستخدمون البرامج هم أولئك اليافعون الذين يمكنهم استخدام البرامج، يكون ذلك بعلم الوكيل أو مشرف (الروم) لكنه يغض الطرف عن هذه التجاوزات مراعاة للظروف.

يتطلب ذلك امتلاك كل مستخدم ضمن العائلة جهازاً محمولاً، حتى يستطيع تحقيق شروط الحصول على الدعم كعدد الساعات الأطول التي يجب تسجيلها داخل التطبيق، ويمكن للمستخدم توظيف مهاراته داخل التطبيق مثل الغناء وإلقاء الشعر وقراءة القرآن، فهناك (رومات) ثقافية تهتم باختصاصات مختلفة.

الشروط المفروضة على المستخدمين تختلف من برنامج لآخر وتعتمد على سياسة الشركة وقوانينها، ومنها عدم الانفصال عن الوكالة إلا باتفاق بين العميل والوكيل، وتتم ضبط مساحات النقاش والحوار من خلال مراقبة وإدارة النظام من قبل الشركة، فتقوم الشركة بحظر اي مستخدم يسيء استخدام البرنامج إن كان بألفاظ نابية خادشة للحياء، أو بصور إباحية، كما توجد ميزات يعطيها الوكيل للمشرفين داخل (الروم) بقفلها وحظر أي مستخدم ووضع القوانين الثابتة.

إدمان واحتيال فردي

“غالباً ما تسعى الشركات العالمية الكبيرة ذات السمعة الحسنة للحفاظ على سمعتها، ما يزيد من نسبة الأمان ويقلل من احتمالية النصب على المستخدمين” بحسب المبرمج بربور مؤكداً أن الكثير من التطبيقات تعمل وفق عقود واضحة وسياسات استخدام معلنة. كما أن هذه الشركات تحقق أرباحاً كبيرة من خلال العمليات القانونية والمستمرة، مما يجعل النصب غير ضروري وغير مبرر لهم.

“قد تؤدي برامج الدردشة الصوتية إلى إدمان الشخص عليها، فيقضي ساعات طويلة يومياً مع الأشخاص الافتراضيين داخل التطبيق، والتفاعل معهم بكل شيء، مما قد يؤثر سلباً على حياته الاجتماعية والعملية، فقد يركن إليها ويترك عمله الرئيسي الذي كان مصدر رزق له قبل دخوله البرامج هذه”، يقول بربور.

ولأن برامج الدردشة الصوتية توفر ميزة المحادثات الخاصة داخل التطبيق يعتقد بربور أنها قد تسبب مشاكل للفتيات أو الشبان الذين قد يكونون ضحية عاطفية، لذلك يرى أن على المستخدمين أن يكونوا حذرين وأن يتحلوا بالوعي والانضباط في استخدامها، حتى لا تؤدي إلى آثار سلبية على حياتهم وعلى المجتمع بشكل عام.

سول شيل، أهلاً شات، يوهو _واكا، لايكي لايف، بيغو لايف هي أيضاً أسماء لبرامج دردشة صوتية توفر المال لمستخدمين وجدوا فيها حلاً لمشكلات مالية واجتماعية، تكثر قصص الاحتيال الفردي في هذه التطبيقات ولا تخلو بعضها من النجاح كما تصف ختام، أرملة تعيش وحدها في أحد مخيمات منطقة سرمدا، إذ عثرت على شريك حياتها عبر هذا التطبيق فسجلت في دفتر العائلة بخانة الزوجة الرابعة.