تطغى الفصائلية على الحياة العامة في منطقة عفرين، لا يعلو صوت أو سلطة فوق صوتها أو سلطتها، وهو ما يعيشه مزارعو المنطقة في كل عام من فرض لإتاوات تؤخذ عنوة بالتهديد والاحتجاز، دون قدرة على تجنبها أو اللجوء لمن ينصفهم، آخر هذه الإتاوات كان على موسم ورق العنب (الكرمة).
تراوحت الإتاوة المفروضة في منطقة عفرين عن كل كيلو غرام من ورق العنب بين نصف دولار ودولار ونصف الدولار، بحسب كل مكتب اقتصادي تابع للفصيل المسيطر، وغاب أي دور للحكومة المؤقتة بحماية المزارعين، وضربت بقرارات المجالس المحلية التي تفيد بمنع فرض الإتاوات على المزارعين عرض الحائط.
في منطقتي المعبطلي والشيخ حديد بريف عفرين فرض فصيل يتبع لفرقة السلطان سليمان شاه (العمشات) التابع للجيش الوطني دولاراً عن كل “جفنة عنب” في العام الحالي، لتدخل الكرمة في دفتر مكاتب الفصيل الاقتصادية وتلحق بمواسم سابقة مثل الزيتون والأشجار المثمرة، دون أن يتمكن الأهالي من الاعتراض، فالتّهم جاهزة والتهديد والضرب والاعتقال مصير من لا يدفع، بحسب من تحدّثنا إليهم.
يقول أبو عارف، يملك حقلاً من الكرمة في قرية المعبطلي، إن المكتب الاقتصادي لفرقة السلطان سليمان شاه فرض ضريبة قدرها دولار واحد عن كل “جفنة عنب” في حقله، حاله كحال مزارعي القرية بأكملها، وإن عليه أن يسددها قبل البدء بعملية القطاف وإلا سيتم الاستيلاء على الموسم بأكمله في حال التخلف عن الدفع أو الاعتراض على مبلغ الإتاوة.
يعبّر أبو عارف (وقد غيرنا اسمه خوفاً على أمنه وممتلكاته) عن غضبه سرّاً واستياء جميع من يعرفهم من ملّاك أراض ومزارعين لما يفرض عليهم من إتاوات، يقول إن التحصيل يحدث دون رقيب أو حسيب ودون مراعاة لحقوق الفلّاح بأرضه التي ينتظر موسمها بفارغ الصبر، ويدفع تكلفة زراعتها والعناية بها، ليدفع في النهاية أكثر من نصف محصوله للسماح له بجني ثمارها.
“يعاملون المزارعين كطرف مهزوم في معركة” يضيف أبي عارف، إذ لا تراعي الفصائل وضعهم المعيشي وحقهم في ممتلكاتهم علماً أنهم لم يكونوا طرفاً مع أحد، على حد قوله، وبات هذا السلوك ممنهجاً في جميع القرى والبلدات.
أبو محمد (اسم مستعار لصاحب حقل ورق العنب في المعبطلي) قال إن مزارعاً اعتقل وضرب من قبل “أمنية العمشات” لرفضه الإتاوة التي دفعها مكرهاً بعد إجباره على ذلك، “لقد بادلها بحريته”.
ويضيف أبو محمد “حوادث كثيرة لاعتقالات في القرية تمّت ولأسباب مختلفة، معظمها يتعلّق بإجبار السكان على دفع الإتاوة وترهيب من يخالف ذلك”، فالقرية على حدّ قوله “لا تخضع لسلطة القانون أو المؤسسات القضائية والمدنية” ولا “يجرؤ سكانها على إيصال صوتهم ومطالبهم خشية الاعتقال وإلصاق تهمة التعاون مع قسد بهم ما سيغيبهم في السجون ويعرضهم للضرب ودفع مبالغ مالية كبيرة، وقد تؤدي لخسارتهم أراضيهم”.
يرى أبو محمد أن الإتاوات ستؤدي في النهاية إلى خسارة الفلّاح أو هجر أرضه وترك أشجارها لليباس، يقول ” بين حراثة حقل العنب ورش المبيدات والسماد والتقليم والقطاف والمحروقات والنقل تصل تكلفة الكرمة الواحدة لنحو 4 دولارات، ويتراوح إنتاجها بين كيلو غرام واحد إلى خمسة كيلو غرام، يحدّد ذلك كمية الأمطار والرعاية وغياب الأمراض أو القدرة على علاجها ودرجات الحرارة، ويتراوح سعر كيلو غرام ورق العنب بين 2 إلى 3 دولارات، أيضاً بحسب نوع الورقة وحجمها”.
في أحسن الأحوال تقاسم الفصائل المزارع في ربحه، يكمل أبو محمد “إن أخذنا بعين الاعتبار تكلفة العام القادم سنجد أن المزارع خاسر، هذا إن كان إنتاج الكرمة في حقله في الحد الأقصى، إذ لا يراعي مكتب الفصيل الاقتصادي حجم الكرمة وإنتاجها وقلة الأمطار وغيرها من العوامل، فيتقاضى إتاوته قبل البدء بالقطاف”.
لا تقتصر الإتاوات على ما يدفع قبل القطاف، يقول من تحدثنا معهم، فعملية نقل المواسم تفرض إتاوات من نوع آخر، ليس للفصيل بحد ذاته ولكن لكل فصيل تمرّ السيارة التي تحمل ورق العنب أمامه، تحت مسمى “الإكرامية” والتي تفرض بحسب مزاجية الحاجز لا عن طيب خاطر من المزارع.
الإتاوات والإكراميات والضرائب ومسميات أخرى تدفع المزارعين للعزوف عن زراعة حقولهم من جهة، وترفع أسعار المنتجات في السوق الذي وصل فيه سعر كيلو غرام من ورق العنب إلى ثلاثة دولارات تقريباً، وهو ما لا يمكن لمعظم سكان المنطقة الذين يعيش أكثر من 90% منهم تحت خط الفقر، بحسب إحصائية منسقو استجابة سوريا الأخيرة، شراؤه أو تموينه.
يبلغ عدد الأشجار المثمرة ومنها الفواكه والكرمة في عفرين نحو 4 ملايين شجرة، بحسب إحصائية لمركز توثيق الانتهاكات في عفرين، بينما تضم المنطقة نحو 12 مليون شجرة زيتون، تمثل هذه المواسم مصدر دخل 70% من أبناء عفرين، ومع الإتاوات والإكراميات تتعرض هذه المواسم للانتهاك وأصحابها للخسارة.
وقدّرت منظمة حقوق الإنسان في عفرين حجم الرسوم المدفوعة على محصول الزيتون التي يدفعها الفلاحون بنحو 60% موزّعة على ما تفرضه الفصائل قبل القطاف بين (10 إلى 15%) و الحواجز العسكرية نحو ( 15%)، إضافة لأجور العمال والنقل وأجرة المعاصر وغيرها من التكاليف (يدفع المزارع كيساً من الزيتون عن كل سبعة أكياس للعامل، و كيساً عن كل عشرة أكياس للمعصرة، إضافة لثمن الكيس وتنكة الزيت) التي تقدر بنحو (30%)، يضاف إلى ذلك تكاليف التقليم والرش والحراثة والأسمدة..
يفسّر ذلك تراجع إنتاج الزيت في عفرين، وإغلاق عدد كبير من المعاصر سواء لتراجع الإنتاج أو لتعرضها للتخريب والسرقة (انخفض العدد من 500 إلى 191 معصرة) وارتفاع سعر الزيت الذي وصل في العام الماضي لنحو 100 دولار للتنكة الواحدة (16 كيلو غراماً).
تعمل المكاتب الاقتصادية أو كما يطلق عليها محليّاً (الاقتصاديات) خارج إطار المؤسسات التابعة للحكومة المؤقتة والمجالس المحلية، وليس للأخيرتين دور في تنظيم أو مراقبة أو محاسبة المسؤولين عنها، يقول من تحدثنا معهم إن الاقتصاديات مسؤولة عن “تحصيل الموارد المالية وإدارة الاستثمارات الخاصة بالفصيل خارج إطار وزارة الدفاع وهيكلية الجيش الوطني التنظيمية والإدارية، إذ تتهم تلك الاقتصاديات باتباع طرق غير مشروعة وتضع يدها على الأملاك العامة والخاصة خارج إطار القانون بغية دعم الفصيل مادياً، دون اعتبار للشكاوى التي تقدم ضدها ولا يملك القضاء سلطة تنفيذية قادرة على تنفيذ الأحكام الصادرة بحقها”.
بدوره نفى رائد جنيد، مدير المكتب الإعلامي في فرقة السلطان سليمان شاه لفوكس حلب فرض أي مبالغ مالية أو ضرائب على المحاصيل الزراعية أو على أحد من السكان، واعتبر الحديث عن فرض الفرقة لأي إتاوات أو ضرائب “مجرد افتراءات غير صحيحة هدفها تشويه صورة الفصيل دوناً عن بقية الفصائل ضمن توجهات معروفة الأهداف”.
وأضاف جنيد أن “المزارعين يمارسون أعمالهم دون مضايقات، و إن عملية الحصاد وجني المحاصيل تتم بشكل سلس دون أي عوائق أو عرقلة من قبل الحواجز المنتشرة في المنطقة والتي هدفها نشر الأمن وضبط المنطقة بعيداً عن تدخلها في شؤون المدنيين”.
البحث عن مسؤول في الحكومة المؤقتة للإجابة عن استفساراتنا بخصوص إتاوات المكاتب الاقتصادية المفروضة من الفصائل لم يجد نفعاً، إذ وجهتنا الحكومة إلى وزارة الدفاع كمسؤول عن المنطقة للإجابة، قبل أن يعيدنا مدير مكتب وزارة الدفاع الإعلامي إلى الحكومة المؤقتة من جديد، فبحسب قوله “إن وزارة الدفاع تختص بالإشراف على الأمور العسكرية والأمنية في الفصائل المنضوية تحت إدارتها فقط وأن ما يتعلق بفرض الضرائب على المحاصيل الزراعية ليس ضمن اختصاص الوزارة وإنما يقع على عاتق الحكومة المؤقتة والقضاء”، وما تزال رسائلنا إلى مدير غرفة الزراعة في المنطقة والمجلس المحلي لناحية المعبطلي دون ردّ حتى لحظة نشر هذا التقرير!