يحصي أحمد الحسين، مهجّر من ريف حماة الشمالي ويسكن أحد مخيمات دير حسان بإدلب، عدد الوجبات التي حصل عليها من بداية شهر رمضان الذي أوشك على الانتهاء بما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
الحسين أربعيني كفيف وأب لطفلين يعتمد في تحصيل قوتهما على المساعدات المقدمة من المنظمات الإنسانية الدولية والفرق والجمعيات الخيرية المحلية، والتي كانت تزيد من نشاطها خلال شهر رمضان، لكن رمضان الحالي عزز النقص الحادّ على مختلف الأصعدة ومن مختلف الجهات، على حدّ قوله.
القرار الأممي بتخفيض المساعدات الإنسانية سبق رمضان بأربعة أشهر، وفاقم مشكلة نحو 13 مليون سوري يعيشون انعداماً في الأمن الغذائي، بحسب تقرير منسقو استجابة سوريا. وتجاوز عدد السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر نسبة 90%، مع تهديدات بانزلاق أكثر من 3,1 مليون شخص إلى حد الجوع، بحسب التقرير ذاته الذي أوضح أن 87٪ من السوريين في شمال غربي سوريا و 94% من سكان المخيمات غير قادرين على تأمين الغذاء.
النسب في الأعلى توضح حجم ما يعيشه السكان في الشمال السوري من عوز ترافق مع عجز في الاستجابة الإنسانية بلغت نحو 64% في العام الماضي، مع زيادة لم تحدّد نسبتها في العام الحالي ويؤكدها تراجع دخول المساعدات وتقليص عدد المستفيدين وزيادة نسبة البطالة التي وصلت لأكثر من 75% بين الذكور و 93% بين الإناث، أيضاً ما تحتويه السلّة الغذائية الممنوحة، إن وجدت، والتي قلّ وزنها وفقدت كثيراً من أساسيات الاحتياجات اليومية.
تقول السيدة أم سارة، أرملة تعيش في مخيم بالقرب من مدينة الدانا، إنه الشهر الثالث الذي لم تصل فيه السلّة الغذائية الشهرية التي كانت تصلها، سبق ذلك تقليص موادها إلى النصف أو أكثر من ذلك. تضيف أم سارة “تعوّدنا في شهر رمضان الحصول على سلّة غذائية أكبر من سابقاتها تتضمن مواد للسحور أيضاً، من تمر وحلاوة ومربى، إضافة لتوزيع مادة الخبز، هذا العام لم تصل أي سلّة، كذلك من الفرق التطوعية والجمعيات المحلية التي اعتادت توزيع وجبات وأحياناً موادّ مثل اللحم أو الفروج”.
لا تعرف أم سارة أسباباً لغياب هذه المساعدات في “الشهر الفضيل”، تقول “انكشف حالنا، نفطر أحياناً على خبز ورب البندورة أو الزيت الأبيض والزعتر”، حالها حال معظم من تعرفهم من سكان المخيم الذي يزيد عدد عائلاته عن أربعمائة عائلة.
“الحال من بعضه”، مع فارق بسيط في مخيمات عن أخرى، يقول من تحدثنا معهم، ويجملون قائمة غياب أو ندرة وصول “السلل الغذائية، حملات إفطار الصائم، توزيع الوجبات الرمضانية إلى المنازل، موائد الرحمن في الأماكن العامة أو المساجد، الدعم المالي، الخبز”، والتي كانت تساهم إلى حد كبير بتخفيف العبء عن الأهالي، خاصة في شهر رمضان.
يقول دلامة العلي، المدير التنفيذي لجمعية الاستجابة الطارئة إن “تخفيض الدعم الواصل إلى الشمال السوري زاد من أعباء عملهم وترك أثره على العمل الإنساني عند جميع المنظمات ما جعلهم أمام مناطق واسعة شبه خالية من الدعم”. يرى العلي أن عدم الاستقرار السياسي والأمني في شمال غربي سوريا وتوجه الدعم الأممي إلى مناطق أخرى في العالم دفع الدول الداعمة إلى “التردد في دعم المنطقة رغم حاجتها الملحة له”.
تحصل جمعية الاستجابة الطارئة على دعمها الرئيسي من التبرعات الفردية لأشخاص في مختلف دول العالم ومن متبرعين في الداخل السوري، لكن ذلك “لا يكفي لسد الاحتياجات الملحة خاصة مع تزايد أعداد الأسر الفقيرة”، إذ اقتصر عمل الجمعية في رمضان الحالي على توزيع خمسة آلاف سلّة غذائية، إضافة لتقديم الوجبات الرمضانية لنحو عشرة آلاف أسرة يومياً.
لا تغطي المساعدات المقدّمة من قبل الجمعية احتياجات 4% من السكان (النسبة المئوية هنا بتقدير عدد السكان الذين يعيشون في المنطقة بنحو 5 ملايين شخص) الذين يعيشون تحت خط الفقر، وهو ما يتفق به فيصل الأسود، منسق حملات فريق ملهم التطوعي، مع دلامة العلي، في تفاقم حدّة المشكلة التي يعيشها سكان الشمال السوري.
يقول الأسود إن تراجع الدعم الدولي الذي بدأ منذ الحرب الأوكرانية الروسية زاد من عدد العائلات التي تحتاج للمساعدة في الشمال السوري وتركهم أمام ما وصفه بـ “كارثة إنسانية”، لا يمكن حلّها سوى بـ “تدخل دولي يخفف من مأساتهم الكبيرة”، وأن “معظم العائلات لا تملك حتى قوت يومها” خاصة مع “ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى حدّ غير مسبوق وندرة فرص العمل بعد أن أصبحت منطقة الشمال السوري شبه مغلقة”.
ووصف الأسود، عمل فريق ملهم الذي يعتمد على التبرعات الفردية، في شهر رمضان الحالي بـ “المقبول”، إذ ساهم في نشاطات رمضانية مثل “حملة إفطار صائم التي تؤمن سلة غذائية تكفي عائلة لعدة أيام، سلال غذائية تكفي العائلة مدة شهر كامل، بازارات خيرية داخل المخيمات (وهي تجربة جديدة تساعد العائلة على اختيار ما تحتاجه من المساعدات المقدمة في شهر رمضان)، إضافة لإطلاق حملات أخرى تحت عناوين: حملة سكبة، تمر هندي، عرقسوس، إطعام مسكين”.
ذرائع المجتمع الدولي بتخفيض أو وقف المساعدات الأممية عن الشمال السوري “غير مقبولة” بالنسبة لمن تحدثنا معهم، والذين أوضحوا أنه لا يمكن الاستمرار دون هذا الدعم في مختلف القطاعات، الغذاء والصحة والتعليم إلى آخر القائمة.
يرجع زكي الصالح، يعمل ضمن مجموعة هذه حياتي التطوعية، بداية تراجع الدعم إلى العام السابق، وظهر جلياً خلال الاستجابة لكارثة الزلزال، وهو ما أدى إلى توقف “منظمات وفرق تطوعية عن العمل بعد توقف الدعم عنها”. يقول الصالح إن “الفرق التطوعية وجدت نفسها بين خيارين، إما تخفيض حجم الحصص الممنوحة لتشمل شريحة أكبر، أو المحافظة عليها مع ما تتركه من شعور بالظلم لدى الأسر المحرومة”.
بدوره أكد أيهم اسليم مدير مشاريع فريق إحسان التطوعي أن “الفريق استطاع زيادة نسبة التخديم هذا العام، مقارنة بشهر رمضان السابق، ويعود ذلك للتحضير لشهر رمضان منذ فترة، إضافة لعدم اعتمادهم على الدعم الدولي”. وأوجز الصالح النشاطات الرمضانية التي نفذتها المجموعة بقوله: “ننفذ نشاطات متنوعة منها المطبخ الخيري والإفطار الجماعي وحملات إفطار الأيتام، إضافة للبوفيه المفتوح، إذ يختار الصائمون تشكيلة من الأطعمة والحلويات والمشروبات المعروضة في الخيمة الرمضانية المفتوحة”.
بالتوازي مع نشاط الفرق التطوعية في شهر رمضان، سعت بعض الجمعيات الخيرية العاملة في الشمال السوري، لتقديم ما يتوفر لديها من خدمات ومساعدات، مع اتفاق من التقيناهم على انخفاض الدعم، وتراجع حجم التبرعات من “أهل الخير” في الخارج، هذا العام.
يقول علاء الحاج النعيمي، مدير جمعية دعاة الخير، العاملة في مخيمات ريف إدلب الشمالي، إن “تكلفة السلة الرمضانية، تختلف باختلاف البلد والمنظمة المانحة وحجم الأسرة المستفيدة والمكونات الموجودة في السلة. وأن تكلفة السلة الرمضانية للأسرة الواحدة اليوم، تتراوح بين 20 إلى 50 دولاراً تقريباً، اعتمادًا على مكونات السلة وجودتها، وأن ما يميز السلة الرمضانية عن السلل الغذائية المعتادة أنها تحوي مواد ترتبط بهذا الشهر دون سواه، مثل التمور والمربيات والحلاوة الطحينية والمعلبات والمشروبات، إضافة للمواد الغذائية المنوعة”.
يربط الحاج بين ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتأثيرها السلبي على تقديم الدعم وتوفير الوجبات بشكل كافٍ، بالقول: ” إذا زادت تكلفة المواد اللازمة لتوزيع الوجبات، يضطر مقدمو الخدمات لتقليص حجم الوجبات أو عدد الأشخاص الذين يمكن تلبية احتياجاتهم”.
تعمد جمعية التعاون الخيرية، العاملة في المخيمات المحيطة ببلدة باريشا، بريف إدلب الشمالي، على توزيع وجبات إفطار صائم على القاطنين في تلك المخيمات، مكونة من 700 غرام من مادة الأرز المطبوخ مع كمية مناسبة من لحم الفروج المطهو، أو اللحم الأحمر، حسب المتوفر لديهم، أو ما يختاره الشخص المتبرع بالمال، يقول محمد العكل، المدير التنفيذي للجمعية.
وأضاف العكل “نوزع بعض لحوم الذبائح التي يتبرع بها المانحون بصورة عقيقة أو نذر، وأحيانا يصل الدعم على هيئة مبالغ مالية توزع على المحتاجين كزكاة أموال المتبرعين”. وعن سبب تراجع الدعم الواصل للجمعية يقول العكل: “يبدو أن طول المدة، وتكرار المشهد الإنساني فيها انعكس سلباً على المتبرعين الذين أصيبوا بالملل والإحباط”.
يؤكد ممن التقيناهم من عائلات في مخيمات إدلب، على تراجع أو توقف الدعم الإنساني الذي اعتادوا الحصول عليه، شهريا عادة، وفي شهر رمضان خاصة. تقول مريم الحميد، أرملة وأم لأربعة أطفال، وتعيش في مخيم القرى، بالقرب من سرمدا، أنها حصلت على سلة غذائية رمضانية هذا العام، لكنها كانت بنصف حجم سلة العام الماضي. وتضيف ” لاحظت غياب الطحين والزيت النباتي من السلة هذا العام، وتقليص باقي الأصناف إلى النصف.
خالد المحمود، من سكان مخيم قسطون القريب من سرمدا، قال إن العائلات فقدت الوجبات الرمضانية وموائد الإفطار العامة، المعروفة بموائد الرحمن، والتي كانت متوفرة في رمضان الماضي وما قبله، هذا الرأي دعمه الشيخ طارق، أحد المشرفين على حملات الإفطار الرمضاني في المخيم المذكور، بقوله: ” لم أتمكن من الحصول على التبرعات من أهل الخير في هذا العام، والتي كانت تؤمن الدعم للمطبخ الخيري وإقامة موائد الرحمن بشكل يومي لأبناء المخيم في أشهر رمضان السابقة”.
يشكّل شهر رمضان مقياساً حقيقياً لتوضيح حجم النقص الحاد في احتياجات الشمال السوري، لما كان يوفره من سعة على حياة السكان من خلال زيادة الدعم وأموال الزكاة والصدقات، وهو ما ندر ملاحظته في العام الحالي في إنذار لحياة أكثر قسوة مع غياب واضح لأي دور من المؤسسات والهيئات التابعة لحكومة الإنقاذ، وصمم في آذان المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية التابعة له.