فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

“الأكلات الطيبة” حلم للطفل يلتهمه الغلاء 

هاني العبدالله

يستهلك شراء قطعة واحدة من الأكلات الطيبة “أكلات الأطفال” من أرخص الأنواع وأقلها جودة ثلث راتب موظف أو عامل، ما يضيفها إلى قائمة المحرمات اليومية الطويلة للسكان في مختلف المناطق السورية

تدخل مفردة الحرمان في قاموس المفردات السورية كلازمة يومية طالت معظم المواد الأساسية، وصلت إلى الأطعمة والفاكهة والأدوية، لكن قسوتها الأكبر كانت على الأطفال، وخاصة حرمانهم من “الأكلات الطيبة”، من سكاكر وبسكويت ورقائق بطاطا (شيبس) ومشروبات وغيرها من الأكلات التي باتت دون قدرة الآباء على شرائها بعد تضاعف أسعارها.

في كل شارع وعلى واجهة بيع كل محل تنتشر بسطات ورفوف تمتلئ بأشكال مختلفة من “الأكلات الطيبة” وبألوان زاهية تجذب الأطفال ليسيل لعابهم وتزيد مطالبهم منها، تتفلت أيديهم الصغيرة من قبضة أمهاتهم، يتجهون نحوها تاركين أهلهم أمام خيارين لا ثالث لهما، الرفض مع ما يحمله من قسوة الحرمان أو الموافقة لتحلّ “بسكويتة وكيس من الشيبس عوضاً عن وجبة الغداء أو علبة الدواء”.

تفتش أم يزن حقيبتها مراراً علّها تجد ما ترضي به طفلها الذي تمسك بعمود بسطة أمام أحد محلّات سوق البزورية وسط دمشق، يمدّ يده على الأكلات المتنوعة فوقها، يشير إلى هذه وهذه وهذه طالباً من والدته شرائها له، يرفع قدماً وينزل قدماً على الأرض في حركة احتجاجية يطالبها فيها بالإسراع ، لكن ما تملكه من نقود لم يسعفها بتلبيته.

تجول بنظرها على الأكلات المتنوعة علّها تجد شيئاً بثلاثة آلاف ليرة سورية، ما تبقى معها من راتب زوجها الموظف في إحدى المؤسسات الحكومية، تسأل صاحب المحل الذي ضاق ذرعاً بكثرة الأسئلة وصوت بكاء الطفل عن الأسعار، قبل أن يلتفت إلى وجه الأم الذي غابت ملامحه، يمدّ يده إلى علبة من السكاكر يحمل منها بضع حبات يناولها ليزن،  لتغيب الأم وطفلها في زحام السوق ويبقى صدى صوت بكاء يزن يرن في آذان الجميع.

تضاعفت أسعار الأكلات الطيبة خلال السنوات الأخيرة أضعافاً كثيرة، ومع تراجع القدرة الشرائية باتت حكراً على فئة محددة من التجار وأصحاب رؤوس الأموال، إذ يتطلب شراء نوع واحد يومياً من الأكلات المحلية دفع أكثر من راتب موظف أو عامل في مختلف المناطق السورية.

رئيس الجمعية الحرفية للمحامص والموالح والمكسرات في دمشق عمر حمودة، زعم لموقع أثر برس الموالي، أن بعض مأكولات الأطفال يصنع محلياً والبعض الآخر مستورد، ويدخل في إنتاجها كميات كبيرة من السكر إضافة لمواد أولية أخرى تعد مكلفة على أصحاب المعامل، وتأخذ جهداً في التصنيع، ما يدفعهم لرفع أسعار انتاجهم.

وتختلف الأسعار بين منطقة وأخرى من مناطق النظام، عنها أيضاً في الشمال السوري، وتتنوع الأكلات بين الصناعة المحلية والمستوردة، لكن الأخيرة، بحسب من تحدثنا معهم اقتصر وجودها في المحلّات الكبرى والمولات فقط. وتتراوح أسعار الأكلات المصنعة محلياً في دمشق بين 3 إلى 6  آلاف ليرة سورية لأكياس “الشيبس” الصغيرة ونحو  10 آلاف للكبيرة، البسكويت بين 2 إلى 6 آلاف للقطعة الواحدة، الكيك بين 5 إلى 10 آلاف، الأكلات الصغيرة مثل (علكة -مصاصة) نحو 1500 ليرة، الشوكولا بين 3 إلى 15 ألف بحسب حجمها ونوعها.

تنقص الأسعار في مدينة حلب عنها في دمشق، إذ من الممكن العثور على “بسكويت” بسعر يتراوح بين خمسمائة إلى ألف ليرة لأنواع محددة وبأحجام صغيرة، في الوقت ذاته تزيد أسعار أكلات أخرى بسبب تكلفة الشحن والنقل، كذلك تزيد أسعار الأكلات المستوردة للسبب ذاته، خاصة وأن معظم هذه المواد تأتي من لبنان.

مصطفى، صاحب دكان أمام مدرسة أطفال في أشرفية صحنايا بدمشق تحدث عن ارتفاع بنسبة تتراوح بين 25 إلى 30% خلال الشهر الماضي على معظم أسعار الأكلات وهو ما أثر على حجم المبيعات منها في دكانه إلى النصف تقريباً. علاقة من الودّ تجمع مصطفى بأطفال المدرسة المواجهة لدكانه، يعرف أسماءهم ووجوههم، وعند استغرابنا من إجابته قال إن من يزوره يومياً تناقص ليصبح العدد أقل من ثلاثين طفلاً يومياً.

تضم المدرسة نحو ألف طالب ليسوا جميعهم زبائن مصطفى، يقول إن معظمهم “ليسوا زبائن أحد”، وإن قلّة من الأطفال من تزوره يومياً، آخرون يزورونه أسبوعياً، أما غالبيتهم فيشيحون بوجوههم إلى الطرف الآخر من الدكان عند المرور أمامه.

الجدّة أم محمد لا تجيد حساب هذه الأرقام الكبيرة، حفيدها الذي يسكن في الطابق العلوي لبيتها يطرق الباب يومياً عليها، تخبرنا وهي تضحك أن عمره لا يتجاوز خمس سنوات، وأنه في كل مرة وقبل “المرحبا” يطلب منها “هاتيلك خمس آلاف نشتري بسكوتة”.

خمسة آلاف رقم عصي على عقل الجدة التي كانت تعيش بمثل هذا المبلغ شهراً كاملاً قبل سنوات، ولهذا خصصت راتب زوجها التقاعدي لحفيدها، مائة وأربعة وعشرون ألف ليرة، تشتري بسكوتة يومياً، تخاطبنا أنها في مرة من المرات خاطبت صورة زوجها المتوفي، أخبرته “أن راتبه لم يعد يشتري مصاصة يومياً”.

في الطرف المقابل، في الشمال السوري، تطلب منا أم مصطفى أن لا نسألها حول أسعار الأكلات، تقول “اختصاصي من الخمسة وتحت”، وتعني خمس ليرات تركية أي ما يعادل ألفي ليرة سورية. هناك ما يمكن شراؤه بمثل هذا المبلغ تضحك “بسكوتة عاملة ريجيم، نصف مصاصة أو ربعها، كيس بطاطا فيه الكثير من الهواء وخمس حبات..”.

السؤال عن الأسعار في الشمال السوري يصيبك بالدهشة، معظم الأكلات مستوردة من تركيا أو من سوريا، وبعض المنتجات المحلية القليلة، لكن أقلّها يتجاوز مبلغ خمس ليرات تركية، ومقبولة المذاق منها تتراوح بين 15 إلى 30 ليرة، أما المعروفة مثل تويكس وسنيكرز فيتجاوز سعرها خمسين ليرة تركية، علماً أن متوسط دخل الفرد العامل، إن وجد فرصة عمل، لا يتجاوز 100 ليرة تركية يومياً.

يرقّع الأهالي يومهم، يحاولون تأمين الستر لعائلاتهم لكن أكلات الأطفال ليست رفاهية يستطيعون تجاوزها وحرمانهم منها يجعلنا في مواجهة يومية معهم/نا، تلك كلمات أبي غسان من سكان مدينة حمص عبر واتس آب، يتنهد قبل أن يكمل “مهما حاولنا إشغال الطفل بأشياء أخرى، سيعود مجدداً لطلب السكاكر والشوكولا والشيبس”.

لأبي غسان ثلاثة أطفال، كيس واحد من رقائق البطاطا لكل منهم يجبره على دفع 360 ألف ليرة شهرية، وهو ما يزيد عن راتبه في وظيفته بعشرين ألف. إذن، ماذا نأكل، يحتوي كيس البطاطا على 35 غراماً، هل يكفي كوجبة؟ حلول صغيرة أقل تكلفة لكنها تبقى في عدم قدرة الجميع، وأيضاً على حساب الطعم والكمية، بعضها اخترعه أصحاب المعامل أو المحلّات، وأخرى ربّات المنازل.

لم يعد الطعم والحجم متشابهاً في كثير من الأكلات المحلية التي اعتدناها، اختصرت المعامل من المكونات الأساسية، خفّضت الكمية داخل العلبة الواحدة أو قلّلت من وزنها (مثل بسكويت دينغو أو تويست أو لميس) أو استخدمت مواد مختلفة مثل (رقائق الذرة عوضاً عن البطاطا الطبيعية)  لتضيف أطفالاً آخرين إلى مشتري منتجها، أما أصحاب المحلّات فعمدوا إلى شراء الأكلات المنتجة في المحامص بالكيلو غرام و تعبئة أكياس صغيرة منها تتناسب مع أي فئة نقدية يملكها المواطن.

يقول أبو مسعود صاحب بقالية في مدينة حلب: “أصبحت أبيع الأطفال بالحبة، فمثلاً أجمع بضع حبات من السكاكر أو السميري أو المارشميلو وأضعها في أكياس صغيرة، حتى يستطيع الأطفال شرائها”، فكيس السكاكر الذي يحتوي 8 حبات فقط يباع بـ 3 آلاف ليرة، بينما يبلغ سعر الكيلو 50 ألف ليرة.

“8 حبات فقط، لك أن تتخيل”، تقول الجدّة أم محمد والتي زارت محلّاً للجملة لشراء كمية من الأكلات وتوزيعها بمعرفتها، لتتفاجأ بأن سعر كيلو غرام من السكاكر بـ 50  ألف، السميري بـ 90 ألف ليرة، القضامة والقباقيب بـ 65 ألف، المارشميلو بـ 100 ألف، الجيلي بـ 90 ألف. تراجعت الجدّة عن الشراء وعادت أدراجها دون حلّ، لكن أبو غسان وجد في شراء “الشيبس المقرمش” من المحامص حلّاً أقل تكلفة.

اشترى أبو غسان كيلو شيبس مقرمش من المحمصة بمبلغ 35 ألف ليرة وبنكهات مختلفة، عوضاً عن أكياس الديربي التي يحبونها، وهو ما يوفر ثلاثة أرباع التكلفة، إذ يبلغ سعر كيس بطاطا الديربي بوزن حقيقي 35 غرام 4 آلاف ليرة، ما يعني أن الكيلو غرام منه يحتاج لدفع 120 ألف ليرة.

حلول أخرى وجدها آخرون بشراء الأكلات من البسطات لا من المحلّات رغم مخاطر عدم ترخيصها أو وجودها مكشوفة وعدم وجود تواريخ صلاحية عليها، “المهم إسعاد أطفالنا، لم يعد مهماً النوع الذي نشتريه، الأساس أن يكون السعر في متناولنا”.