بعد سنوات من عمل المولدات في بيع الأمبيرات دون ترخيص في دمشق يتجه النظام لشرعنة ما رفضه سابقاً على لسان مسؤوليه لتخفيف احتقان المواطنين بعد زيادة ساعات التقنين وتماشياً مع الضغط الحاصل من أصحاب هذه المشاريع المرتبطين بضباط و مسؤولين متنفذين في العاصمة.
العجز الذي رافق حكومة النظام في تأمين الكهرباء للمناطق الخاضعة لسيطرتها في مختلف المدن والبلدات، دفع مسؤوليها لشرعنة استجرار الكهرباء عبر مولدات الأمبيرات، ومنح أصحابها تراخيص تقونن عملهم، وتحديد أسعار الأمبيرات ومراقبتها، في خطوة رآها سكان في دمشق ومنهم أبو مؤيد، أحد سكان حي الزاهرة بدمشق، تبريراً لسياسة التقنين المتبعة والتي تزيد يوماً بعد يوم، وفشل وزارة الكهرباء في تنفيذ الوعود التي أطلقتها لحل المشكلات المتعلقة بانقطاع الكهرباء.
يسخر أبو مؤيد من قرار الحكومة الجديد، يقول إننا سنشهد حقيبة وزارية جديدة تحت مسمى “وزارة الأمبيرات” عوضاً عن وزارة الكهرباء، خاصة وأن القانون الجديد سيقلص عمل الوزارة من تأمين الطاقة للسكان إلى الإشراف على بيعها من قبل القطاع الخاص، وبأسعار لا تتناسب مع قدرة المواطن السوري.
ما يقوله أبو مؤيد كان يمثل الخطاب الحكومي الرسمي ذاته منذ سنوات وحتى قبل القرارات الأخيرة، إذ وصف غسان الزامل، وزير الكهرباء في حكومة النظام منتصف العام الماضي، استجرار الكهرباء عبر مولدات الأمبير بـ “الأمر المخالف للقانون”، مؤكداً أن الوزارة “لن تشرعن الأمبيرات حاليًا أو في المستقبل”، معتبرًا “أنها ظاهرة ستنتهي تلقائيًا عندما تعود كميات الكهرباء إلى ما كانت عليه سابقًا”.
سبق كلام الزامل تبريراً للقانون 41 الذي صدر في تشرين الأول 2022 أتيح بموجبه الاستثمار بمشاريع الكهرباء وبيعها للقطاع الخاص، إلا أن وزارة الكهرباء زعمت حينها، أن التعديلات على قانون الكهرباء لا تمثّل تشريعًا لـ الأمبيرات، لكون القانون أعطى للمستثمرين إمكانية بيع الكهرباء على التوتر المتوسط لدعم الصناعيين، بينما تباع كهرباء الأمبيرات على التوتر المنخفض.
التصاريح السابقة لم تتغير وفق القانون الجديد الذي فتح الباب لمنح التراخيص ووضع تسعيرة رسمية للأمبيرات وفرض عقوبات على المخالفين، في تجربة شبيهة بلبنان، بحجة عدم وجود حلّ آخر، وأن هذه الشرعنة تأتي تماشياً مع الأمر الواقع، بحسب ما أوضح جاسم المحمود، نائب محافظ ريف دمشق، والذي اعتبر القانون “محاكاة للواقع”، مع تأكيده على عدم قانونية ظاهرة الأمبيرات.
ورغم عدم صدور تفاصيل قوانين تنظيم عمل الأمبيرات حتى اللحظة، بدأ مجلس المحافظة بمنح التراخيص، بحسب إبراهيم جمعة، رئيس مجلس محافظة ريف دمشق، والذي أوضح أن “المحافظة ستعطي التراخيص للسماح بالمنافسة بالسعر والأداء”، كما أصدرت، منتصف شباط الحالي، تسعيرة جديدة للأمبيرات لتصبح 7500 ليرة أسبوعياً لكل أمبير واحد.
فتح الباب للتراخيص الجديدة تزامن مع زيادة التقنين والانقطاعات الكهربائية في دمشق وريفها، إذ وصلت ساعات الانقطاع لنحو 20 ساعة يومياً، ما ساهم في زيادة إقبال المواطنين على استجرار الأمبيرات، رغم ارتفاع ثمنها.
وقدّرت محافظة ريف دمشق نسبة هذه الاشتراكات بين 60 إلى 70% من عدد السكان، في الوقت الذي لم تصدر نسبة دقيقة حول عدد المشتركين في العاصمة دمشق، مع ملاحظة ما وصفه من تحدثنا معهم بـ “الغزو التدريجي” للأمبيرات إلى منازل السكان فيها، إذ انتشرت بداية ضمن أسواق الشعلان والحمراء والصالحية قبل أن تبدأ أخيراً بالانتشار ضمن المنازل، بعد منح محافظة دمشق تراخيص لها في كل من أحياء الزاهرة، التضامن، الشعلان، الحمراء، برج الروس، شارع بغداد، ساحة جورج خوري، كفرسوسة، المزة، والقنوات، دون أن تصدر حتى اللحظة لائحة رسمية بالأسعار.
بإقرار التسعيرة أو عدمها لا يلتزم أصحاب المولدات بالأسعار التي يزيدونها كيفياً دون إخطار سابق. يقول أبو مؤيد “عندما قررت الاشتراك بالأمبيرات، أخبرني المستثمر أن سعر الأمبير لديه 7500 ليرة أسبوعياً، لكن بعد شهر تفاجأت برفع السعر ليصبح 13 ألف ليرة، متذرعاً بارتفاع أسعار المازوت، لكن الواضح أنه عرض عليّ في البداية سعراً مقبولاً كي يشجعني على الاشتراك لديه، ثم قام لاحقاً برفع السعر بمعدل الضعف تقريباً”.
وفي جولة أجراها فوكس حلب لمعرفة أسعار الأمبيرات في عدة مناطق من دمشق وريفها وجد أن متوسط سعر الأمبير الحالي بين 12 إلى 15 ألف ليرة سورية، وهو ما يعادل نحو ضعف المبلغ الذي تحدثت عنه الحكومة. يقول من تحدثنا معهم أن السعر المحدد من حكومة النظام أكثر من قدرتهم على الدفع، فكيف سيدفعون ضعفه الآن.
ويشرحون ذلك بأن متوسط حاجة المنزل من الأمبيرات لتشغيل الإنارة والأدوات الكهربائية الأساسية نحو ثلاثة أمبيرات، ما يعني دفع مبلغ 180 ألف ليرة سورية شهرياً، وهو ما يعادل راتب موظف حكومي لشهر كامل. يضاف إلى التكاليف الأسبوعية ثمن الاشتراك المقدّر بنحو مليون ليرة يدفع لمرة واحدة، ودفع أشخاص من المشتركين مبلغ عشرة آلاف ليرة مقابل رفع قاطع الأمبير الذي “يفصل” نتيجة الضغط لمرات عديدة يومياً.
ولم تجدِ الشكاوى المقدمة من المواطنين إلى الجهات المختصة حول رفع أسعار الأمبيرات بشكل كيفي رغم شرعنتها، يقول مواطنون تحدثنا معهم من بلدة شبعا، إن هذه الشكاوى تقابل بالرشاوى وخطوط كهرباء مجانية للموظفين فيبقى كل شيء على حاله مع إطلاق يد المستثمرين في المنطقة للتحكم بالسعر وعدد الساعات.
ويتهم سكان وزارة الكهرباء والمياه بالتواطؤ مع أصحاب المولدات، يقول أبو عبد الله من حي سكان الشاغور: “يبدو أن قطع المياه متعمّد بهدف إجبار الأهالي على تركيب أمبيرات لتشغيل مضخات المياه”، بينما لا يحتاج تواطؤ وزارة الكهرباء إلى أدلة، فالعتمة و تأخر الإصلاحات واستخدام أصحاب الأمبيرات لخطوط الوزارة خير شاهد على ذلك.
ليست فقط وزارتي الكهرباء والمياه معنيتان بهذا التواطؤ، إذ كشف موقع صوت العاصمة في تقرير له، أن رؤساء وموظفي بلديات ببيلا ويلدا وبيت سحم في ريف دمشق، كانوا يستغلون خط الكهرباء الذهبي المغذي للمنشآت الحكومية ومحطات المياه والمفارز الأمنية، ويستخدمونه لتزويد أصحاب المولدات بخط الكهرباء المجاني، ليبيعوا من خلاله الكهرباء للمواطنين وفق نظام الأمبيرات، ومن ثم يتقاسمون الأرباح فيما بينهم، الأمر الذي دفع وزارة الكهرباء إلى إيقاف نظام خطوط الكهرباء الذهبية مطلع العام الماضي، بعد استغلالها بشكل كبير من مسؤولي البلديات وضباط النظام، في تشغيل مولدات الأمبيرات.
أمام هذا الواقع اتجه المستثمرون لتشغيل المولّدات التي تعمل على المازوت الذي ترتفع أسعاره يوماً بعد يوم، ويغيب عن الأسواق لفترات طويلة، ما فتح الباب أمام تجارة أخرى عرّابوها، بحسب موقع العاصمة، ضباط من الفرقة الرابعة والأفرع الأمنية، إذ يقوم المستثمر بدفع ملايين الليرات وإيصال الكهرباء للمقرات العسكرية والأمنية، مقابل قيام الفرقة الرابعة بتأمين الحماية للمولدات والمساعدة في عملية جباية الفواتير من الأهالي.
كما تتولى الفرقة الرابعة تسهيل حصول أصحاب المولدات على المازوت، حيث يحصلون على كميات من محطات الوقود، التي تبيع المخصصات المدعومة عبر البطاقة الذكية إلى غير مستحقيها، إضافة إلى شراء كميات من الأهالي الذين يبيعون مخصصاتهم من المحروقات المدعومة للاستفادة من ثمنها في تلبية احتياجات أخرى.
ورغم الشكاوى المتكررة من السكان بسبب جشع أصحاب الأمبيرات وعدم التزامهم بالتسعيرة الرسمية، إلا أن بعض المستثمرين في دمشق وريفها استمروا برفع أسعار الاشتراكات، بينما أعلن آخرون التوقف عن العمل في نهاية شباط الحالي، بحجة أن التعرفة التي وضعتها الحكومة مجحفة بحقهم، وأن خسائرهم ستكون بمئات الملايين في حال التزامهم بتسعيرة المحافظة.
وزعم أصحاب المولدات لموقع البعث ميديا الموالي، أن تكلفة إنتاج الكيلو واط الواحد تصل إلى 11480 ليرة سورية، يضاف إليها التكاليف الإضافية والاستجرار غير المأجور وعدم بيع كامل الإنتاج، إذ قدّر أولئك كمية الأمبيرات المباعة بنحو 60% من إنتاجهم فقط.
يقلل الباحث الاقتصادي محمد بكور من شكوى أصحاب المولدات، ويقول إن “إعلان مستثمري الأمبيرات في ريف دمشق عن نيتهم التوقف عن العمل، مجرد وسيلة ضغط على حكومة النظام لإجبارها على رفع التسعيرة الرسمية للأمبيرات، أو جعل الحكومة تتغاضى عن تجاوزاتهم، وفي الوقت نفسه حيلة لإيهام المواطنين بأنهم سيتوقفون عن العمل، كي يكفوا عن التذمر وتقديم الشكاوى”.
وأضاف بكور لموقع فوكس حلب أن حكومة النظام مجبرة على الرضوخ لرغبات أصحاب الأمبيرات بسبب نفوذ المستثمرين إذ أن معظمهم ضباط أو تجار مرتبطين بالنظام، ولأن النظام مستفيد من وجود تلك الأمبيرات لتخفيف الاحتقان الشعبي ضده، في ظل عجزه التام عن تأمين الكهرباء.
صاحب أحد مولدات الأمبيرات في الغوطة الشرقية، فضّل عدم الكشف عن اسمه، أوضح لموقع فوكس حلب، أن “من يعملون بلا ترخيص حتى الآن، يشترون ليتر المازوت بالسعر الحر 12290 ليرة سورية، وهو ما يفسر رفع سعر الأمبير إلى 15 ألف ليرة، ومع ذلك بالكاد يحققون ربح ضئيل، أما من يبيعون بالسعر الرسمي (7500 ليرة)، فهؤلاء لديهم ترخيص ويحصلون على مازوت مدعوم بسعر 2100 ليرة فقط”، مشيراً إلى أن حكومة النظام تتعمد عرقلة منح التراخيص للمستثمرين، كي تتهرب من منحهم المازوت المدعوم.
مستثمرو الأمبيرات لم يكتفوا برفع أسعار الاشتراك، بل تعمدوا كذلك عدم الالتزام بساعات التشغيل المحددة بموجب الاتفاق مع المشتركين. تقول مرام من سكان حي التضامن: “مستثمرو الأمبيرات يطبقون علينا كذلك نظام التقنين كما تفعل حكومة النظام”، لتضيف قائلة: اتفقنا مع صاحب المولدة على تشغيلها لسكان الحي لمدة 13 ساعة يومياً، لكن في الواقع يتم تشغيلها في أغلب الأوقات لـ 9 ساعات يومياً، حيث يتذرع صاحبها بنقص كميات المازوت التي يحصل عليها، كما يقوم المستثمر بقطع الكهرباء عدة مرات في اليوم، بحجة حدوث أعطال في المولدة، ورغم ذلك لا يقوم بتعويضنا عن فترات القطع”.
يغزو الفساد كل قطاع في مفاصل حكومة النظام الخدمية، ويتحول كل قرار إلى فائدة تصبّ في جيوب المتنفذين والضباط و الأمنيين ومن يسير في فلكهم من واجهات تصنف نفسها كتجّار ومستثمرين يستغلّون حاجة السكان لزيادة إفقارهم إلى حد يصبح فيه الحصول على ضوء منّة تدفع لأجلها آلاف الليرات السورية ويتحكم برقابها أشخاص يضربون عرض الحائط بالأسعار واللوائح، وسط عجز الحكومة عن محاسبتهم أو مطالبتهم سوى بخطوط كهرباء مجانية لمنازلهم.