لم يكن يخلو شارع في مدينة حلب من دكان صغير على رصيفه مقلاة “قِدر” عبئت بالزيت المغلي لقلي حلويات المشبك، بجانبها قدر آخر مليء بـ “القطر” لتكسب “حلويات الفقراء” كما يطلق عليها، لسعرها الرخيص مقارنة بغيرها من الحلويات، مذاقها الحلو وطبيعتها المتماسكة.
أقفلت معظم محلّات المشبك في حلب أبوابها خلال السنتين الماضيتين وتقلّص حجم قرص المشبك الذي كان يزيد وزنه أحياناً عن ثلاثة كيلوغرامات إلى أقراص صغيرة لا يتجاوز وزنها مئة إلى مئتي غرام، يباع بالقطعة، كذلك غابت الطوابير الطويلة أمام المحلّات لتقتصر على بضعة زبائن متناثرين يأتون لماماً، يشترون بما يثقل كاهلهم أقراصاً قليلة من المشبك لإسعاد أطفالهم، في الوقت الذي سعت سيدات لصناعته منزلياً أيّاً كان مذاقه.
مثل غيره من المحلّات الشهيرة بصناعة المشبك في حلب، أمثال أولاد العسلية وحج فؤاد والأزور وحج عبدو كزة وحج محمد لحفي وأولاد الأطرش ودقو وفاعور وقوقو والقائمة تطول، ورث أبو يوسف، حلواني في طريق الباب، مهنة صناعة الحلويات أباً عن جدّ، إلّا أن عمله اقتصر على صناعة المشبك في الأعوام الأخيرة نظراً لارتفاع التكاليف وضعف الطلب.
أمام محلّ مستأجر على الشارع الرئيسي في حي طريق الباب يضع الستيني أبو يوسف أقراص مشبك يصنعها وينتظر زبائن لبيعها، قبل أن يعاود صناعة أقراص أخرى من جديد. يقول “سابقاً كنا لا نتوقف، الزبائن ينتظرون دورهم ويتلقفون ما يخرج من الحلّة، نوزّع عليهم قطعاً صغيرة لتصبيرهم حتى يحين دورهم، نحن اليوم من ينتظر زبائن لا يأتون ولا نصبر أنفسنا بقطعة مشبك خوفاً من ضياع أرباحنا القليلة”.
في شتاء حلب اليوم، موسم زيادة أكل المشبك، يصنع أبو يوسف أقراصاً لا يتجاوز وزنها مئة غرام يبيع الواحد منها بثلاثة آلاف ليرة سورية مراعاة لأحوال السكان المعيشية القاسية، يقول: كنا نصنع أقراصاً كبيرة يتجاوز وزنها 2 كيلوغرام، وكان المشبك يباع بالكيلو غرام الواحد بأقل من دولار واحد (بين 40 إلى 50 ليرة سورية)، أما اليوم فيزيد سعره عن دولارين ويباع بين 35 إلى 40 ألف ليرة سورية.
ويختلف سعر المشبّك بين منطقة وأخرى في مدينة حلب، إذ يصل في حي الجميلية وسط المدينة إلى 40 ألف ليرة للكيلو غرام واحد، وإلى 35 ألفاً في حيي صلاح الدين والحمدانية، أما في أحياء حلب الشرقية فينقص إلى ثلاثين ألف وعند أبو يوسف بـ 20 ألف ليرة فقط.
يبيع أبو يوسف المشبك بسعر منخفض لتصريف بضاعته وجذب الزبائن، ويعزو سبب التفاوت في السعر إلى تكاليف أخرى لا تتعلّق بالمواد الداخلة في صناعته، مثل بدل إيجار المحلّات المرتفع وأجور العمال وثمن الغاز الصناعي والكهرباء.
يشرح أبو يوسف “بدل إيجار محلي السنوي نحو 175 دولاراً، بينما يتجاوز البدل في مناطق أخرى أضعاف ذلك، أما أجور العمال فتتراوح بين 10 إلى 20 دولاراً، ويبلغ سعر اسطوانة الغاز 175 ألف ليرة (12 دولاراً) من مخصصات سادكوب التي توزع على الحرفيين والصناعيين وفقاً للشهادة الحرفية التي يمتلكونها، ويفترض أن يحصل أبا يوسف تبعاً لشهادته على أربع أسطوانات شهرياً لكن ذلك لا يتم خاصة في الشتاء ما يجبره على شراء الغاز من السوق السوداء بضعف المبلغ، وتحتاج آلة مزج العجين لاشتراك بثمانية أمبيرات متوسط سعرها نحو (15 دولاراً أسبوعياً).
يعجن أبو يوسف خليط المشبك يدوياً لتوفير ثمن الاشتراك بالكهرباء، وبكميات صغيرة، يضيف إليه الخميرة والسكر والماء الدافئ تدريجياً إلى أن تتماسك، ثم يتركها لمدة نصف ساعة تتفاعل فيها الخميرة مع السميد لتصبح جاهزة للقلي.
لتكلفة أقل يستخدم أبو يوسف زيت النخيل (سعر اللتر 0,75 سنتاً) عوضاً عن زيت دوار الشمس (سعر اللتر 1.8 دولاراً)، بينما يبلغ سعر كيس السميد (50 كيلو غراماً) نحو 30 دولاراً، وكيس السكر من الوزن ذاته نحو 90 دولاراً. يقدّر أبو يوسف تكلفة كيلو غرام من المشبك في محلّه بنحو دولار واحد، خاصة وأنه يعمل بنفسه دون أجور عمال ولا ثمن كهرباء وهو ما يجعل من المشبك خاصته منافساً من حيث السعر والجودة.
بعد أن يتجانس خليط المشبك الذي صنعه أبا يوسف، يقوم بتسخين الزيت حتى الغليان، وباستخدام قالب اسطواني من النحاس يحتوي على فتحة صغيرة في الأسف وفتحة دائرية كبيرة في الأعلى يدك العجينة داخلها ثم يضغط عليها بقطعة خشب من الزان ليدور الخليط على شكل دوائر فوق الزيت الساخن في المقلاة.
تقلّب دوائر المشبك في الزيت حتى الاحمرار وبعد اكتسابها قساوة مناسبة ترفع لتوضع في القطر البارد (يتكون من غلي السكر في قدر يحتوي على الماء يضاف إليه ملح الليمون ليأخذ قوامه المتماسك والكثيف) لتتشبع بالمادة السكرية وتكتسب طعمها المقرمش، ثم توضع على حامل لتتخلص من القطر الزائد وتصبح جاهزة للبيع.
يلتهم ثمن 2 كيلو غرام من المشبك 20% من راتب أبي طالب، مدرس يسكن في حي الشعار بحلب، يقول إنه يغير طريقه في كل مرة يمرّ من أمام دكان أبي يوسف مع أطفاله الذين يحرجونه بطلب ما لا يقدر على دفع ثمنه، وهو ما دفع زوجته لتعلم صناعة المشبك من إحدى صفحات الانترنت التي يصف أبو يوسف منشئيها بـ “الأولاد الذين خربوا المصلحة”. لا ينكر أبو طالب الفرق بين المشبك الذي اعتاد سكان حلب مذاقه وما يصنع في المنازل، لكن الأخير يفي بالغرض ويوفر أكثر من نصف التكلفة.
يستدل بسعر بيع المشبك على ما آلت إليه حال سكّان مدينة حلب الذين لم يعد باستطاعتهم شراء قرص كامل منه، الحديث هنا لا يقارن بأسعار الحلويات الأخرى التي يزيد سعر كيلو غرام واحد منها عن راتبهم الشهري مثل المبرومة والبلورية، وهو ما دفع أرباب هذه المهنة إلى هجرها والاكتفاء بعدد من المحلات الكبيرة ذائعة الصيت التي ما تزال تعمل بوتيرة أقل ويقتصر روادها على فئة معينة من السكان.