فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

لضبط الميزانية.. تعديلات تدخل على أطباق شهيرة في المطبخ السوري

سيرين مصطفى

سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية أجبر نساء كثيرات في الشمال السوري على تعديل أطباق شهيرة مثل المحاشي والكبّة والكبسة، وإعدادها بدون مكوناتها الأساسية

ربما لم يخطر في بال كثير من السيدات في الشمال السوري أن تخضعنَ بشكل يومي إلى اختبار داخل مطابخهنَّ، من أجل تعديل مكونات لبعض الأطباق الشهيرة مثل المحشي والكبة والكبسة وغيرها من الأطباق التي يكاد تعديل مكوناتها أشبه بتعديل القوانين، إذ إن هناك شبه إجماع عند نساء كثيرات، بأن هذا الأطباق لا يمكن تحضيرها بدون وجود اللحم، كمكون أساسي.

لكن مع وصول سعر كيلو لحم الخروف لـ 190 ليرة تركية، وكيلو لحم البقر لـ 170 ليرة تركية، اضطرت نساء كثيرات في الشمال السوري الاستعاضة عن اللحم المستخدم مع الأرز والبهار في أكلة المحشي بالفروج الناعم الذي يتراوح سعر الكيلو الواحد منه ما بين 65 و75 ليرة تركية، بسبب تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي وإجراء بعض التعديلات على “طبخاتهنّ”، واختصار مكوناتها، لتتناسب مع المورد المالي المتاح، وأن لا تغيب هذه الأطباق المفضلة عن مائدتهنّ في الوقت نفسه.

يقول زيدان الإبراهيم، بائع لحم فروج في أحد مخيمات مدينة كللي بريف إدلب الشمالي: “خلال عملي ببيع اللحم في الأشهر الماضية، كانت بعض النسوة تشتري كميات لا تتجاوز الـ 50 غراماً، أي بقدر ملعقة طعام أو ملعقتين فقط”.

وهناك سيدات لم تعد تضيف اللحم إلى طبخاتها، ويكتفينّ بإضافة “بهارات اللحم” أو مكعب ماجي، ونعناع وفلفل وكمون وملح وثوم مهروس وزنجبيل، وبعض التوابل قد تخضع للاستبعاد أيضاً في حال ارتفاع ثمنها أو عدم توافره، كالحيلة التي تلجأ إليها النسوة في إعداد طبق الـ” كباب كذابي”، والذي يشير، من اسمه، إلى أنه كباب، لكنه لا يعدّ باللحم، بل عن طريق نقع العدس لفترة معينة بالماء، بعدها تقوم النسوة بطحنه مع إضافة “بهارات الكباب” والفلفل والبقدونس والبصل، وجعله على شكل أصابع، شبيهة بأصابع الكباب، ثم يقمن بشويه.

إجراء التعديلات على بعض الأطباق السورية مثل المحاشي والكبّة وغيرها، ليس ظاهرة جديدة أو مرتبطة بسنوات الحرب، لكنه اليوم يشمل الكثير من شرائح المجتمع التي كانت تنتمي إلى الطبقة الوسطى، ميسورة الحال، وانهارت اقتصادياً أو تغيرت أحوالها في السنوات الأخيرة.

وهو حال أم عبدو، المقيمة في مخيم العبطيني من دير حسان بريف إدلب الشمالي، والتي لم تعتد على أن تطبخ المحاشي من دون لحم، أو عن طريق إجراء تعديلات عليها، لكنها لم تعد تملك خياراً آخر، فمدخول زوجها الشهري من مهنة التدريس بالكاد يكفي لتغطية احتياجات أسرة مكونة من سبعة أفراد، ما أجبرها على تقليل الإنفاق على طبخاتها، مع عدم حرمان أفراد أسرتها من الأطعمة التي يحبونها، حسب تعبيرها.

تقول أم عبدو: “هذه التغييرات لم تؤثر على مكانة طبق المحشي الذي أعده لأسرتي، فعندما أعده لهم، أحشو 20 حبة من الكوسا، و30 أخرى من باذنجان “القديد”، فلا تبقى واحدة منهن للعشاء، حتى بعد تقليل كمية اللحم، أو عند عدم وجودها”.

وفي بلدان أخرى، مثل مصر، لا يُعدّ استبدال لحم الغنم أو البقر بلحم الدجاج بالأمر الطارئ أو المستغرب، إذ أن أكلة المحشي بأنواعها تُحضَّر من دون حشو اللحمة مع الرز، وتقتصر تتبيلة المحشي على الرز والبهارات والكزبرة، ويقدم إلى جانبها قطع من الدجاج المشوي أو المقلي.

لم يقتصر استبدال لحم الدجاج بلحم الغنم أو البقر على تحضير أكلة المحشي، بل شمل أيضاً أطباقاً عديدة مثل الكبة والشيش برك والسمبوسك و”اللحمة بالصينية” وغيرها من الأطباق التي كان اللحم فيها يشكّل عنصراً أساسياً.

وبعض السيدات لجأن إلى تقليل عدد المرات التي يطبخنّ فيها المحاشي والكبّة على فترات طويلة، إذ لم تستطعنَ الابتعاد عن الطريقة الأساسية ولم يقبلن بأن يختصرن مكوناً أو الاستعاضة بمكون آخر، خوفاً على جودة الطبخة.

تتذكر جهينة الخالد، المقيمة في مدينة قاح بريف إدلب الشمالي، المديح الذي كانت تسمعه من زوجها وعائلته عندما تحضر لهم أكلة الكبة المقلية، فتحن لتلك الأيام، التي وصفتها بـ “الخوالي”، كما تروي لنا، إذ كانت معروفة في الحارة التي كانت تسكنها بإتقانها إعداد طبق الكبة، وكانت تعدها مرة كل أسبوع، وأحياناً مرتين في حال زارها أحد الأقارب أو الأصدقاء. 

تقول الخالد: “كان جميع من يعرفني يشهد لي بالقول: “ما في أحلى من كبة جهينة”، إذ كنت حريصة أثناء إعداد طبق الكبة بأن لا أنسى شيئاً وقبل أن أبدأ بالطهي أعمل على تجهيز كل المكونات المطلوبة من برغل ناعم ولحمة وشحمة وبصل وصنوبر ورمان وملح وغيره، لكن في الوقت الحالي لم أعد أطبخها سوى مرة أو مرتين بالشهر، أو أجري بعض التغييرات بحيث تكون أقل تكلفة”.

وأضافت: “في السابق، كان وضعنا المادي أفضل، إذ كانت لدينا أراضٍ نزرعها في موسم الزيتون والعنب والتين، لكن بعد سيطرة النظام السوري عليها لم يعد بمقدورنا الرجوع إليها، والآن لدينا نفقة تعليم خمسة أولاد في مراحل مختلفة، وإيجار بيت، وبالكاد يكفي مردود عمل زوجي كبائع في محل ألبسة لتلبية طلبات البيت، وأحياناً نضطر لاقتراض مبلغ مالي من قريب أو صديق حتى نغطي نفقاتنا”.

ومن الأطباق التي خضعت لخطة اقتصاد النسوة السوريات “الكبسة” و”فتة الفروج”، والاختلاف بين الطبقين يعتمد على كمية لحم الفروج أوغيابه، إذ تقول آلاء شيخ محمد، المقيمة في مدينة أطمة بريف إدلب الشمالي: “بإمكاني أن أحضر وجبة الكبسة بكيلو لحمة، أو بنصف أو حتَّى ربع كيلو، المهم وجود البهارات والبندورة، لكن تختلف طعمة الطبخة وجودتها حسب كمية اللحم، والحال ينطبق على الفتة أيضاً”.

أما غصون جابر، المقيمة في مشهد روحين، فإنَّها لا تضع لحم الفروح دائماً في الفتة، كما توضح لنا، وتكتفي بوضع الرز المطبوخ مع الحمص المسلوق واللبن الممزوج مع الثوم المهروس والخبر المحمص، وأولادها الصغار لا يلاحظون الفرق، حسب قولها.

وهناك أطباق وأطعمة خضعت لتعديلات وتغييرات قبل سنوات الحرب والنزوح، لتتلاءم مع الأوضاع المادية للعائلات السورية في الشمال السوري مثل طبق الـ “فروج طافش”، والذي يُطلق عليه اسمٌ آخر هو “بنت عم الصينية”، وهو عبارة عن قطع بطاطا وبندورة مع التوابل، وبعض السيدات يضفن له ورق العنب، لكن المكونات الأصلية لهذا الطبق هي عبارة عن شرائح بطاطا وبندورة وفوقها قطع فروج أو طبقة من اللحم الناعم.

سوء الأوضاع المادية ونزوح عائلات إلى أماكن بعيدة عن مدنهم وبلداتهم بسبب الحرب، أدخل بعض النساء في أزمات نفسية، خاصة ممن تغيرت حياتهنّ بشكل كبير عما سبق، وهذا حال السيدة سلمى، المقيمة وعائلتها في مخيمات سرمدا، والتي لم تطبخ منذ أن أجبرتها الحرب على مغادرة قريتها كفرسجنة بريف إدلب الشمالي، منذ أربعة أعوام، كما روت لنا، إذ تلاشت رغبة الطبخ عندها، حسب تعبيرها.

تقول سلمى: “منذ أن دخلت مطبخي الجديد الخالي من الرفوف، والذي لا تصل مساحته إلى ثلث حجم مطبخي في منزلي القديم، لم يعد بمقدوري التفنن بالطبخ كما كنت في السابق، بسبب تراجع وضع زوجي المادي بعد النزوح، لذلك كلفت في البداية ابنتي الكبرى بإعداد الطعام لنا، وبعد زواجها تولت ابنتي الصغرى تلك المهمة وفي حال تزوجت هي الأخرى فستنتقل المهمة إلى عروس ابني بعد زواجه، إذ قررت ألّا أطبخ إلا بعد رجوعي إلى قريتي”.

أما النساء المقيمات في المخيمات فتعتمدن على مكونات السلة الغذائية الشهرية، من أجل تحضير طبخاتهن اليومية، مثل الأرز والبرغل والعدس والزيت والحمص والمواد الغذائية الأخرى، وفي حال كانت لدى النساء أكلة أو طبخة بحاجة لمقادير ومكونات من خارج السلة الغذائية، فإنهن يلجأن إلى بيع أصناف لن يحتجنها من السلة، وشراء ما ينقصهن لإعداد أطباق الطعام التي ترغب عائلتهنّ بها.

صحيح أنَّ تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية أجبر سيدات سوريات كثيرات على تعديل أطباق شهيرة مثل المحاشي والكبّة والكباب والكبسة وقررنَ الاستغناء عن لحم الغنم أو البقر نهائياً أو الاستعاضة عنه بلحم الدجاج (الفروج)، لكنهن لم يستسلمن، طالما أنَّ المقولة الراسخة بأذهان السوريين والسوريات “الطبخ نَفَسْ بالمقام الأول” ما زالت هي المعيار الأساسي مع كل طبق جديد تُحضِّره النساء لأزواجهنّ وأطفالهنّ.