تثير كلمة “كمليك” الرعب في نفوس اللاجئين السوريين في تركيا، إذ يعيش من لا يملك بطاقة الحماية المؤقتة في معظمهم عاطلون عن العمل، أو يلجؤون إلى العمل بأجور منخفضة، كذلك يحرمون من حق الطبابة والتعليم إن حالفهم الحظ بالابتعاد عن دوريات الشرطة، أما في حال وقوعهم تحت يد أحد الحواجز فمصيرهم الترحيل إلى الشمال السوري لا محالة.
عدم استخراج الكيملك ليس إهمالاً من قبل السوريين الهاربين إلى تركيا بحثاً عن لقمة عيش، لكنه جاء بقرار اتخذته ولايات تركية عدة خلال السنوات الأخيرة، يفيد بوقف منح الحماية المؤقتة للوافدين الجدد، أبرزها ولاية إسطنبول التي قررت في تموز 2019 إغلاق الباب أمام الراغبين بالحصول على الكيملك نهائياً.
لحقت ولايات أخرى بولاية إسطنبول في اتخاذ القرار ذاته، مثل أنقرة وعينتاب ما دفع سوريون للتوجه إلى ولايات أخرى بعيدة في شمال وشرق تركيا لاستخراج البطاقة والعودة للعمل في المدن الرئيسة، رغم ما يتبع وجودهم من مخاطر، بدء من عدم قدرتهم على استئجار منزل وغياب فرص التعليم والطبابة في المستشفيات والمدارس العامة وانتهاء بترحيلهم لمخالفتهم اللوائح التي تفضي بعدم جواز وجود اللاجئين السوريين في ولايات لا يحملون كيملكها.
زيادة إقبال الوافدين الجدد على استخراج الكمليك من الولايات النائية، دفع الحكومة التركية إلى وقف منح بطاقة الحماية المؤقتة على كامل أراضيها، لتقفل جميع الأبواب في وجههم ويتعرضون للترحيل في كل حملة أو مناسبة، وهو ما يفسّر إعلان وزارة الداخلية التركية التي ادعت عودة 604 آلاف و277 سوري “طوعًا” إلى بلادهم خلال عام 2023، دون تحديد للوضع القانوني للعائدين، وفي الوقت نفسه أعلن أردوغان أن حكومته تخطط لإعادة 200 ألف سوري إلى بلدهم خلال العام الحالي.
خرائط ليست على تطبيق جوجل
أن تكون بلا كيملك أو تحمله من مدينة أخرى غير تلك التي تسكنها يعني أن تحفظ الطرقات عن ظهر قلب، تعرف الطرق الفرعية مداخلها ومخارجها، تتجنب المواصلات العامة وحتى الخاصة، تبتعد ما استطعت عن الشوارع الرئيسية، تتجنب ارتكاب أي مخالفة، هاجسك اليومي أن ترسم خرائط في عقلك للإفلات من الشرطة.
جحيم الكيملك يرافقك حتى في أحلامك، يقول منصور، لاجئ سوري في إسطنبول “تخيلوا أني بسبب حالة الرعب التي أعيشها وغيري من السوريين المخالفين، أصبحت أسلك الطريق إلى العمل يومياً سيراً على الأقدام، أحتاج نحو ساعة للوصول إن اخترت الطريق الأقصر، لكن عليّ يومياً أن أغير الطريق، أنا لا أجرؤ على ركوب وسائل المواصلات، وفي أيام العطل أختبئ في المنزل مثل الفئران، ولا أخرج سوى لأمر طارئ جداً”.
منصور وجد عملاً في الوقت الذي لا يجد أشخاص كثر من يقبل بهم، خاصة في المعامل والورش التركية دون بطاقة الحماية المؤقتة، وهو ما يدفع أرباب العمل لاستغلالهم ودفع أجور تقل عن الحد الأدنى المتعارف عليه تركياً.
آخرون وجدوا في الورش والمعامل والمحلات التي يملكها سوريون ضالتهم في إيجاد فرصة عمل، لكنهم أيضاً يتعرضون للاستغلال، والخوف من حملات التفتيش من الجهات المختصة التركية التي تجبرهم على العودة إلى الشمال السوري في حال وجدتهم، دون مراعاة لظروف أسرهم الذين يعيشون في تركيا، وهو ما “يدمر حياتهم”، بحسب من تحدثنا معهم.
عمران، شاب في الخامسة والعشرين من العمر كان يعيش رفقة أطفاله في مدينة عينتاب، ويحمل بطاقة حماية مؤقتة من ولاية أورفه، قال إنها المرة الثالثة التي يحاول العودة فيها إلى عائلته بعد ترحيله منذ شهرين، لكن دون جدوى. داخل أحد المعامل أمسك الأمن التركي بعمران وأجبره على توقيع أوراق العودة “الطوعية” وإرساله إلى الشمال السوري، يقول “حاولت أن أبني حياة هنا وأجلب أطفالي لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فرص العمل قليلة والأجور لا تكفي لاستئجار منزل”.
الرحلة الطويلة والخرائط التي ترافق منصور في نومه ويقظته ليسلكها بعيداً عن أعين رجال الشرطة دفعته لترك عمله والبقاء في المنزل بحثاً عن عمل “أون لاين” كما يقول، هو الآن يعمل في التسويق الالكتروني ولا يحتاج للخروج من المنزل إلا “لحدث جلل”. يقول منصور”كان حلاً ممتازاً لتأمين مصدر دخل، وفي الوقت ذاته استطعت تجنب الخروج من المنزل والتعرض لخطر الترحيل”.
حرمان.. التعليم والطبابة فخّ للترحيل
تشترط الولايات التركية وجود بطاقة للحماية المؤقتة صادرة عن المدينة ذاتها لاستئجار المنازل والدخول إلى المدارس والمستشفيات، وهو ما يفرض معادلة يعرفها جيداً من يعيش في هذه الولايات “مافي كيملك ما في حياة”.
تقول أم أنس عز الدين، لاجئة سورية في أنقرة، إن المدرسة اشترطت لتسجيل أطفالها في المدرسة “كيملك صادر من الولاية ذاتها وفاتورة ماء أو كهرباء أو غار مسجلة باسم رب الأسرة، وأن يكون عنوان منزله مسجلاً في دائرة النفوس”، جميع هذه الطلبات ترتبط بوجود بطاقة الحماية المؤقتة لتحقيقها.
أنس اليوم في الحادية عشر من عمره، لم يدخل مدرسة قط ولا يجيد القراءة والكتابة، تقول والدته “بسبب عدم امتلاكنا كيملك ضاع مستقبل أطفالي، فلا نستطيع التسجيل في المدارس الحكومية، وليس لدينا القدرة المالية على دفع أقساط المدارس الخاصة”. تتراوح أقساط المدارس الخاصة العادية، بين 4 إلى 7 آلاف ليرة تركية شهرياً لكن التعليم فيها متواضع، بينما يتراوح قسط التسجيل في المدارس الدولية النموذجية بين 15 إلى 20 ألف ليرة شهرياً، أي ما يعادل راتب شهر كامل وفق الحد الأدنى للأجور إن حصل عليه رب الأسرة.
لا يوجد استثناءات تمنح الأطفال حقّهم في التعليم ما يهدد مستقبل آلاف الأطفال السوريين في تركيا ويضغط على عائلاتهم لاتخاذ قرار بالعودة، يقول أحمد الجاسم، مدرس في إحدى المدارس التركية في ولاية الريحانية، إن التعليم يستخدم كورقة ضغط لإعادة اللاجئين إلى الشمال السوري. ويضيف الجاسم “هربنا بأطفالنا من الموت، كان مستقبلهم سبب تركنا للمكان، هذا موت من نوع آخر، لا يقتصر على التعليم فقط بل إلى حق الأطفال بالطبابة أيضاً”، إذ يحرم المخالفون أو غير الحاصلين على الكيملك من الخدمات الطبية المجانية، وبالتالي يضطرون لشراء الأدوية من الصيدليات والعلاج في المستشفيات الخاصة، أو إهمال صحتهم وعدم العلاج، لعدم قدرتهم على تحمل تكاليفه.
تدفع أم أنس، ثلث راتب زوجها لشراء دواء الروماتيزم لطفلها، تقول “يحتاج طفلي أسبوعياً إلى إبرة خاصة لعلاج الروماتيزم سعرها ألف ليرة تركية، إضافة إلى 4 علب دواء وفيتامين بسعر 400 ليرة تركية شهرياً، وبالتالي ندفع كل شهر 4500 ليرة ثمن دواء فقط، عدا مصاريف المعاينة لدى الطبيب شهرياً”.
كذلك تحرم هذه الفئة من الدخول إلى المستشفيات، ويضطرون، حتى في الحالات الإسعافية إلى مراجعة المستشفيات الخاصة. تقول منى إنها عانت من نزيف حاد بعد حملها وعند مراجعتها للمستشفى في مدينة عينتاب رفض السماح لها بالدخول كونها تحمل كيملك من ولاية مرسين ما أجبرها على دفع 25 ألف ليرة تركية للعلاج في إحدى المستشفيات الخاصة.
ويقول أحد الأطباء، أخفينا اسمه بناء على طلبه، إن الليلة الواحدة في المستشفى الذي يعمل به في مدينة عينتاب تتطلب دفع مبلغ يتراوح بين 4 إلى 5 آلاف تركية، وتتراوح تكلفة الولادة بين 20 إلى 35 ليرة، أما العمليات القلبية فتزيد عن 100 ألف ليرة، إضافة لثمن الأدوية والمصول وصور الأشعة وغيرها من الإجراءات اللازمة.
في ظل غلاء تكاليف العلاج في المستشفيات الخاصة، يلجأ أغلب السوريون الذين لا يحملون بطاقة الحماية المؤقتة إلى المراكز الطبية التي يشرف عليها أطباء سوريون وعرب، كون تكلفة المعاينة فيها تتراوح بين 400-600 ليرة، لكن خدماتها تقتصر على المعاينة فقط ولا تقدم أدوية مجانية، ولا تملك الحق بإجراء الأشعة أو الاستقصاءات الأخرى أو إجراء العمليات الجراحية ما يعيدنا مرة أخرى إلى أحد الخيارين، العودة إلى الشمال السوري “الطوعية” أو دفع مبالغ مالية لا يملكها معظمهم.
الحصول على سكن عنوان آخر يقع تحت سطوة الكيملك، إذ يشترط لتنظيم عقد إيجار بطاقة حماية مؤقتة صادرة عن المدينة ذاتها، ويجبر الباحثين عن سكن على استئجار منازل في أحياء تحددها البلديات، ومن لا يملك البطاقة عليه البحث عن لاجئ يملكها ويقبل بتسجيل عقد المنزل باسمه.
ترتفع بموجب هذه الشروط تكاليف الاستئجار، إذ يقوم قسم من أصحاب هذه المنازل بتأجيرها بمبالغ مضاعفة شريطة تجاهل بند الكيملك، ويرفعون لأجل ذلك الإيجار في كل فترة دون قدرة المستأجر على رفع شكوى أو أن يملك حق الرفض. تتطابق هذه الشروط في المدارس والمستشفيات وعقود الإيجار، و تتعداها لمعاملات فتح الحساب البنكي والطلاق والوفاة والزواج والولادة.
شرط للزواج و خلافات عائلية
“عندك كيملك”، مبتسماً يخبرنا علي الخطيب عن شروط يفرضها آباء من قابلهن في رحلة بحثه عن زوجة في تركيا، يقول “وجود الكيملك ومكانه شرط رئيسي لقبول أو رفض العريس، ربما يكون الحق معهم إن أمعنا التفكير، فمع التضييق الحاصل يخشى الآباء على بناتهن، سيعشن داخل بيوتهن دون القدرة على الخروج ضمن رعب الرحيل مع أزواجهن أو البقاء وحدهن، كذلك ما يتعلق به الأمر في السكن والطبابة وتعلم الأطفال مستقبلاً، والأهم من ذلك الحصول على أوراق تثبيت الزواج”.
يؤكد كلام علي، الباحث عن زوجة حتى الآن تقبل به دون كيملك، ما ترويه ياسمين، لاجئة سورية في إسطنبول، تقول “منذ تزوجت قبل أشهر لم أخرج من منزلي، أمضينا شهر العسل داخل البيت خوفاً من ترحيل زوجي، إذ ترافق زواجنا بالحملة الكبيرة للبحث عن المخالفين في تموز الماضي”.
“لم تعد الحياة تطاق” تقول ياسمين واصفة ما تعيشه “أمسك قلبي بيدي كلما طرق أحدهم الباب، أطمئن على زوجي بالهاتف عشر مرات يومياً خوفاً من ترحيله، ليس لدي أوراق تثبت زواجي سوى عقد زواج عند أحد الشيوخ السوريين، لم أخرج برفقته يوماَ ولم أتجول في إسطنبول، أخاف أن أتوه إن خرجت من المنزل، هذا الضغط يدفعني يومياً للتفكير بالطلاق”.
العجز الذي يرافق السوريون، يدفعهم للبحث عن بدائل لحياتهم، العودة “الطوعية” أو اللجوء إلى طرق التهريب بحثاً عن حياة أكثر استقراراً أياً كانت مخاطر الرحلة.