فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

عودة طوعية.. بالقوة

سوسن الحسين

الرئيس التركي وعد بترحيل مليون سوري خلال موسم الانتخابات الأخيرة، وها هو يعمل على الإيفاء بوعده

لم تنظر مريم الجاسم، 15 عاماً، إلى الكاميرا أثناء التقاط الصورة الفوتوغرافية لها كي يتسنى لأحد من عائلتها التعرف عليها. كان في تحاشيها النظر الكثير مما لا تقدر على قوله كلمات. انتشرت صورتها بين حسابات سورية في تطبيقات التواصل الاجتماعي؛ بنت سمراء متعبة بعباءة سوداء مغبرّة ووجه تملؤه الحيرة والصمت في آن. رافق الصورة تسجيل صوتي لرجلٍ وجدها وآواها، يتوجه لأي أحد يعرف أقاربها في الشمال السوري عسى أن يأتي لنجدتها. 

لماذا لم تسجل مريم رسالتها بنفسها؟ لمَ لم تنظر إلى الكاميرا؟ هل هي الصدمة، أم حرج فتاة من حاجتها إلى الغوث؟ ربما يكون هذا يأساً يجلس معها على الأرض الأسمنتية التي جلست عليها تحدق في اللاشيء.

كانت مريم قد خرجت لشراء بعض الخضار من منزلها في مدينة أزمير التركية حيث تعيش هناك لاجئة رفقة أهلها الذين فرّوا من بلدة دير حافر في ريف حلب، لكنها لم تعد إلى البيت. قبض عليها عناصر من قوات الدرك التركية المعروفة بالجندرما، أول ما فعلوه أن جردوها من هاتفها ورحلّوها إلى سوريا، حتى أنها لم تعط فرصة تبليغ عائلتها. شاهد أفراد من عشيرتها الصورة فتعرفوا عليها ثم اصطحبها أحد منهم لتعيش بينهم، فالعودة إلى أزمير في هذه الأيام مستحيلة. 

مريم واحدة من حوالي مليون لاجئ ولاجئة سوريين وعد الرئيس التركي أردوغان بترحيلهم خلال موسم الانتخابات الأخيرة، وها هو يعمل الآن على الإيفاء بوعده دون أن يستثن منه أحداً، لا مراهقة ولا طالباً جامعياً ولا امرأة حبلى ولا شيخاً. 

في يوم واحد فقط، السادس من أيلول/سبتمبر الماضي رصد مراقبون ترحيل 520 سوريًا من بينهم 72 امرأة مع أطفالهنّ، 220 منهم عبر معبر تل أبيض إلى محافظة الرقة شرقي البلاد حيث يسيطر الجيش الوطني السوري، و300 عبر معبر باب الهوى إلى محافظة إدلب حيث يسيطر تنظيم تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً). 

أما في الأسبوع الأخير من تشرين أول (أكتوبر) وحده، فبلغ عدد المرحلين من الأراضي التركية إلى سوريا قسرياً قرابة الـ 3300، كانت عمليات إبعادهم من معابر تل أبيض وباب السلامة وباب الهوى تجري بعد أخذ البصمة البيومترية بهدف منع صاحبها من العودة ثانية تحت أي ظرف كان.

من إسطنبول إلى مخيم حران أورفا

ثلاث كرافانات في مخيم حرّان في أورفا جنوب شرق تركيا؛ واحدة للسوريين وثانية للأفارقة وأخرى للقادمين من شرق آسيا. لدى وصوله القسري توجّه الفلسطيني السوري معاوية الغرباوي (الاسم الأول مستعار) إلى كرفان السوريين مرغماً على الرحيل من إسطنبول إلى أورفا فالمخيم، الذي هو أصلاً نقطة لتبديل الدوريات العسكرية التركية السورية المشتركة على الحدود. 

لم يكن الغرباوي لاجئاً ولا يوجد في أوراقه أي التباس فإقامته سياحية. قصد إسطنبول بعد دراسته الهندسة المدنية في جامعة حلب لإتمام دراساته العليا، ولسوء حظه انتهت هذه الإقامة في الفترة التي بدأ فيها التضييق والمماطلة في تجديد أوراق السوريين.  

بدأت هذه التضييقات في تموز (يوليو) 2019، حين أجرت السلطات التركية عمليات فحص واسعة النطاق للبطاقات الشخصية والإقامات في الأحياء المعروفة بتواجد السوريين فيها وفي محطات مترو الأنفاق والقطارات والحافلات، وإن كان هناك أدنى مشكلة في أوراق أي سوري يقبض عليه ويحول إلى محكمة إدارية.

يوقّع، يُحتجز، يُرحّل 

قُبض على الغرباوي وحوّل إلى المحكمة الإدارية التي قضت بإخلاء سبيله، رغم ذلك احتجز خمسة أشهر ونصف. يروي “أخبروني وصديقاً معي أنهم سيخلون سبيلنا بعد استكمال بعض الإجراءات، فانتظرنا بين 37 شخصاً آخر انتهاءهم من الأوراق”. 

يتابع “قبل الثالثة بعد الظهر دخلت طبيبة للكشف عن الوضع الصحيّ للمجموعة كاملةً، وخوفاً من تأخير إجراءات إخلاء سبيلنا أبلغوها أنهما لم يتعرضا للضرب، بخلاف ما حصل طبعاً. بدأت تصل الأوراق، أدخل كل خمسة معاً أمام اثنين من الجندرما يمسكان هراوات وطُلب منهم البصم على الأوراق دون معرفة محتواها. يخفون الكلمات العربية إذا حاول أحد القراءة وإذا رفض التوقيع إما أن يكسر أنفه أو يده وفي نهاية الأمر سيوقع أو يرحل دون توقيع”. 

أغلب الظن أن الورقة التي يؤمرون بالتوقيع عليها هي تلك التي تذكرها مفوضية اللاجئين على موقعها بالنص: “إذا كنت ترغب في العودة إلى سوريا طوعاً، فيمكنك الوصول إلى مديرية المحافظة لإدارة الهجرة في محافظتك التي سجلت فيها. بعد أن تبلغهم برغبتك في العودة، سيتم إجراء مقابلة شخصية معك وسيُطلب منك التوقيع على نموذج طلب العودة الطوعية لتسجيل عودتك إلى سوريا”.

بدأت تصل الأوراق، أُدخِل كل خمسة معاً أمام اثنين من الجندرما يمسكان هراوات وطُلب منهم البصم على الأوراق دون معرفة محتواها.. كانوا يخفون الكلمات العربية إذا حاول أحد القراءة وإذا رفض التوقيع إما أن يُكسَرَ أنفه أو يده وفي نهاية الأمر سيوقع أو يرحل دون توقيع 

كان هذا حال المجموعة كاملة، عدا الغرباوي وصديقه حيث نُقلا إلى أورفا. هناك حوكم الغرباوي مرة أخرى وأخلى القاضي سبيله مجدداً، وحين ذهب لاستلام أماناته، كان المسؤول غائبًاً وظلّ الأمر هكذا لأكثر من خمسة أشهر.

تقرر نقل الرجل إلى مخيم عنتاب (أوزرلي) مع ثلاثين شخصاً في حافلة، يروي “صعد موظف دائرة الهجرة وطلب منا التوقيع على أوراق ادعى أنه لايعرف مضمونها، ثم صعد موظف آخر أبلغنا أنها أوراق كامب أوزرلي، تعالت أصوات المحتجزين اعتراضاً فوجهتهم مجهولة، لا مأوى، ولا يملكون مبالغ مالية لتأمين احتياجاتهم الأساسية، ثم صعد عنصر جندرما راح يقرأ اسماً ويزجر صاحبه آمراً إياه: وقّع”. جاء دور رفيق الغرباوي الذي أمسك بيده المرتجفة القلم ونظر إلى صديقه حائراً مستفهماً كأنه يطلب مساعدة، فأومأ إليه بأن يوقع: “كانوا سيضربوننا وسيمسكون أيدينا بعد كسرها ثم يجبروننا على البصم”. 

رفض المعبر ترحيل الغرباوي مرة أخرى لأنه يحمل إخلاء سبيل، فعرض على محكمةٍ إدارية أخرى للمرة الثالثة. هذه المرة واجه القاضية بعد أن منحته إخلاء السبيل، أبلغها أنه على هذه الحال منذ شهور، وأن الجندرما سيحتجزونه من جديد لترحيله: “البارحة أعادني المعبر”، أجابت “أنا عاجزة، صلاحياتي تنتهي هنا”.

بعد مواجهته هذه، احتجز 12 ساعة في حجرة صغيرة خالية إلا من ضوء وكاميرا وقطعة خبز وعبوة ماء صغيرة، يشرح: “الهدف كان عزلي عن الآخرين، أو عن محامٍ”، ثم نقل إلى غرفة توقيف أكبر بقي فيها خمسة أيام، رُحّل بعدها مع عائلة.

عودة طوعية بالقوة - المصدر: خط 30
المصدر: خط ٣٠

تعريف الكامب 

يصف مرحّلون الكامب بأنه مبنى مؤلف من أربعة أقسام، قسمان مخصّصان للإدارة والجندرما، وآخران للمحتجزين كل واحد منهما مقسوم إلى جزئين يستوعب الواحد منهما  180- 200 شخصاً لكن فيه اليوم حوالي 800 شخصاً بينهم حوالي 200 امرأة مع أطفالهنّ.

في الجزء الواحد يمكن لكل 180 محتجز في هذا المكان استعمال هاتفين محمولين، أحدهما معطل دائماً، وتكون أوقات الاتصال المسموح بها من الثامنة وحتى العاشرة مساءً، أي بمعدل دقيقة لكل محتجز، ما يقود إلى مشاجرات بين المحتجزين متعددي الجنسيات والخلفيات والطباع.  

في هذا المكان برّادان للشرب فقط ويُسمح لكل محتجز ومحتجزة باستخدام الشامبو والصابون مرة واحدة في اليوم. ثمة مقص أظافر واحد، شفرة الحلاقة مسموحة مرة في الشهر. المحتجزون في الكامب يصحون من النوم حسب رغبة المراقب، ويأتي الطبيب مرة واحدة فقط كل أسبوع ويستقبل 15 حالة فقط، فإذا مرض أحدهم باقي أيام الأسبوع يتولى المهمة عامل الصحية. 

يخصص لكل محتجز داخل الكامب ثلاث وجبات: الإفطار جبنة، الغذاء لحم أو “أي شيء آخر تفوح منه رائحةٌ نغلق أنوفنا قبل أن ندخله إلى أفواهنا” بحسب الغرباوي. العشاء قطعة حلوى من السميد أو وجبة خفيفة من الفاصولياء والبرغل.

يختلف المخيم عن الكامب بأنه يؤوي عائلات، أما الكامب فهو مجمّع مؤقت للاحتجاز. وفي حين يخضع المخيم والكامب لإدارة الهجرة لكن وصول المنظمات الإنسانية للأول تكون أسرع ودون قيود على عكس الثاني. 

في هذا المكان برّادان للشرب فقط ويُسمح لكل محتجز ومحتجزة باستخدام الشامبو والصابون مرة واحدة في اليوم. ثمة مقص أظافر واحد، شفرة الحلاقة مسموحة مرة في الشهر. المحتجزون في الكامب يصحون من النوم حسب رغبة المراقب، ويأتي الطبيب مرة واحدة فقط كل أسبوع ويستقبل 15 حالة فقط

بحسب أحد المرحلين فإن هناك كامبات فرعية تستقبلهم وتنقلهم من الولاية المركزية إلى الحدودية، أما الكامبات الرئيسة فتستقبل كل المرحلين في البداية ثم تشرف على تقسيمهم وتنفيذ عمليات الترحيل نفسها. وأكثرها نشاطاً أورفا وغازي عنتاب وأضنة. السمة المشتركة بين كل الكامبات أنها تمنع المحتجزين من الاتصال بمحامٍ. 

المحامي رامي عزمي الكسم، في مقابلة على الرابطة السورية لكرامة المواطن أشار إلى وجود العديد من السوريين في مراكز الترحيل ومراكز الشرطة يمكن حل قضاياهم بسهولة تامة لو أنهم تمكنوا من توكيل محامٍ، مبينًا أن حاملي بطاقة الحماية المؤقتة يملكون حقوق وواجبات المواطنين الأتراك ذاتها طالما أنهم يعيشون تحت سيطرة الدولة التركية. 

لكن فاقد الحماية المؤقتة لا يستطيع تقديم طلب اكتسابها مرة أخرى إلا بعد خمس سنوات، بحسب الكسم، الذي يؤكد أنه يمكن في بعض الحالات اكتساب حق الحماية المؤقتة مجدداً من خلال رفع دعوى إدارية للمحكمة، وفي حالات أخرى، يمكن للشخص تقديم “استرحام” لمركز خدمات الهجرة، حيث تقوم لجنة هناك بدراسة طلبه. 

لكن الحق في الحماية ليس مطلقًا، فبموجب المادة 11 من نظام الحماية المؤقتة، تحتفظ تركيا بالحق في إنهاء نظام الحماية المؤقتة بشكل جماعي، أو بشكل فردي بموجب المادة 12. وهكذا، يبدو من الناحية النظرية أن تركيا يمكنها إعادة السوريين إلى سوريا في أي وقت، على الرغم من تعهدها بألا تقوم بعملية إعادة قسرية، لكنها في العديد من الحالات الفردية، فعلت وتفعل ذلك على وجه التحديد.

في عام 2016، عدلت تركيا قانون الهجرة واللاجئين لتسهيل ترحيل أفراد الحماية المؤقتة المرتبطين بالإرهاب. ومن حيث المبدأ، يبدو أن هذا يتوافق مع المادة 32 من اتفاقية جنيف، التي تسمح بطرد اللاجئين لأسباب “الأمن القومي أو النظام العام”.  وبالطبع فإن تركيا لن تذهب إلى حد الترحيل الجماعي، فالأمر لعبة سياسية داخلية وخارجية أكثر من أن تكون مسألة قانونية.

لعبة المهاجرين والأنصار 

هناك 3.6 ملايين لاجئ سوري في تركيا، هؤلاء خاطبهم رجب أردوغان قبل عدة سنوات قائلاً “أنتم المهاجرون ونحن الأنصار”، عبارة تكررت كلما كان هناك ضرورة إلى ذلك، وعلكتها الأحزاب التركية تلك التي معه والأخرى التي ضده. 

بالرغم مما تحمل العبارة من دلالات تخاطب الذاكرة الدينية، لكنها تبدو بلا قيمة فعلية على الأرض وليس لها وزن قانوني أو حقوقي، من دون إغفال المعنى الضمني الخطير -الذي لم يفت الرئيس التركي بلا شك- في الفرق بين صفتي المهاجر واللاجئ. 

فحين يصرح الرئيس أن المواطنين الأتراك سيشعرون بالتغييرات الواضحة في قضية المهاجرين غير الشرعيين خلال وقت قصير، واعداً بترحيل مليون لاجئ إلى سوريا وحين يقول وزير الداخلية التركي الحالي علي يرلي قايا في وعوده للأتراك قبيل الانتخابات البلدية إن “أعداد المهاجرين غير النظاميين ستنخفض بشكل ملحوظ خلال 4 أو 5 أشهر”، فهما يتحدثان عن هجرة مخالفة للقوانين وليس عن حاصلين على “الحماية المؤقتة” وهو وضع اللاجئين السوريين، فلم تمنحهم تركيا وضع اللاجئ الكامل.

يمنح هذا الوضع اللاجئين السوريين إمكانية الوصول إلى الخدمات الأساسية، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم، لكنه يتطلب منهم العيش في المحافظة التي سُجّلوا فيها، ولكي يتنقلوا لا بد من أن يحصلوا على تصريح سفر بين المحافظات. 

الآن بعد أن زالت غشاوة الأنصاريّ عن أعين كثير اللاجئين، عادت إلى ذاكرتهم أصوات الرصاص الذي كان يستقبل الهاربين منهم عند الحدود التي يحرسها جدار العزل المصنف ثالث أطول جدار في العالم بعد سور الصين العظيم والجدار العازل بين المكسيك وأمريكا، وصمت الحكومة التركية عن الذين قضوا تعذيباً على أيدي حرس الحدود.

من هم جندرما الترحيل وكيف يعملون؟ 

معبر باب الهوى، معبر باب السلامة، معبر تل أبيض، منافذ حدودية رئيسية يُرحّل السوريون عبرها، إذ يبلغ عدد المرحّلين يومياً نحو 100 شخص وقد يزيد عن ذلك، بينهم مغاربة وأفغان أجبروا على التوقيع على ورقة العودة الطوعية التي تبدأ بـ “أنا المواطن السوري”.

يذكر العشريني عبد الرحمن عيسى، مرحّل آخر، أنه حشر مع 125 شخصاً في إدارة الهجرة بكامب شانلي أورفا، وبكلماته فإن “أقل فترة أوقف فيها هؤلاء وصلت إلى ستة أشهر بتبريرات كثيرة منها إقامات منتهية الصلاحية رفض تجديدها بسبب تقصير إداري؛ إذن عمل؛ إذن سفر؛ اتهام باطل بشراء دراجة غير نظامية؛ وغيرها من الأوراق التي تماطل المؤسسات التركية في تجديدها بهدف إعطاء احتجازنا وترحيلنا صبغة قانونية”.

لدى مقارنة روايات مختلفة لعدد من المرحلين من ولايات هاتاي ومرسين وقونيا وإسطنبول وأورفا، فإن مداهمات تنطلق في الشوارع المعروفة بأنها مأهولة بالسوريين، تُقتحم خلالها المحال والبيوت. تجري العملية بسرعة كبيرة فلا يتاح لمن قُبض عليهم إخبار ذويهم، بعضهم خرج لشراء حاجيات ولم يعد.

الجندرما صاحبة سجل واسع في قتل وتعذيب اللاجئين منذ بداية الحرب في سوريا هم أفراد لا يتعدى وجودهم في المناطق الحدودية عامين حين فُتح باب التطوع، تعليمهم محدود لكن بعضهم يجيد اللغة العربية، يكلفون بترحيل عدد معين في وقت محدد مما يزيد من دوافعهم في استخدام العنف والترهيب

بعد جمعهم، يُنقلون إلى سجن إدارة الهجرة ويحتجزونهم لساعات ثم يصعدون إلى الحافلات مصحوبين بالجندرما. والجندرما صاحبة السجل الواسع في قتل وتعذيب اللاجئين منذ بداية الحرب في سوريا هم أفراد لا يتعدى وجودهم في المناطق الحدودية عامين حين فُتح باب التطوع، ليسوا جميعهم تركاً إذ بينهم أفراد من الكرد والتركمان وإثنيات أخرى، تعليمهم محدود لكن بعضهم يجيد اللغة العربية، يكلفون بترحيل عدد معين في وقت محدد مما يزيد من دوافعهم في استخدام العنف والترهيب لا سيما وقد زُوّدوا بالهراوات لخدمة هذا الغرض، بحسب الغرباوي الذي يتقن اللغة التركية وكان يسمع أحاديثهم.

لحظة التوقيع يصعد كل ثمانية أشخاص إلى حافلة مختلفة مع عشرين عنصر جندرما، يهددونهم ويشتمونهم ويجبرونهم على التوقيع، ويمسكون يد من يمتنع ليبصم بعيداً عن الكاميرات، بحسب شهادة عيسى الذي تؤيد شهادته أقوال آخرين أكدوا أن غالبية المرحلين يمتلكون أوراقاً نظامية منها “كملك” أي بطاقة الحماية المؤقتة، أو إذن عمل، أو بطاقة تاجر.

مدير العلاقات الإعلامية بمعبر باب الهوى الحدودي، مازن علوش، أحصى عدد الداخلين من مطلع كانون الثاني (يناير) حتى مطلع آب (أغسطس)، أي على مدى سبعة أشهر متتالية، من الجانب التركي إلى السوري بـ 7514 مرحّلاً، أي بمعدل أكثر من ألف شهرياً، منهم 1300 دخلوا بطريقة غير شرعية وأُمسك بهم على الحدود بينما كان باقي المرحلين مقيمين ضمن الولايات. 

كل هؤلاء وقعوا على ورقة العودة الطوعية، ومن ضمنهم من عاد في فترة الزلزال بعد أن فقد مأواه. يوضح علوش: “يستقبل الجانب السوري المرحلين عند نقطة الارتباط السورية التركية في قسم خاص بهم لاتخاذ بعض الإجراءات الإدارية ثم يدخلون إلى المناطق السورية المحررة، معظمهم يذهبون إلى أقاربهم”.

عودة طوعية بالقوة - المصدر: خط 30
المصدر: خط ٣٠

الخوف من بوابة تل أبيض 

في رحلة استغرقت عشرين يوماً يقدر عيسى عدد المرحلين خلالها بأكثر من ألفي شخصاً. لم يخيّروا بالبوابة التي سيرحلون عبرها وفرض عليهم معبر تل أبيض بريف الرقة. أثار الاسم بحد ذاته فيهم الخوف ليس من الترحيل فقط بل من الوصول. 

سيطرت القوات التركية على معبر تل أبيض بعد تنفيذ عملية نبع السلام في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، تفصلها عن ريف حلب الشمالي مناطق خاضعة لسيطرة قوات النظام وقسد (قوات سوريا الديمقراطية)، مما يعرض المرحل الذي يحتاج الوصول إلى أقاربه في ريفي حلب وإدلب إلى الخطر، فأمامه خيار واحد وهو التهريب ولابد له من سلوك أحد الطريقين؛ النظام وقسد، أو تركيا من جديد وفي الحالتين مشقة وخطورة وتكاليف لا طاقة له عليها.

بعد وصوله مدينة تل أبيض، عمل عيسى وناشطون آخرون على إيصال صوت المرحّلين، كما مارسوا ضغوطاً على المجلس المحلي في المدينة ومجلس القبائل والعشائر للوصول إلى الوالي، فالانتقال من أراضٍ سورية إلى أراضٍ سورية أخرى يحتاج إذن الوالي التركي، الذي استجاب لطلب مقابلته وطلبوا منه الموافقة على نقلهم إلى ريف حلب الشمالي وإدلب.

 بعد يومين من المقابلة، وصلهم رد بضرورة توقيع ورقة طلب عودة إلى الشمال في المجلس المحلي للمدينة، وبالفعل وقع 93 شخصاً على الورقة قبل أن ينُقلوا في حافلات عبر الأراضي التركية إلى الشمال السوري. لم تختلف هذه الرحلة الطوعية (إلى حد ما) عن الأولى القسرية من حيث معاملة البوليس، تواصلت الإهانات والضرب حتى آخر نقطة عند معبر باب السلامة، حيث توزع المرحلون بين من ذهب إلى إدلب ومن اتجه إلى اعزاز.

الأتراك من مضيف متعاطف إلى كاره طارد 

“تعرض الأتراك إلى ضخ ممنهج لتشويه صورة السوريين خاصة، واللاجئين عموماً من قبل التيارات القومية والمعارضة كان له الدور الأبرز في تأجيج الشارع التركي ضد اللاجئين السوريين”، يقول عبد الكريم ليله أستاذ علم الاجتماع في جامعة حلب الحرّة في محاولة لتفسير ما يحدث، مشيراً إلى “الكثير من العوامل الأخرى الاقتصادية كالتضخم الاقتصادي وانهيار الليرة التركية، والعوامل الاجتماعية والسياسية التي أسهمت في تأجيج الشعور العدائي تجاه اللاجئين”.

 صنعت وسائل الإعلام المعارضة والتيارات القومية رأياً عاماً ضد اللاجئين من خلال عملية “هندسة اجتماعية ممنهجة طويلة الأمد” بكلمات ليلة، مستندة إلى عوامل عدة غذّت صناعة مواطن تركي رافض لوجود الغرباء واللاجئين بالتحديد وخصوصاً السوريين. 

من هذه العوامل ما يتعلق ببنية المجتمع التركي وحياته خصوصاً بعد أن أحدث السوريين أثراً كبيراً وفارقاً في عدد كبير من الولايات التركية وخصوصاً في العاصمة التاريخية إسطنبول، وأصبح وجودهم وتأثيرهم واضحاً في فرص العمل وفرق الأجور، إلى جانب دخول التجار منهم في ميدان الاقتصاد. هناك عوامل أخرى مرتبطة باختلاف الثقافات ونمط الحياة والعادات والتقاليد. 

يضيف ليله: “قطاع كبير من المجتمع التركي يعدّ اللاجئين خطراً يهدد أمنه المجتمعي وثقافته ونمط حياته وهيكله الديموغرافي، لا سيما في الولايات الجنوبية (مرسين، كلس، غازي عنتاب)، يظهر ذلك في أبسط التفاصيل من الزواج بين سوريين وأتراك، إلى الخبز السوري وبعض المأكولات السورية التي دخلت مطبخ عدد كبير من الأتراك”.

يضيف ليله العامل النفسي الذي يتدخل فيه بشكل كبير تسليط الضوء على سلوكيات شاذة أو إجرامية لبعض اللاجئين وتعميمها عليهم جميعاً، وهذا صنع حالة احتقان عامة تفسّر التنمر اليومي الذي يتعرض له السوري حتى لو كان واقفاً على إشارة المرور أو جالساً في حديقة عامة أو مستقلًا حافلة نقل عام. 

الجهل يتدخل أيضاً أو لنقل التجهيل، فالحكومة التركية ليست واضحة مع مواطنيها بخصوص مصادر الأموال التي تقدّم للاجئين. كثير من الأتراك يظنون أنها من خزينة الدولة نفسها، ولا يعرفون أنها مساعدات من دول الاتحاد الأوروبي ومن قطر ويجهلون قيمتها. 

مرة بعد مرة يترك اللاجئون السوريون لسلطات البلاد المضيفة التلاعب بهم وبحيواتهم، مثلما يُستعملون في تبرير أزمات اقتصادية وانهيارات وجرائم، ثم يستعملون مرة أخرى لتلميع صور الساسة والحصول على مكاسب في المفاوضات أو الانتخابات

ورغم الترويج إلى أن أصوات الناخبين الأتراك ذوي الأصول السورية أثرت بشكل كبير في الانتخابات الأخيرة، إلا أن الأرقام تقول شيئاً آخر، إذ حصل 231 ألف سوري على الجنسية التركية، منهم 131 ألفاً فقط من لهم حق التصويت. وهذا رقم صغير نسبياً في بلد يزيد عدد سكانه عن 64 مليون ناخب. 

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية عصام عبد الشافي، يعزو تفاقم سياسات الترحيل القسري إلى الضغوط الداخلية التي تخلفها مواقف المعارضة السياسية وتنامي التوجه العنصري، وحرص الحزب الحاكم على سد الثغرات التي يمكن أن تعوق نجاحه في الانتخابات؛ سواء الرئاسية والبرلمانية التي حصلت أيار/مايو الماضي أو البرلمانية التي سيخوضها العام المقبل.

يلفت عبد الشافي إلى جانب آخر متعلق بأهمية وخطورة ملف اللاجئين في أوروبا وتداعياته السياسية والاقتصادية والأمنية، ورغبة تركيا في الاستفادة من هذه الورقة، فلديها مصالح منها رغبتها القديمة في الانضمام للاتحاد الأوربي، وأزماتها السياسية الممتدة مع اليونان وفرنسا. 

حملات الترحيل لم تطاول اللاجئين السوريين في تركيا فحسب بل شملتهم في لبنان، حيث التقارير تتوالى حول احتجاز اللاجئين وترحليهم، من ذلك نشرت جارديان ونيولاينز شهادات قاسية لمن تعرضوا لمداهمات تعسفية يقوم بها الجيش اللبناني وقوى المخابرات على اللاجئين السوريين في مناطق سكنية ومخيمات في عدة محافظات وأقضية لبنانية.

وتشمل هذه عمليات تفتيش المساكن والاعتقالات لمئات اللاجئين وعائلاتهم، والترحيل القسري. وخلال هذه المداهمات، يتعرض العديد من اللاجئين، بمن فيهم الرجال والنساء والأطفال، لسوء المعاملة والاعتداء الجسدي والإهانة. وتتم مصادرة وثائقهم الرسمية وتخريب سياراتهم الخاصة أو الاستيلاء عليها.

وصل الأمر إلى أوروبا، ففي العام الماضي مثلًا أعلنت دائرة الهجرة الدنماركية أنها تعتبر اللاذقية وطرطوس منطقتين  آمنتين في سوريا تحت سيطرة الحكومة ويمكن العودة إليهما، إضافة إلى منطقتين كانت أعلنت عنهما عام 2019 وهما دمشق وريف دمشق.

دخلت دائرة الهجرة الدنماركية بسبب هذه الادعاءات في قضايا واستئنافات تقدمت بها لإلغاء الحماية المؤقتة لبعض السوريين من هذه المناطق “الآمنة”، حيث تخضع جميع قرارات دائرة الهجرة الدنماركية بإلغاء الحماية المؤقتة للاستئناف من قبل مجلس طعون اللاجئين وعادة ما تخسر قضاياها في المجلس، لكن مجرد طرحها للنقاش وتكرارها مدعاة للقلق. 

مرة بعد مرة يترك اللاجئون السوريون لسلطات البلاد المضيفة التلاعب بهم وبحيواتهم، مثلما يُستعملون في تبرير أزمات اقتصادية وانهيارات وجرائم، ثم يستعملون مرة أخرى لتلميع صور الساسة والحصول على مكاسب في المفاوضات أو الانتخابات. لسنوات لم يقترح أحد مبادرة جادة بشأن السوريين في تركيا ولبنان تحديدًا، ظلوا هكذا تستنزفهم كوابيس المنام والصحو، عالقين في زمن عالق.


ينشر بالاشتراك مع موقع خط ٣٠