تُزيغ الأصفار على يمين أسعار قطع الملابس الشتوية المعروضة على واجهات المحال التجارية في مناطق النظام أبصار الباحثين عن قطعة ثياب بأسعار مناسبة، لا تكاد تخلو قطعة واحدة من خمسة أصفار على الأقل، وهو ما يستهلك أضعاف ما يجنيه الموظفون وعمال المياومة والورشات.
ويتطلب شراء معطف واحد وسطياً بين ثلاثة إلى خمسة أضعاف راتب موظف حكومي، أما الكنزة الصوفية من النوع المتوسط فتكتفي براتب شهر كامل، والحذاء براتب شهرين كاملين على أقل تقدير.
الألبسة النسائية وألبسة الأطفال تفوق أسعارها ثمن الألبسة الرجالية، ما دفع جميع من تحدثنا معهم من زبائن وأصحاب محلات إلى القول “إنهم استغنوا عن الألبسة الشتوية الجديدة لصالح مبادلة الثياب المستعملة أو صبغ وترقيع ما يوجد لديهم واستخدامه، والعزوف عن شراء الجديد الكاسد على رفوف وواجهات المحلات التجارية”.
يقول أبو مؤيد، موظف حكومي في دمشق وأب لأربعة أطفال، إن الاستغناء عن شراء الألبسة الشتوية لم يكن خياراً، إذ يتقاضى من وظيفته نحو ثلاثمائة ألف ليرة سورية، وضعفها من عمل خاص في أحد المحلات التجارية، لكنها لا تكفِ كسوة طفل من أطفاله لموسم واحد.
“كابوس الشتاء”، عبارة تناقلتها ألسنة من تحدثنا إليهم ومنهم السيدة منال المصطفى، تعمل خياطة في ورشة بدمشق، تقول “نحتار في تقسيم رواتبنا، أتقاضى مئتي ألف ليرة في كل أسبوع، ما يعني أن تأمين كسوة من النوع الرديء أو المتوسط تحتاج أجور خمسة أشهر من عملي، إذن من سيدفع أجرة المنزل وتأمين الطعام والوقود والكهرباء إلى آخر القائمة التي تطول..”.
تضيف منال أن لديها ثلاثة أطفال من زوجها الذي توفي منذ عامين وتقول، “كان الحلّ لمقاومة البرد نظراً لعدم وجود وقود التدفئة هو اللباس، اليوم لا لباس ولا تدفئة، وأحياناً لا طعام يدخل بيتنا!”.
وتتنوع الألبسة الشتوية المنتشرة في المتاجر والأسواق، منها الصوف والمخمل والقطن والجلد، تختلف أسعارها باختلاف المواد المصنوعة منها، وبنوع كل قطعة وموقع المحل.
ويقدّر من تحدثنا معهم من بائعي الألبسة الشتوية في المحافظات السورية، ارتفاع أسعارها عن العام الماضي بنسبة 200%، إذ كان سعر المانطو النسائي الشتوي يتراوح بين 150-300 ألف ليرة سورية، الجاكيت الرجالي بين 100-200 ألف، الكنزة الصوف 50-100 ألف، البيجامات الشتوية 50 -75 ألف ليرة، والأحذية بين 100-300 ألف.
أما اليوم فيتراوح سعر المانطو النسائي الشتوي بين 600 ألف إلى مليون ليرة سورية، الجاكيت الرجالي بين 500-800 ألف ليرة، الكنزة الصوف 200-300 ألف، البيجامات الشتوي 300-400 ألف، والأحذية بين 300-700 ألف.
أمام هذه الأسعار يقف المواطن عاجزاً، تقول هبة ابنة أبو مؤيد إنها تخجل من ثيابها الممزقة عند ذهابها إلى الجامعة وفي الوقت نفسه تخجل أن تطالب والدها بشراء ثياب جديدة، خاصة مع معرفتها بعدم قدرته على تأمين الطعام والشراب لأخوتها.
أبو معروف، صاحب محل ألبسة في جرمانا بدمشق، قال إن إقبال الناس على شراء الألبسة الشتوية قد تراجع هذا العام، بسبب ارتفاع أسعارها، بالتزامن مع انخفاض القدرة الشرائية للمواطن، ليضاف اللباس إلى قائمة الكماليات الواسعة التي ضمت كل ما يحتاجه السوريون تقريباً باستثناء الخبز والمياه وما يتيسر من الطعام.
وأرجع أبو معروف في حديثه لموقع فوكس حلب، سبب غلاء أسعار الألبسة الشتوية إلى انهيار الليرة السورية الذي لم يترافق مع زيادة حقيقية في الأجور والرواتب. يقول ” وصل سعر الدولار في الشتاء الماضي إلى 6200 ليرة، بينما ارتفع سعر الصرف هذا الشتاء لأكثر من الضعف، ووصل الدولار اليوم إلى 14200 ليرة، وهذا ساهم في غلاء الألبسة، كون أغلب المواد الأولية المستخدمة في صناعتها مستوردة”.
مسؤولون في حكومة النظام تحدثوا لصفحات موالية، عن أسباب ارتفاع أسعار الألبسة الشتوية بشكل كبير هذا العام. وقال مهند دعدوش، رئيس القطاع النسيجي في حكومة النظام “، إن أسعار النسيج رُفعت مرتين متتاليتين العام الماضي، وهذا له تأثير سلبي على صناعة الملابس، ما يدفع الباعة إلى رفع أسعار الألبسة، لتعويض خساراتهم.
يضاف إلى ذلك انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة عن المعامل والمنشآت ما يدفعهم للاعتماد على الطاقة البديلة عبر المولدات، و يرفع تكاليف الإنتاج مباشرة، إضافةً إلى غلاء باقي مستلزمات الإنتاج والمازوت الصناعي والضرائب واليد العاملة وأجور النقل.
من جهته قال بسام سلطان، رئيس لجنة الألبسة في غرفة تجارة ريف دمشق، إن ارتفاع مشغولات القص والحياكة والتطريز والخياطة أدى لزيادة التكاليف وانعكس على المبيعات نتيجة تراجع الشراء.
وأفاد محمد زيزان، رئيس لجنة صناعة الألبسة في غرفة صناعة حلب، بأن سعر القماش الواصل إلى المعامل ارتفع بنسبة 30 بالمئة عن سعره الحقيقي، مؤكداً أن قرارات النظام الخاصة بترشيد الاستيراد زادت الأمر سوءاً، إضافةً إلى أن تمويل الاستيراد يتمّ عبر عدة مراحل، الأمر الذي يدفع التاجر إلى وضع نسب أرباح كبيرة جداً؛ لأنه يقوم بتجميد أمواله لفترات معينة نتيجة ذلك.
تبسط منال لنا ما يحدث من لحظة الاستيراد حتى إخراج القطعة من المشغل، تقول: “يدفع صاحب الورشة ثمن الأقمشة بالدولار أو ما يعادله، إذ يعتبر الدولار العملة السرية المتداولة لتثبيت السعر، ويدفع لقاء مولدة الكهرباء يومياً نحو مئة وخمسين ألف ليرة ثمن عشر لترات من المازوت في السوق الحر، يضاف لها أجور العاملات في المشغل والتي تتراوح بين 200 إلى 300 ألف ليرة أسبوعياً لكل عاملة، كذلك الهدر والخيط وأعطال الماكينات وتكاليف التغليف والشحن، وهو ما يضاعف سعر القطعة الواحدة، هذا إن استثنيا الأرباح والتي تضيف ضعفاً ثالثاً”.
الطرق المسدودة نحو شراء الألبسة من الأسواق والمحلات دفعت العائلات للبحث عن حلول، يصفها من تحدثنا معهم بـ “الحيل”، لتوفير ما يمنكهم من إمضاء أشهر الشتاء الباردة.
تبادل الألبسة إحدى الحيل التي راجت بين السوريين، بعد عجز معظمهم عن شراء الألبسة، وهو ما فعلته أم حسان التي استعارت ألبسة لمولودها الجديد من شقيقتها، تقول أم حسان من سكان مدينة اللاذقية: “ألبسة حديثي الولادة باهظة جداً، كونها مصنوعة من خيوط عالية الجودة، لذلك استعرت الألبسة من شقيقتي، وأعطيتها الملابس الشتوية الخاصة بابنتي بعدما صغرت عليها، ولا شك أن فكرة تبادل الألبسة جيدة للغاية وتوفّر على الأسر ملايين الليرات”.
فكرة تبادل الألبسة انتشرت بكثرة بين طلاب السكن الجامعي، يقول طالب في المدينة الجامعية بحلب فضّل عدم الكشف عن اسمه: “في كل فترة نشتري أنا وصديقي قطعة ألبسة ونتقاسم سعرها سوية، ومن ثم نتبادل ارتداءها، عوضاً من أن يدفع كل شخص ثمن قطعة لباس لوحده”.
تبادل الألبسة لم يقتصر على الأصدقاء والأقارب، بل أصبح حتى بين الغرباء، حيث يقوم أشخاص بعرض ملابسهم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، مع الإشارة إلى المطلوب عوضاً عنها من ناحية المقاس والجودة وغيرها. من الحيل البديلة الأخرى التي لجأ إليها السوريون، ظاهرة صبغ الملابس القديمة لإعادة تجديدها عوضاً من شراء الملابس الجديدة التي وصلت إلى أسعار جنونية.
يقول فهد من سكان حمص: “أعمل في ورشة للميكانيك وطبيعة عملي تتسبّب في تلف ملابسي بسرعة، لكن ليس لدي قدرة على شراء ألبسة جديدة، لذلك قمت مؤخراً بصبغ معطفي وبنطالي بعدما فقدا لونهما تماماً، وبتكلفة بلغت 30 ألف ليرة فقط، وعادت ملابسي كأنها جديدة، بينما كنت بحاجة لدفع أكثر من مليون ليرة لشراء القطعتين ذاتهما من السوق”.
كما لجأت عائلات لترقيع ملابسها الشتوية لدى الخياطين عوضاً عن رميها، أو لتدوير الألبسة بتكبيرها وتصغيرها لتناسب مقاساتهم. أم طلال ربة منزل تقيم في دمشق، قررت شراء آلة خياطة لإصلاح الألبسة عوضاً عن إرسالها إلى الخياط كل مرة ودفع أجرة إصلاحها، ومع الوقت أصبحت آلة الخياطة تؤمن لها مصدر دخل، بعدما بدأت تعمل على ترقيع وإصلاح الألبسة القديمة لمعارفها مقابل مبالغ مالية مقبولة.
ليست تلك الحيل/ الحلول جديدة على السوريين لكنها زادت خلال الآونة الأخيرة ما يوحي بكساد كبير في الألبسة الجديدة وخسارة لأصحاب المحلات وإغلاق للورش من جهة، مقابل تحوّل الحصول على قطعة ثياب جديدة حلماً للشريحة الأوسع من السكان الباحثين عن لقمة عيش.