ينتج زكور أبو أحمد، يملك حراقاً في قرية الحمزات شمالي حلب، مادة الإسفلت المحلي والتي تستخدم لعزل أسطح المنازل و تعبيد الطرقات، ويورّدها إلى أرياف حلب وعفرين ومناطق إدلب في رحلة تعترضها العديد من المصاعب والتكاليف المرتفعة، إضافة لتأثير إنتاج الإسفلت والحرّاقات البدائية على صحة العاملين داخلها وعلى السكان والتربة المحيطة بها.
تبدأ عملية إنتاج الإسفلت بجمع بقايا الفيول الناتجة عن انتهاء عملية التكرير التي تتركز في منطقة الحراقات ضمن بلدة ترحين شرقي حلب، بشكل دوري وبالتنسيق مع أصحابها، إضافة لبقايا خزانات المازوت المليئة بالشوائب والتي تترسب في قاع الخزانات، لإكمال قوام طبخة الإسفلت التي يقدّرها أبو أحمد بنحو 4400 لتراً (20 برميلاً).
بعد اكتمال قوام الطبخة ينتظر أبو أحمد الأحوال الجوية المستقرة لإشعال النار تحت الخزان الحديدي المخصص لها والذي يشترط فيه المتانة والسماكة الواضحة، بسبب ما يتعرض له عبر الشوديرات (البوشي باللفظ المحلي) من حرارة عالية لضمان ترسب الشوائب أسفل الخزان.
ينتج كل 30 طناً من الفيول بعد تكريره نحو سدس الكمية من البقايا التي يجمعها أبو أحمد، و يخضعها للغليان لإزالة الشوائب (مثل التراب والرمل) التي تترسب في أسفل الخزان، ويقدّر زكور نسبة إنتاج الإسفلت بين 30 إلى 40 %، ما يعني أن طبخة مكونة من 20 برميل يصل إنتاجها إلى 8 برميل من الإسفلت، تختلف باختلاف أنواع الفيول ونسبة الشوائب فيه وحسب مصدر البضاعة.
يباع الإسفلت الناتج من الحراقات في السوق المحلية وفق سياسة “العرض والطلب”، يقول أبو أحمد إن النسبة الأكبر من الإنتاج يذهب لتعبيد الطرقات، وغالباً ما تعتمده منظمات لا تمتلك القدرة على استيراد الإسفلت من تركيا فتشتريه من السوق المحلي بعد الإطلاع على جودته، وبدرجة أقل لعزل أسطح المنازل.
ويبلغ سعر السطل الإسفلت المستخدم في العزل (يزن 13 كغ) نحو 6 دولارات أمريكية، ويزيد الطلب عليه قبل دخول فصل الشتاء لما يوفره من عزل لمدة تتجاوز ثلاثة سنوات على الأقل، بسبب جودته ومتانته في العزل.
يفضل زبائن عبد الكريم الحسين، صاحب متجر دهانات وتمديدات صحية في مارع، مادة الإسفلت المحلية في عزل أسقف منازلهم بسبب رخص ثمنه مقارنة مع الإسفلت التركي المستورد، يقول “يبلغ سعر الإسفلت المستورد من تركيا لسطل يزن 7 كغ نحو 10 دولارات أمريكية، وهي تكلفة مرهقة للأهالي ما يدفعهم لشراء الإسفلت المحلي الأقل تكلفة”.
إضافة للإسفلت تنتج عملية حرق الفيول المكرر مازوتاً مكرراً “يباع البرميل بنحو 70 دولاراً أمريكياً في الشتاء و بـ 50 دولاراً في الصيف، و يستخدم للتدفئة فقط، ولا يصلح للآليات” بحسب أبي أحمد.
ويعتمد سكان في الشمال السوري على المازوت المكرر من عملية إنتاج الإسفلت لرخص ثمنه، يقول محمد شوكان الذي يعمل مدرساً في قرية كفرة شمالي حلب، “إن قدرتي المادية ضعيفة ولا أستطيع توفير مازوت التدفئة لعائلتي خلال فصل الشتاء بسبب ارتفاع سعر البرميل، وراتبي شهرياً لا يتجاوز 65 دولاراً ما يضطرني إلى شراء مازوت من نوعية رديئة، رغم معرفتي بأضراره”.
يوزع أبو أحمد الإسفلت على زبائنه في أرياف حلب وعفرين وإدلب، لكنه يواجه صعوبات وتكاليف إضافية لنقله. يشرح أبو أحمد عملية النقل، يقول “تفرض الحواجز في مدينة اعزاز نحو دولار أمريكي عن كل برميل، ومثلها في مدينة عفرين، أما في مدينة إدلب فتمنع حواجز هيئة تحرير الشام دخول بضاعته في البراميل، وتشترط وضعها في “سطول دهان مخصصة”، إضافة لترخيص يكلف نحو 25 دولاراً، للطن فضلاً عن وجود فاتورة بيع المنتج لإحدى شركات الدهان العاملة في إدلب، إذ تمنع الهيئة بيع الإسفلت المحلي لتعبيد الطرقات”.
يواجه إنتاج الإسفلت تحديات إضافية، مثل المخاطر الصحية والنفسية، إضافة إلى هدر معدات مثل انفجار الشوديرات، وذلك عندما تكون البضاعة مائلة للسماكة وتزيد فيها نسبة الشوائب والرمل، يقول أبو أحمد “أحياناً وبسبب ذلك تهدر البضاعة كاملةً ما يعرضنا لخسارة الطبخة”.
وتنتشر في مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي العشرات من محطات تكرير النفط البدائية تتركز معظمها في بلدة ترحين التابعة لمنطقة الباب، يكرر فيها عدد من أنواع الفيول الخام القادم من آبار نفط تقع تحت سيطرة الإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا عبر معبر الحمران الذي يفصل بين منطقتي الباب ومنبج شرقي حلب، ويستخرج منها ضمن عمليات غليان المادة الخام بالاعتماد على درجات حرارة محددة الوقود من المازوت والبنزين والكاز والغاز.
وتوفر مادة الفيول من بئر الرويس الذي يعتبر مصدراً رئيساً للمازوت المكرر المعروف برائحته الكريهة، و الذي يتعرض للتجمد عند انخفاض درجات الحرارة، ويتراوح سعر البرميل المنتج منه محلياً بين 117 و 120 دولاراً، أما المازوت المعالج منه فيباع بين 128 و 130 دولاراً، ويزيد سعره في مازوت الرميلان ليتراوح بين 132 و 135 دولار أمريكي، في حين يوجد أنواع أخرى من المازوت لكنها تتصف بجودة رديئة، حسب محمد الفؤاد تاجر محروقات في ريف حلب الشمالي.
يقول طبيب الداخلية صابر العلي إن أضرار عمليات تكرير النفط البدائية تصيب العاملين فيها بالدرجة الأولى، لاستنشاقهم الأبخرة السامة الناتجة عنها، خاصة غاز الهيدروجين الذي يتفاعل مع غاز الكلور والفلور الناتجين عملية التكرير، ما يشكل أحماض الهيدروهاليك المضرة بالرئة والأنسجة، إضافةً إلى غاز الميتان وثاني أكسيد الكربون، وقد يؤدي استنشاقهما إلى الاختناق حتى الموت.
كما ينبعث من الحراقات غاز الكبريت السام الذي يذوب في التربة وفي قطرات المياه بسبب كثافته في المناطق المنخفضة كونه أثقل من الهواء، ويتسبب بأضرار سلبية على التربة والمزروعات، فضلاً عن إثارته لأنسجة العين المكشوفة والأنف والحلق والرئة، وعند امتصاصه من قبل الجسم بكميات كبيرة قد يفسد الجهاز العصبي ويشل نظام التنفس ما يؤدي إلى ذبحة قلبية ونوبات صرع واختلاج.
و لا تقتصر الأضرار الصحية على العاملين في الحراقات، بل تتعداها إلى القرى والبلدات المجاورة، يقول الطبيب العلي “يشكو السكان من أمراض مزمنة بسبب الغازات السامة الناتجة عن عمليات التكرير والتي تزيد من إمكانية الإصابة بمرض الربو وضيق التنفس والسعال المزمن والتحسس الأنفي والجلدي وسرطان الرئة والجلد، والعين”.
يبقى إنتاج الإسفلت، رغم مخاطره الصحية، أقلّ ضرراً من حراقات التكرير البدائية لاستخداماته المختلفة عن مواد الوقود الأخرى، ولدوره في تخفيف التكاليف عن السكان الراغبين بعزل منازلهم وفي تعبيد الطرقات بأسعار أقل قسوة من الإسفلت المستورد، في الوقت الذي تحتاج فيه معظم الطرق الرئيسة والفرعية في الشمال السوري لإصلاحات تحدّ من الحوادث المرورية اليومية وتخفف من وطأة الشتاء وانتشار الغبار والطين وسبخات المياه.