أن تُُحبَسَ داخل قفص بقضبان حديدية وتُؤمَّنَ لك الرعاية الصحية والتدفئة والطعام، وتَدخلَ الحيوانات المفترسة لتستمتع برؤيتك ضعيفاً مسلوب القدرة على المقاومة، هو تبادل حقيقي للأدوار التي يلعبها زوار حدائق الحيوان في العالم، وهو تفكير تبادر إلى ذهني عند تجولي في عدد من حدائق الحيوانات في الشمال السوريّ.
عادت بي الذاكرة إلى عبارة كتبها أحد زوار حديقة حيوانات صينية جَعلَت حبس البشر داخل أقفاص ضمن محمية للحيوانات تجربة حقيقية، تقول العبارة: “هذه حديقة حيوانات بشرية حيث يمكن للحيوانات رؤية البشر الخطرين في الأقفاص”
للوهلة الأولى يُظهِر التفكير بهذه الطريقة حدائق الحيوانات دون إيجابيات، إلا أن الحقيقة ليست بهذا السوء، فصحيح أن حدائق الحيوان ليست بديلا عن توفير الحماية للأماكن الطبيعية التي تعيش فيها الحيوانات ولكنها تزيد من شعور الإنسان بأهمية القضية، فهي المكان الوحيد الذي يحدث فيه الاحتكاك بين البشر والحيوانات البرية” يقول أحد مالكي حدائق الحيوانات العالمية.
في الشمال السوري، حيث السجن البشريّ الكبير، بدأ مستثمرون ينفضون غبار الحرب التي لم تنتهِ، فبعد أن خسرت مدينة حلب منتزه وحديقة الحيوان “ماجيك وورلد” بسبب الحرب، استقبلت محمية “المأوى للطبيعة والحياة البرية” في إحدى غابات الأردن بعض الأسود والدببة الناجين من سوريا وراحت تعيد تأهيلهم نفسيا وجسديا بمساعدة من منظمة four-paws التي تُعرّف عن نفسها بأنه منظمة عالمية لرعاية الحيوانات الواقعة تحت التأثير البشري المباشر، والتي تكشف عن المعاناة وتنقذ الحيوانات المحتاجة وتحميها.
ريبال، زارا، و ريتال أسماء لأسود تعيش داخل حديقة نجمة الشمال، ليست الأسود فقط بل النسور، الضباع، الدببة، النمور، الغزلان، قرود البابون، قرد النسناس، النعام، والوشق أو القط البري. كلها أنواع لحيوانات وطيور تحتضنها حديقة نجمة الشمال في مدينة الدانا.
اتّخذ ريبال الأسد الإفريقي قفصاً حديدياً عريناً له، وفرض سلطته في هذا العرين على أخته الإفريقية زارا وعلى اللبوة الهنديّة ريتال ذات القوام الأقصر، وهذا ما يفرّق الأسود الهنديّة عن الإفريقيّة لكنها تتمتع بنفس السلوك والطباع بحسب قتيبة حاج حميدي مالك الحديقة.
حمل ريبال اسم سلفه الذي مات في هذا القفص، وما تزال ذاكرة متابعي صفحات المجمّع على منصات التواصل الاجتماعي تذكر اسمه وقصة موته متأثراً بضيق نفس حاد، وانقطاع للشهية، وتعب شديد، لدرجة أنه كان يحاول ترطيب مجرى التنفس بارتشاف الماء.
بعد عجز أطباء بيطريين عن تشخيص حالته، إحدى المنظمات الإنسانية أرشدت حاج حميدي للتواصل مع خبراء بدول أجنبية عن طريق تصوير سلوكه أثناء المرض، فشخصوا مرضه على أنه كورونا وكان عمره آنذاك سنتين ونصف السنة تقريباً.
اشترى حاج حميدي الشبل ريبال وكان يبلغ من العمر شهراً ونصف، وراح يستعرض تفاصيل مداعبته وترويضه عبر حساباته على منصتي التيك توك وفيسبوك، ولاقى موته تفاعلا من قبل المتابعين الذين قدموا التعازي لحاج حميدي لشدة تأثره.
يحنّ حاج حميدي للشبل ريبال ويذكر بنبرة صوته الحزين تفاصيل ذكريات لا تغيب عن باله منها مصاحبته له إلى السوق التجاري في مدينة الدانا، كما يذكر آخر وجبة قدمها له وهي لحم خروف طازج جلبها خصيصا له بعد انقطاع شهيته عن الطعام.
النظام الغذائي المتبع للأسود الثلاثة هو وجبة واحدة في اليوم، ويمتنع حاج حميدي عن تزويدهم بالطعام يوماً واحداً في الأسبوع لتنظيف الأمعاء وإكسابهم لياقة بدنية لأن طبيعة الأسد خَمول ينام 20 ساعةً في اليوم ويصحو أربع ساعات يصطاد بها ويأكل ثم يعود للنوم.
في القفص قد يعيش الأسد من 25 لـ 28 سنة أما في الغابة ممكن أن يعيش من 15 – 16 سنة وذلك لأن الأسد حيوان لاحم ويتعرض جرحه للتعفن وهجوم الديدان، لذلك يسعى مقدمو الرعاية في الحديقة إلى التعقيم فور تعرضه للجرح خلال مناوشاته الودية مع اللبوتين.
يتعامل القائمون على رعاية الحيوانات في الحديقة بحذر مع الأسود خاصة فترة التزاوج إذ يصبح سلوكهم عدوانيا ويصعب التعامل معهم، ويبلغ متوسط عدد أيام الحمل من 90 حتى 110 أيام، أما إذا لم يتجاوز الأسد عمر 3سنوات فيمكن التعامل معه مواجهةً داخل القفص، يشرح حاج حميدي.
بجوار الأسد يعيش الدب العربي البني باولو “7 سنوات” تصحبه الدبة سكر “3 سنوات”، يفصله عن الأسود حائط وعن زوار الحديقة سور حديدي، يحاول باولو التظاهر بالهدوء لكنه عكس ذلك فهو شديد العدوانية إذا لمس أحدهم الشبك.
باولو دب كسول بطيء الحركة، سريع الغضب يحتاج من يراقبه لبال طويل حتى لا ينفد صبره إذا أراد الاستدارة أو تحويل نظره من مكان لآخر، كما أنه أنانيّ فإذا لم يصل حد التخمة لا يسمح لأنثاه سكر بالأكل.
سكر تلعب دور الزوجة المطيعة، فهي تحفظ طباع باولو وتكتفي بمراقبته أثناء تناوله الطعام، ولاتجرؤ على الاقتراب إذا لم يغادر المكان، فأثناء تواجدنا في الحديقة كان باولو قد فرغ من أكل رأس حصان وافترش بركة الماء ذات اللون الأخضر واضعاً إحدى قدميه على جدارها ورافعا يديه وكأنه استسلم لمعدته التي لم تعد تتسع للهواء.
أما سكر فراحت تحتفل ببقايا طعام باولو، تصارع عظام الرأس علها تحصل على بعض اللحم داخله. يبدو أنها تأقلمت مع هذا الوضع وألفت المكان جيداً، فهي تظنه غابة لأنها هنا منذ كان عمرها 6 شهور، كذلك باولو على الرغم من أنه هنا منذ سنة فقط.
إلى جانب الدبين يعيش الضبع العربي ميمي، الذي لم يستطع مالك الحديقة تحديد جنسه على الرغم من استعانته بخبير إلا أنه تارة يحدده ذكراً وتارةً أنثى، تعود أصوله إلى الجزيرة العربية وسوريا والعراق ولبنان. بمجرد رؤيتنا ادّعى ميمي الهدوء، لكنه هدوء لم يطل زمنه، فراح يدور داخل القفص مطأطئاً رأسه إلى التراب مدّعياً تجاهلنا. ينتمي الضبع لفصيلة الأسود ويملك فكاً هو الأقوى بين الحيوانات المفترسة يفكك رأس الحصان تفكيكا.
يأكل ميمي الجيف وأحذية الجلد الطبيعي وبقايا الحيوانات، كذلك الدب باولو، ويشترك ميمي وباولو أيضاً بحبهما للعطر، على الرغم من أنهما لا يهتمان بنظافة جسديهما، فهما لا يأكلان حتى يمرّغا جسديهما بالدماء والطعام.
النمر ماتشلي ذات الأصول السيبيرية، عمرها سنة واحدة، بمجرد اقترابنا من قفصها المطل على قفص الأسود رفقة مالك الحديقة راحت تصدر صوتاً مخيفاً، فسّره لنا حاج حميدي على أنها تعبر عن فرحها برؤيته، أما أنا فكأنني قرأت في حركاتها عبارة ” يالهم من فريسة دسمة لولا القضبان الحديدية التي تفصلنا”.
تنتمي ماتشلي لأكبر وأقوى سلالات النمور في العالم، لها طبقة سميكة من الفراء تدخله ألوان برتقالية شاحبة وأخرى بيضاء حول العينين والأنف والخدين، وأكثر ما يميز النمر السيبيري هو الخطوط السوداء الضيقة حول الرأس والجسم، والتي توفر التمويه والتخفي في الغابات، ويحتوي فراؤها على عدد أقل من الخطوط مقارنة بأنواع النمور الأخرى. يمكن للنمر السيبيري القفز لمسافات كبيرة في الهواء لإخضاع الفريسة.
بجانب ماتشلي قفص غزال الفلوريد البالغ من العمر ثلاث سنوات ونصف السنة، وهو أليف ولا يخاف من الإنسان، يتميز بعينيه الواسعتين وسمعه الحاد وحاسة الشم القوية، ويمكن تحديد عمره من القرون التي تتبدل كل عام. يقضي زائرو الحديقة الوقت الأطول بمداعبة قرود البابون المشاغبة، كما أنها عدوانية تحب الحركة وتتخذ ردود فعل عدائية تجاه الأشخاص الذين يحاولون أذيتها بأغصان الأشجار المجاورة للقفص.
أما قرد النسناس الإفريقي ذو الحجم الصغير. فهو ذكي ومزاجي وشديد الحذر، قادر على التعلم ولا ينسى ما تعلمه، يستخدم ذيله للتحرك بين أغصان الأشجار، أما القرود فتستخدم أذرعها. وهو مثل الطفل الصغير يحب مربيه، وقد يصاب بالاكتئاب والحزن إذا لم يُبدِ مربيه الاهتمام به، كما أنه سريع الضجر ولا يحب الازدحام.
يهتم حاج حميدي مالك حديقة الحيوان في مجمّع نجمة الشمال بتفاصيل كل حيوان، والمعلومات العلمية والظروف البيئية والحالة النفسية للنزلاء في الأقفاص، ويعمل على توفير مساحة ملائمة لحجم وعمر كل نوع، ولا يغفل الغذاء، يحاول من خلال رسوم الدخول الرمزية للحديقة “10 ليرات تركية على الشخص” تعويض قسم بسيط من التكاليف اليومية والتي يقدرها ب150$ كغذاء ورعاية للحيوانات، هذه التكاليف لا تعوضها أنشطة المجمع في الشتاء بسبب الظروف المناخية غير الملائمة للتنزه.
تغيب المنظمات المهتمة بشؤون الحيوانات عن الشمال السوري، وبالرغم من توفر عدد من حدائق الحيوانات في إدلب وريفها الشمالي إلا أن أياً منها لم تشهد محاولة تدخل من منظمات عالمية لتنفيذ أنشطة سواءً توعوية أو غيرها لدعم الحيوانات، على الرغم من تضرر الحيوانات في المنطقة نفسياً بعد كارثة الزلزال، أو القصف المتكرر وتحليق الطيران الحربي كل فترة.
يقول حاج حميدي إنه خلال السنوات الأربع التي افتتح فيها الحديقة لم تتواصل معه أي منظمة لتقديم عروض أو برامج معينة للقائمين على رعاية الحيوانات أو للحيوانات نفسها، كذلك أكد لنا مالكو باقي حدائق الحيوانات في الشمال السوري، و يذكر حاج حميدي مبادرة خجولة لإحدى المنظمات الإنسانية التي نفذت نشاطا لأطفال داخل الحديقة فقدمت بعض الموز للقردة النزلاء فيها.
بعد أربع سنوات جمع فيها حاج حميدي أنواعاً جيدة من الحيوانات يطمح لمتابعة هذا النشاط لتجهيز محمية وطنية كبيرة يضمن فيها توفير سلالات نادرة لحمايتها من الانقراض وتوعية الناس لتوفير بيئة يعامَل فيها الحيوان برفق وتعاطف، ويأمل أن تلتفت المنظمات المهتمة برعاية الحيوان للتشبيك معه لتقديم استشارات وبرامج تساعده في توفير اللازم للحيوانات في بعض الظروف.
لا يبدو حاج حميدي متفائلاً ولا يعلق آمالاً كبيرة على المنظمات التي تقلص دعمها للبشر في الشمال السوري رغم الوضع الإنساني والمعيشي الذي يزداد سوءاً مع طول سنوات النزاع “فكيف ستلتفت لمن هم من غير جنسها”!