توضح مؤشرات الحدود الاقتصادية للسكان المدنيين، خلال شهر آب الماضي، ارتفاعاً في معدلات التضخم وزيادة في نسب العائلات الواقعة تحت خطي الجوع والفقر والبطالة، ترافق مع تراجع أو توقف للدعم الأممي وغياب شبه تام للإجراءات الحكومية التي اكتفت بتصدير قرارات ورقية تنظيمية.
وسجّل سعر صرف الدولار مقابل الليرة التركية المعتمدة في تداولات مناطق نفوذ حكومة الإنقاذ نحو (26.7 ليرة لكل دولار)، ليُدخل عائلات جديدة، مع ثبات الأجور اليومية المقدّرة بين 50 إلى 150 ليرة تركية، في قوائم خط الفقر والجوع التي بلغت، بحسب منسقو استجابة سوريا بالترتيب 90.93 و 40.67%.
يتقاضى أسامة المحمد، عامل في ورشة خياطة وأب لثلاثة أطفال، 1900 ليرة تركية شهرياً، يقول إنه يوزعها على إيجار المنزل وثمن المياه والكهرباء والتنقل، ما يزيد عنها وهو مبلغ قليل لا يتجاوز ألف ليرة تركية (نحو 37 دولاراً) يحاول المحمد من خلاله تأمين غذاء لأطفاله.
يوضح المحمد أن ما يتقاضاه من أجر على عمله زاد بنحو 400 ليرة تركية في العام الحالي، لكنه في الحقيقة تراجع للنصف من حيث القدرة الشرائية. يشرح المحمد “كنت أتقاضى 1500 ليرة تركية نحو 120 دولاراً في السابق، ومع تراجع سعر الصرف أصبح 71 دولاراً، ترافق ذلك مع ارتفاع حادّ في أسعار مختلف المواد”.
يضرب المحمد أمثلة عديدة، ومنها الخضار الموسمية التي تضاعفت أسعارها في العام الحالي، مثل الخيار والبندورة والبطاطا وغيرها، إذ تحتاج العائلة لصناعة وجبة من “المقالي” أكثر من 100 ليرة تركية (نحو 4 دولارات)، في العام الماضي كانت تكلفتها لا تزيد عن دولارين.
وفي جولة أجراها فوكس حلب على أسواق مدينة سرمدا بريف إدلب لتتبع أسعار المواد الأساسية، وصل سعر لتر من الزيت النباتي إلى 35 ليرة تركية، زيت الزيتون بـ 140 ليرة تركية، الأرز المصري 30 ليرة تركية، الأرز الطويل الفرنسي بـ 55 ليرة تركية، كيلو غرام السكر بـ 27 ليرة تركية، البرغل بـ 18 ليرة تركية، كيلو غرام شاي ليالينا بـ 245 ليرة تركية، لتر سمنة بـ 56 ليرة تركية، طبق البيض بـ 62 ليرة تركية، سطل لبن بوزن 800 غراماً بـ 18 ليرة للبقر و 30 للغنم..
يقدّر منسقو الاستجابة الزيادة الحاصلة في أسعار المواد خلال الأشهر الأخيرة بين 25 إلى 60%، وسط عجز واضح في القدرة الشرائية مع ارتفاع نسبة التضخم خلال العام الحالي إلى 74.18%.
ويعتمد معظم من تحدّثنا معهم في غذائهم اليومي على المنتجات الموسمية والخبز، إذ يبلغ ثمن ربطة الخبز (800 غراماً) عشر ليرات تركية، وتحتاج عائلة مؤلفة من خمسة أشخاص وسطياً لنحو ثلاث ربطات يومياً ما يقضم أكثر من نصف أجر العمال، سواء أولئك العاملون في المياومة أو في ورش ومعامل مختلفة.
تقول أم مصطفى، نازحة تسكن في مخيم بالقرب من دير حسان، إن الخبز ودبس البندورة هو الغذاء الأوسع انتشاراً اليوم، ومع درجات الحرارة المرتفعة تسبب هذا الغذاء بأمراض وتلبكات معوية، ناهيك عن ضعف في بنية الأطفال وشكواهم من سوء التغذية.
وتضيف أن زوجها يتقاضى 600 ليرة تركية أسبوعياً، يدفع منها 200 ليرة ثمناً للخبز، ومثلها للتنقل والوصول إلى عمله، أما ما يتبقى فلا يكفي لشراء البرغل والزيت والغاز.
“هذا إن لم يحدث مصيبة”، تشرح أم مصطفى معنى المصيبة بقدوم موسم المدارس أو مرض أحد الأطفال أو شراء الثياب، خاصة مع توقف الدعم عن المدارس والعديد من المستشفيات والنقاط الطبية. وتضيف أم مصطفى أن الوصول إلى أي نقطة طبية يحتاج لنحو 200 ليرة تركية كأجر للمواصلات وشراء ما لا يتوفر من أدوية، أما في حال الدخول إلى المستشفى و إجراء التحاليل أو الصور الشعاعية فيزيد المبلغ عن آلاف الليرات التركية.
ويقدّر المحمد، تكلفة لوازم المدرسة من قرطاسية وملابس للطفل الواحد بنحو 500 ليرة تركية في كل فصل، تقول أم مصطفى إن “سلّم الأولويات يتغير في كل يوم، نتحايل على حياتنا، المدرسة تعني عدم الطعام، والخبز يعني الاستغناء عن الفاكهة، والخضار تلزم الاستغناء عن اللحم، والمرض يفرض الاستغناء عن كل ذلك، تلك معادلة نعيشها يومياً ويصعب حلّها”.
توقف دخول المساعدات عبر الحدود منذ 11 تموز، زاد من حدّة المشكلات الاقتصادية التي يعيشها السكان، إذ رصد منسقو الاستجابة توقفاً كاملاً لبرنامج الأمن الغذائي للنازحين ما اضطر آلاف العائلات إلى تخفيض عدد الوجبات اليومية إلى وجبة واحدة فقط، ترافق ذلك مع انقطاع مادة الخبز عن المخيمات وهو ما دفع العائلات إلى حذف وجبات غذائية لتأمين كفاية الخبز اليومية.
ما يقدّم في السلّة الغذائية تناقص تدريجياً ليصل اليوم إلى نحو 25 كيلو غراماً تقدم كل شهرين بعد أن خفّضت مرتين خلال العامين الماضيين.
وكان وزن ما يعرف بحصة الأمم المتحدة (wfp) قبل عامين نحو 75 كيلو غراماً تحوي (15 كغ طحين في المناطق و15 ربطة خبز وزن كيلو غرام في المخيمات، 5 كغ سكر، 15 كغ أرز، 6 كغ عدس مجدرة، 10 كغ برغل، 8 لتر زيت نباتي، 6 كغ حمص، 1 كغ ملح، إضافة لمواد متنوعة بوزن 9 كيلو غرامات من الفاصولياء أو دبس البندورة أو المربيات والمعلبات).
بداية العام 2022 خفضت حصة الأمم المتحدة التي توزع شهرياً مادتي الأرز والبرغل إلى النصف لتصبحان بالترتيب 7.5 و 5 كيلو غرامات، والعدس والحمص إلى 5 كيلو غرامات، وزيت النباتي 6 لتر، وأبقت على الطحين أو الخبز و السكر والملح بالكميات ذاتها، وغابت المواد التكميلية الأخرى.
بداية العام الحالي خفضت حصة الأمم المتحدة إلى 4 كيلو غرامات من الأرز ومثلها من السكر، 3 كيلو غرامات من العدس ومثلها من الحمص، 4 لتر من الزيت النباتي، 1 كغ من الملح، إضافة للطحين أو الخبز الذي بقيت كمياته على حالها، توزع كل شهرين مع زيادة 4 كيلو غرام من الأرز لم تطبق حتى الآن، منذ توقف دخول المساعدات الأخير عبر المعابر الحدودية.
تخفيض وتوقف المساعدات الإنسانية أضعف القدرة الشرائية للسكان ورفع أسعار المواد في المنطقة بنسبة قدّرها أبو محمد ناصيف، يملك محلّاً لبيع التجزئة في كفرلوسين، بـ 40%. يقول ناصيف “توقف الدعم وارتفاع سعر الصرف، خاصة أن معظم المواد الغذائية تستورد من تركيا، رفع أسعار المواد بما لا يتناسب مع دخل المواطن”.
ويضيف “معظم زبائني اليوم يشترون احتياجاتهم بأقل الوحدات الوزنية، بات من النادر شراء المواد بالكيلو غرام أو العلبة، وأغلب البيع يكون على الشاي والسكر والزعتر والزيت النباتي وبمبالغ لا تتجاوز عشر ليرات ما يجعلني في حيرة استخدام الوزن المناسب”.
وعن تأثير توقف الدعم يقول ناصيف “في السابق كانت المواد الأساسية متوفرة ما يمكن المواطن من تحويل قدرته الشرائية إلى أشياء أخرى أو استبدال مواد بأخرى من المحلات، أو بيع الفائض لشراء مواد تموينية وغذائية مثل السمن والخضار وغيرها”.
لم يقتصر الأثر على المواد الغذائية، يقول عماد العلي بائع ملابس على سيارته في بازارات المنطقة، إن “تأمين الغذاء هو الأولى، أما اللباس فتراجع إلى الحدود الدنيا، معظم السكان غابوا عن الأسواق ولم يعد لديهم القدرة على شراء ملابس جديدة فاكتفوا بما لديهم أو بمحلات البالة في حال اضطروا للشراء”.
كذلك ارتفعت أسعار المحروقات نتيجة ارتفاع سعر الصرف، إذ وصل سعر المازوت إلى 1.078 دولاراً والبنزين إلى 1.279 دولاراً واسطوانة الغاز إلى 12.871 دولاراً
أسباب أخرى لارتفاع الأسعار تحدث عنها من التقيناهم، تتعلق باحتكار مواد تموينية من قبل التجار ورفع الأسعار، وهو ما أكدته حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد، على لسان حمدو الجاسم مدير العلاقات العامة في الوزارة والذي قال إن “الرقابة التموينية أجرت، خلال الربع الثاني من العام الجاري، 697 جولة على الأسواق والمحال التجارية على اختلاف أنواعها، ونظمت 1641 ضبطاً تموينياً بحق أصحاب المحال المخالفة، منها 225 ضبطاً بخصوص مواد منتهية الصلاحية، و143 ضبطاً لعدم التقيد بقواعد الصحة، و 185 ضبطاً بسبب الغش، إضافة لسحب 94 عينة”، وتهدف هذه الجولات ” إلى حماية المستهلك من الغش والغبن وتضمن حصوله على السلعة بأفضل جودة وسعر”.
وأضاف الجاسم إن التأثر طال المواد المستوردة تركياً ، أما المستوردة (ترانزيت) فلم تتأثر، ووصف الرسوم الموضوعة على هذه المواد بـ “القليلة جدّاً”، فهي تغطي فقط ” أجور سحب العينات والتحليل والرقابة على المواد المستوردة”.
وعن الدور والخطط التي تقوم بها الحكومة لمواجهة ارتفاع الأسعار ومساعدة المواطنين قال الجاسم “توجه الحكومة الدعم لمستحقيه عبر مديرية الرعاية الاجتماعية في وزارة التنمية، كما أطلقت وزارة الاقتصاد منذ وقت قريب مشروع باسم خبز القمح الكامل لمراقبة ودعم الخبز، من خلال دعم زراعة القمح وشرائه وتقديمه للمطاحن لطحنه وتوزيعه على الأفران، وتحديد سعر ثابت لربطة الخبز وتوزيع المحروقات على الأفران بسعر مدعوم، وإنشاء أو إعادة تأهيل أفران المنطقة بالصيانة اللازمة ومتابعة عملها عبر لجنة الجودة في المؤسسة.كذلك قدّمت مشروع القرض الحسن لتشجيع المزارعين على الاستمرار واستثمار الأراضي الزراعية في المنطقة”.
وتعمل حكومة الانقاذ على تعديل الميزان التجاري من خلال تقليل نسب الاستيراد عبر تشجيع الزراعة ودعمها، وجذب الاستثمارات الخارجية لتأمين إنتاج محلي، بحسب الجاسم.
وتسعى وزارة الاقتصاد، على حدّ قول الجاسم، إلى إحداث وترخيص معامل استراتيجية للتقليل من حجم الاستيراد وتحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي، عبر إجراء عدة دراسات وتقديمها لمستثمرين ومنح الشهادات والعلامات التجارية لضبط المنافسة غير المشروعة وتنظيم عمليتي الاستيراد والتصدير وعمل الأسواق الداخلية والعمل على استكمال بناء المؤسسات لتخفيف الإجراءات الروتينية والبيروقراطية، وتسهيل استيراد المواد الخام وتقدم البنى التحتية الملائمة لمشروع المدينة الصناعية”.
تبقى هذه الإجراءات شكلية إن لم يتوفر الدعم اللازم من قبل الحكومة للسكان وتحديد الأجور بما يتوافق مع ارتفاع الأسعار، إذ تحتاج الأسر وسطياً إلى نحو مئتين وخمسين دولاراً في الحد الأدنى لتأمين الاحتياجات الأساسيات، وتقديم الخدمة التعليمية والصحية بشكل مجاني، كذلك يحتاج السكان إلى إعادة الدعم الدولي بما يضمن توفّر المواد الغذائية الأساسية والمياه.