يُجبر الراتب القليل الذي يتقاضاه المعلمون والمعلمات في المدارس التابعة للحكومة المؤقتة شمالي حلب على الاستقالة بحثاً عن فرص عمل وظيفية أفضل، أو العمل في مهن مختلفة إلى جانب التعليم لتأمين احتياجات عائلاتهم الأساسية، ما يترك أثره على القطاع التربوي (لسد النقص وملء الشواغر)، كذلك على الطلبة الذين يشتكون من نقص المعلمين باختصاصات معينة، وتراجع مستوى التحصيل العلمي.
وكانت مديريات التربية قد شهدت، خلال العطلة الصيفية الماضية، استقالة عشرات المعلمين والمعلمات من القطاع التعليمي، واحتجاج وتذمر المعلمين الآخرين من الظروف الاقتصادية التي يعيشونها دون اتخاذ إجراءات لتحسينها، خاصة مع تراجع قيمة الليرة التركية، العملة التي يتقاضى معظم المعلمين رواتبهم بها.
يقول أحمد حمزة، مدرس قدم استقالته نهاية العام الدراسي الحالي من مديرية تربية مارع شمالي حلب، إن “العمل في قطاع التعليم مرهق ومجهد جداً ولا يمكن للدخل الذي يحصل عليه المعلم توفير احتياجات عائلتي المكونة من سبعة أفراد، ما دفعني إلى تقديم استقالتي فور حصولي على فرصة عمل أخرى، ومعظم الكوادر التعليمية العاملة في المنطقة تبحث مثلي عن فرصة للاستقالة كون الراتب الشهري لا يتجاوز 1925 ليرة تركية (ما يعادل 71 دولاراً أمريكياً) وهذا المبلغ لا يمكنه سد رمق الأسرة لأسبوع واحد”.
وأضاف “لا يختلف راتب المعلم في المدارس الخاصة بشكل كبير عنه في المدارس العامة، إذ يتقاضى نحو 100 دولار أمريكي، وهناك مدارس خاصة تستغل حاجة المعلم وتدفع له شهرياً نحو 1200 ليرة تركية (44 دولاراً)، ما يضطر المعلمين إلى مزاولة مهن أخرى”.
ويلجأ معلمون ومعلمات، ممن لم يحالفهم الحظ في الحصول على فرصة عمل عوضاً عن التعليم، إلى مزاولة مهن أخرى في البناء والعتالة والمحلات التجارية والشركات الخاصة والورش الفنية وغيرها، بهدف تأمين المعيشة فمن الطبيعي أن تجد معلماً يعمل عتالاً أو بناءً خارج أوقات الدوام، ولاحقاً يعود إلى ممارسة عمله التعليمي.
يقول محمد المارعي مدرس في قرية الخالدية: “أعمل (معمرجي) مهنة بناء المنازل خارج أوقات الدوام المدرسي بهدف تغطية احتياجات عائلتي، لأن الراتب لا يكفي لتأمين احتياجات أسرتي المعيشية ولابد من البحث عن مصدر دخل آخر”. وأضاف: “أن استمراره في العمل التعليمي باعتباره وظيفة دائمة على مدار العام، أما العمل في البناء ومهن أخرى فهو غير مستقر، ويتعلق بتوفر الفرصة، علماً أن ما يجنيه من عمله كمعمرجي أضعاف ما يحصل عليه في التدريس”.
وتوضح دراسة أجرتها وحدة تنسيق الدعم أن 98٪ من المعلمين الذين شملتهم الدراسة أفادوا بأن الرواتب لا تتناسب مع متطلبات الحياة اليومية، وهو ما يخالف الشروط التي وضعتها الشبكة المشتركة لوكالات التعليم في حالات الطوارئ، والتي تحدثت عن ضرورة التعويض الملائم لتمكين المعلمين من التركيز على عملهم المهني دون السعي إلى موارد إضافية لتلبية حاجاتهم الأساسية.
ويكرر المعلمون احتجاجاتهم مطلع كل عام دراسي بهدف زيادة معاشاتهم، إذ شهدت قرية تليل الشام (تجمع مخيمات للنازحين السوريين يقع على الحدود السورية التركية بالقرب من منطقة اعزاز) احتجاجات لعشرات المعلمين والمعلمات، بهدف تحسين الأجور الشهرية التي يحصلون عليها ومنح القطاع التعليمي مزيداً من الاهتمام.
وتحصل الكوادر التعليمية نهاية كل شهر على 1925 ليرة تركية (ما يعادل 71 دولاراً أمريكياً) بعد الزيادة الأخيرة مطلع فبراير/شباط 2023، حيث كان راتب المعلم قبل تلك الفترة 1100 ليرة تركية (ما يعادل 59 دولاراً أمريكياً)، بينما كان راتب المعلم خلال العام الذي قبله نحو 750 ليرة تركية (ما يعادل 80 دولاراً أمريكياً بحسب سعر الصرف آنذاك).
وحصل المعلمون على أول راتب من التربية التركية بقيمة 500 ليرة تركية (ما يعادل 150 دولاراً أمريكياً، نهاية أبريل/نيسان من العام 2017) لكن تدهور الليرة التركية تسبب في انخفاض قيمة الأجور أمام الدولار الأمريكي، ويطالب المعلمون بتقييم الراتب الأول الذي كانوا يحصلون عليه وصرفه بالليرة التركية عوضاً عن تقييمه الدائم بالليرة مما انعكس سلباً على واقعهم المعيشي.
وكان منسقو استجابة سوريا قد حددوا في حزيران الماضي حد الفقر المدقع بـ 3957 ليرة تركية (145 دولاراً) ما يعني أن ما يتقاضاه المعلم يحتاج لمضاعفته للنجاة من خط الفقر المدقع إلى حد الفقر الذي حددته بـ 5486 ليرة تركية (201 دولار).
وعوضاً عن تحسين رواتب المعلمين والمعلمات، أعلنت مديريات التربية التابعة للمجالس المحلية في أرياف حلب الشمالية والشرقية في 10 آب الجاري عن إجراء مسابقة لاستقبال طلبات توظيف المعلمين والمعلمات مع اقتراب العام الدراسي 2023 – 2024، ومن المفترض أن تجري المسابقات خلال الأيام القادمة متضمنةً امتحانات كتابية ومقابلات شفوية.
وتشهد المدارس والمراكز التعليمية العامة نقصاً بالكوادر التدريسية من مختلف الاختصاصات، خاصة “معلم صف ورياض أطفال وتربية خاصة وإرشاد نفسي وفيزياء وعلوم وفلسفة واجتماعيات وشريعة ولغة عربية ولغة إنجليزية ولغة تركية”.
يقول صهيب بكور، مدير مدرسة ابتدائية في ريف حلب، إن المدارس والمراكز التعليمية تشهد نقصاً حاداً في الكوادر التدريسية نتيجة مغادرة بعض المعلمين لمهنة التعليم في ظل انخفاض الأجور الشهرية التي يحصلون عليها كونها لا توفر معيشة كريمة للمعلم. وأوضح، أن “المعلمين يضطرون إلى مزاولة مهن أخرى، سيما المهن الحرة المتعبة مما انعكس سلباً على الواقع التعليمي، بعدما يصل المعلم إلى صفه مجهداً ومتعباً لا يمكنه تأدية دوره التعليمي على أكمل وجه”.
وتستهدف الشواغر خريجي الجامعات والمعاهد المتوسطة وطلاب السنة الرابعة والثالثة والثانية، وفقاً للاختصاصات المطلوبة فيما يمكن للخريجين والطلاب من الاختصاصات الأخرى مثل الهندسة والمعلوماتية والحقوق وغيرها التقدم للمسابقة، كما حددت مديريات التربية شروطاً لقبول طلبات توظيف المعلمين، لاسيما توافر شهادات جامعية للخريجين ضمن الاختصاصات المطلوبة، أو وجود إشعار دراسة لغير الخريجين، إضافة إلى ألا يتجاوز عمر المتقدم عن 50 عاماً.
وقال محمد الحسن، مدير تربية أخترين: “إن طريقة استقبال طلبات التوظيف تتم عبر آلية موحدة في جميع المديريات، حيث تبدأ من خريجي الجامعات والمعاهد المتوسطة، وفي حال لم تغط أعدادهم الشواغر المطلوبة نستقبل الطلبات الخاصة بطلاب وطالبات السنة الرابعة والثالثة والثانية من الاختصاصات المطلوبة”.
وأضاف: “أنه في حال عدم تغطية أعداد المتقدمين للشواغر التدريسية الموجودة في المنطقة نلجأ إلى الاختصاصات غير التعليمية مثل الطب والهندسة والحقوق سواءً من الطلبة أو الخريجين، وفي حال عدم توافرهم فإننا نضطر إلى استقبال حملة الشهادة الثانوية العامة للعمل في القطاع التعليمي”.
وأوضح الحسن، أن في منطقة أخترين وحدها يزداد عدد الطلاب إلى أكثر من ألف طالب في كل عام دراسي، وتحتاج إلى توظيف أكثر من 100 معلم ومعلمة، بينما في مناطق أخرى مثل اعزاز والباب يكون العدد مضاعفاً وفقاً لعدد السكان وهذا ما يبرر نقص الكوادر التعليمية في المنطقة.
وحول استقالات المعلمين، أكد الحسن أن نسبة الاستقالات قليلة مقارنة مع أعداد المعلمين الذين يمكن توظيفهم لأنه في حال غادر واحد يمكن استقطاب عشرة معلمين آخرين في المنطقة.
ويواجه القطاع التعليمي محنة مركبة بسبب استنزاف هذا القطاع على كافة الأصعدة، لاسيما مغادرة المعلمين لمدارسهم واستقطاب اختصاصات غير تعليمية وطلبة للتدريس في المدارس عوضاً عن المعلمين الأصلاء الذين باتوا يواجهون فقراً مدقعاً.
تضاف مشكلة المدرسين إلى ما يعانيه القطاع التعليمي من مشكلات في اكتظاظ الطلاب وندرة الوسائل التعليمية وضعف التحصيل العلمي وقلة اللوجستيات وضعف الخدمة في المرافق المدرسية والمصير المجهول للطلاب، ما يستدعي استجابة طارئة لتحسين الواقع التعليمي ودعمه خشية من التسرب الدراسي الذي يزيد عاماً بعد عام.