صبغت شوارع وأسطح منازل حلب الشرقية باللون الأحمر، خلال الأسابيع الأربعة الماضية، صوانٍ وأوان من مختلف الأشكال والأحجام، قوالب خشبية، مشمعات فرشت على الأسطح وأرصفة الطرقات، جميعها مُلئت بعصير البندورة من قبل سيدات يعتمدن في كل عام على موسمه إنتاج “مية الإفرنجي”، كما يطلق عليها في حلب، لكسب رزقهن وتأمين مؤن عائلاتهن.
رخص ثمن البندورة، إذ بيعت في العام الحالي بنحو 850 ليرة سورية (نحو 6 سنتات بسعر الصرف الحالي للدولار)، دفع نساء كثر للعمل في تصنيع “مية الإفرنجي”، يضاف إلى ذلك قلة أو انعدام فرص العمل وارتفاع تكاليف المعيشة، ما اضطر سيدات لصناعة المؤن، تقول أم محمد (منا منأمن مونتنا ومنا منكسب شوية مصاري، جاييتنا المدرسة والشتا والغلا ما بيرحم”.
وتتحول بيوت الحلبيين في شهري تموز وآب إلى خلية نحل، إذ تتعاون السيدات وعائلاتهن وجيرانهن على صناعة المؤن، سواء للبيع أو الاحتفاظ بها لأشهر الشتاء، إذ تفضل معظمهن المونة المنزلية عن تلك التي تباع في الأسواق، والتي لا تشبه على حدّ قول أم محمد “الصناعة المنزلية”، خاصة في “مية الإفرنجي الحلبية ذات الطعم اللاذع من الحموضة، والشكل الجاف الذي يختلف عن السائل الذي يباع جاهزاً في المحلات”.
أم حسن، إحدى السيدات اللواتي يشتهرن بصناعة “مية الإفرنجي” في حلب، ويطرق بابها في كل عام عشرات العوائل لشراء منتجها. تسكن الخمسينية أم حسن في حي الجزماتي بحلب رفقة أسرتها المكونة من أربعة أشخاص، إضافة لزوجها المتقاعد، وتعيش على راتب زوجها التقاعدي إضافة لسلل شحيحة من المعونات الغذائية.
تقول أم حسن إن موسم “مية الإفرنجي” كان يساعدها في تأمين كفاف عائلتها، إذ أن ” مية الإفرنجي المدهون على الخبز كانت قوتهم الوحيد لأيام كثيرة”. تبتسم السيدة وهي تخبرنا أن “مية الإفرنجي تحوّلت إلى علاج للعين هذا العام”، تشرح بأنها استطاعت من خلال ربحها الذي وصفته بـ “الجيد” في العام الحالي تأمين نقود العملية الجراحية لعينها المصابة بالساد (الماء الأبيض).
تأمين المال لشراء البندورة قبل بيعها كان العائق الأكبر الذي احتالت عليه أم حسن باستدانة مليوني ليرة سورية (نحو 150 دولاراً) لشراء طنين وخمسين كيلو غراماً من البندورة أنتجت نحو 300 كيلو غراماً من “مية الإفرنجي”.
يباع كيلو “مية الإفرنجي” بنحو 25 ألف ليرة سورية (1.7 دولار)، وتحتاج صناعته لنحو 7 كيلوغرامات من البندورة، يصل ثمنها إلى نحو 6 آلاف ليرة، إضافة لأجور النقل والعصر والغسيل ورمي التالف بعد الفرز والذي قدرته أم حسن بأربعة آلاف أخرى، ما يعني أن تكلفة الكيلو غرام الواحد نحو 10 آلاف ليرة (0.7دولار).
تقول أم علي، سيدة من حي صلاح الدين بحلب، إنها المرة الأولى التي تعمل فيها بصناعة “مية الإفرنجي” وبيعها، سابقاً كانت تصنع مؤونة بيتها فقط، لكنها وجدت في رخص البندورة وأرباحها فرصة لعمل قالت إنه لا يستهلك منها أكثر من أسبوعين فقط. تخبرنا أم علي أنها ربحت مليونين ومئتي ألف ليرة في الموسم الحالي، وهو ما يعادل راتب موظف حكومي لسنة كاملة أو يزيد عن ذلك، وأكدت أن الربح تجاوز ضعفي التكلفة.
ويفضل سكان مدينة حلب شراء المؤن البيتية، خاصة “مية الإفرنجي”، إذ تمتلئ الأسواق بها في مواسمها، وذلك لطريقة صنعها المختلفة والتي شرحتها أم علي بقولها “تُغسل البندورة بشكل جيد ثم يتم تفقيشها ( تقطيعها إلى ثلاث أو أربع قطع) وتنشر ضمن أوعية كبيرة تحت أشعة الشمس (مشان تدبل)، ويمكن رش ملح الطعام عليها لتسريع عملية تصفيتها وتترك لعدة ساعات تعصر وتهرس يدوياً أو في عصارات آلية، ثم تصفى مرة أخرى بمصفاة أدق ليتم التخلص من البذور وتنشر تحت أشعة الشمس في أوان مسطحة.
وبعد أن تجف جزئياً يتم تحريكها وتقليبها ضمن الوعاء لفترة ثلاثة أو أربعة أيام حتى يصبح قوامها عجينياً، في المرحلة الأخيرة يضاف إليها الملح ليمتص السوائل المتبقية، وتترك يوما آخر تحت أشعة الشمس وتنقل بعدئذ إلى علب بلاستيكية مفرغة من الهواء (مرطبانات) أو زجاجية (قطرميز ) وتحفظ في مكان بارد وجاف بعد أن يرش على وجها الملح أو زيت الزيتون”. وتضيف أم علي “لم يبق طنجرة في حلب إلا واستفدت منها، أنا ومن مثلي من السيدات العاملات في صناعة مية الإفرنجي”.
تفرق أم حسن بين “مية الإفرنجي البيتوتية والسوقية”، تقول ” البندورة التي تشترى وتُعصر في المعاصر لا تُفرز ولا تغسل ولا تفرم ( تشرّح) بشكل جيد وهذا يُفقد دبس البندورة جودته، إضافة إلى أن المتابعة المتواصلة لماء البندورة أثناء تعريضه لأشعة الشمس له دور كبير بنظافتها وخلوها من الغبار والشعر والحشرات”.
وتضيف في السوق أنواع مختلفة من “مية الإفرنجي” المعلبة والمستوردة، وصفتها بـ “المحلونة”، فهي لا تصلح للدهن أو الطبخ على حدّ قولها، إضافة لاستهلاك كميات كبيرة منها في كل طبخة، وهو ما يفسّر فارق السعر الكبير بينهما، إذ يتراوح سعر الكيلو غرام منها بين 8 إلى 12 ألف ليرة سورية.
بعيداً عن ربّات المنازل، يؤمن موسم “مية الإفرنجي” فرصة عمل لمالكي الشاحنات و “الطرطيرات. ما يشبه الشاحنة بثلاثة دواليب”، إضافة لتشغيل المعاصر الآلية، يقول أبو عبدو أحد مالكي “الطرطيرات” في حلب “منذ أكثر من شهر لم أستلم أي عمل لصناعة الحديد، مهنتي، بسبب غلاء الحديد والمواد المستخدمة في صناعته، لذلك قمت بالعمل على الطرطيرة لأكسب قوت يومي من خلال نقل البندورة المعصورة من أماكن عصرها إلى البيوت، حيث أتقاضى مبلغاً لايقل عن عشرة آلاف ليرة عن أي توصيلة وأضيف إليها أجور تحميل في حال اضطررت إلى نقلها إلى أسطح المنازل”.
تحتاج عائلة مكونة من خمسة أشخاص، بحسب من تحدثنا معهم، إلى نحو أربعين كيلو غراماً من “مية الإفرنجي” على الأقل، خاصة بالاعتماد المتزايد عليها، وهو ما يعني دفع مبلغ مليون ليرة سورية ثمناً لها.
تقول أم مصطفى، أم لخمسة أطفال من مساكن هنانو “البندورة السنة الرخيصة والتكلفة ما بتتجاوز ربع الي عبيبعوها فيها” واصفة الأسعار بغير المنصفة، خاصة وأن سكان الأبنية لا يملكون أسطحة لنشر “مية الإفرنجي”، وهو ما يحول دون قدرتهم على صناعتها بيتياً.
تخبرنا أم مصطفى أنها لا تمتلك ما تشتري به مؤونة هذا العام، وإنها تشتري العبوات الجاهزة تنشفها على الشمس وتضع لها بعض الملح قبل أن تطبخ بها، تقول “صحيح مو متل بعض بس أرخص، أحياناً سعر الكيلو ما بيتجاوز 5 آلاف من المعلبات، يعني أقل بخمس أضعاف”.
تدافع صانعات “مية الإفرنجي” عن عملهن، تقلن إن كل شيء في حلب بات بعيد المنال، ما يحصلن عليه لا يكفي مصروف شهر واحد، وهو ما يدفعهن للعمل بمختلف أنواع المؤن “ملوخية، فليفلة حمرا، بامية..”، وغيرها من المؤن الأخرى.
تبقى “مية الإفرنجي” باسمها ومذاقها نكهة حلبية يسعى السكان للحصول عليها، وهي علامة فارقة عن مدن أخرى تصنعها أقل حموضة وملوحة، أو تغليها على النار قبل تنشيفها، في حين تعتمد نساء حلب على شمس تموز وبندورة السفيرة في تسويق منتجهن.