“أن تنام ثم تصحو فتجد مصدر رزقك تلاشى” أمر يصعب استيعابه يقول “حمد راسخ يوسف” من مدينة أرمناز غربي إدلب واصفاً حاله بعد أن حطّم زلزال 6 شباط ورشة صيانة السيارات التي يملكها ويديرها منذ 14عاماً.
من مالك إلى مستأجر ومن سَعة في المكان إلى ضيق، ومن خارج المدينة على الطريق الرئيسي، إلى داخلها انتقل محل حمد بعد أن تهاوى سقفه على معداته التي وضع فيه شقاء عمره، يقول حمد.
ضجيج معدات الصيانة، وصخب الشارع وضيق محله الذي بالكاد يتسع للسيارة التي يقوم بصيانتها، أكثر ما يشكل مصدر قلق لحمد، فمحله الجديد محاط بالأبنية السكنية، لذلك يحاول جاهداً مراعاة الجيران.
“طبيعة المهنة تتطلب موقعاً بعيداً عن الناس” لذلك فهو غير مرتاح في محله الجديد، ويعتبر نفسه مقيداً بموعد متأخر لبدء عمله صباحاً، كما أنه يضطر لإغلاقه باكراً احتراماً لمشاعر الجيران، على عكس حاله عندما كان محله بعيداً عن الأبنية السكنية.
نال حمد ثقة سائقي السيارات العاملة على البنزين في المنطقة، كذلك عابري الطريق الذين لا بد لهم من رؤية ورشته أثناء ذهابهم من وإلى مدينة كفرتخاريم، كبائعي الخضار وغيرهم من الباعة الجوالين، أما بعد انتقاله فقد خسر كثيراً من زبائنه القدامى ممن لا يعرفون موقعه الجديد أو رقم جواله.
مَن يشاهد ابتسامة حمد التي لا تفارق وجهه يظنّ أنه تجاوز صدمة الزلزال، لكن الحقيقة عكس ذلك، ويؤكد ذلك بقوله “نفسياً ماني مرتاح” عندما يعدد لنا خسائره التي لم يَنجُ منها شيء “حتى الدفتر الذي أدون فيه تفاصيل عملي دُفن تحت الركام”.
بدأ حمد مصلحة الميكانيكي بطلب من والده الذي كان يملك سيارة فولكس فاچن”Volkswagen” لتوزيع الأدوات المنزلية في لبنان وأراد منه تعلم صيانة السيارات ليهتم بها ويقوم بصيانة أعطالها، فاصطحبه إلى محل يعرفه ليبدأ تعلمها ويعمل كصانع في الورشة.
بروح الفكاهة التي يتحلى بها روى لنا موقفاً طريفاً واجهه أول يوم له في العمل، حين توقف سائق جرار زراعيّ أمام المحل وطلب تبديل البواجي، فاندفع بحماس وتناول بعض الأدوات وراح يدور حول الجرار باحثاً عنها، وسرعان ما علم أنه تعرض لمزحة عند سماعه صوت صاحب الجرار يناديه ضاحكاً، ” تعال، الجرار ليس له بواجي”.
أمضى فترة في الورشة ثم التحق بخدمة العلم وبعد تسريحه توجه للبنان للعمل كصانع أيضاً، كان في مرحلة الخطوبة ولا يملك رأس مال لفتح محل، تزوج بعد سنوات وافتتح مشروعه الخاص بعد بيع المصوغات الذهبية لزوجته لشراء العدة.
يحب حمد المهنة ويشعر أنه لا يستطيع أن يعمل بغيرها ويعتبرها سهلة لأنه يتقن تشخيص وصيانة كل أعطال الميكانيك أهمها تنزيل محرك، تبديل كوليات، صحن دبرياج، مشط، قشاط الصدر، وغيرها من القطع التي تحتاج لصيانة مع الزمن.
لم تكتمل فرحته بشراء بيت في المدينة، فبعد 6 أشهر من شرائه جاء الزلزال ليدمر محله و ينقله من الطبقة المتوسطة إلى المعدومة، حسب تعبيره، خاصة أن إيجار المحل يأكل منه أكثر من نصف غلّة العمل شهرياً، وبالكاد يستطيع تأمين باقي المصاريف لأطفاله الأربعة وزوجته.
يرتجف صوت حمد عند تعداد قيمة خسائره، وكأن ما يتذكره ملح يوضع على الجرح، فتظهر علامات الألم والحزن أثناء كلامه، ويقدّر خسارته بـ 20 ألف دولار، ويتوقع ألا يستطيع تعويضها بسبب ضعف حركة السوق وكثرة السيارات الحديثة.
صيانة السيارات الحديثة تحتاج لجهاز حاسوب لتحديد موطن الخلل، فالمحرك وحده يحتوي على 10 حساسات، كما أن الحاسوب يوفر الوقت على صاحب السيارة، والجهد على صاحب العمل، أما السيارات القديمة فتُحصر معظم أعطالها بثلاث قطع غالباً.
تمهيداً لشراء الحاسوب يحاول تثقيف نفسه عن طريق الانترنت لمعرفة موقع ووظيفة الحساسات، ويدوّن كل الأسماء والمهام والاختصارات على دفتر خاص مع ترجمتها وكل ما يتعلق بها، كما أنه يرسم في مخيلته خطة مستقبلية لتجديد شراء العدة كالسابق.
لكن استعادة المعدات لا تكفي لأنه يحتاج لإعادة بناء محله لاسترجاع زبائنه القدامى، يمنعه ضيق الوضع المادي من ذلك، فكل ما يملكه كان يضعه في المحل لتوسعته، والآن يحتاج مبدئياً بين 5-10 آلاف دولار ليستطيع الانطلاق من جديد.
يُحزن حمد حال مدينة أرمناز فقد كانت تشتهر بصناعة الفخار، الزجاج، الكلس، والفحم ومعظم سكانها كانوا يعملون بالمعامل قبل أن يهاجر الكثير من الشبان إلى تركيا ودول أوروبا.
أما عنه فبات يكره الغربة و انقطاع الكهرباء، وقد تغرب لسنوات حتى استطاع توفير مبلغ ينطلق منه للحياة،كذلك والده وأخاه عادا من لبنان منذ 6 أشهر ، لأن العمل هناك لم يعد مجزياً، أما خوفه من انقطاع الكهرباء فلأنها تذكره بلحظة وقوع الزلزال.
في أرمناز غيّر الزلزال معالم حارة التلة كاملة، تلك الحارة ذات البيوت القديمة والسكان البسطاء، والأزقة الضيقة، صارت مهجورة واختفت أزقتها وكأن قصفاً عنيفاً أصابها.
ينظر حمد للوحة المفاتيح الموضبة بتسلسل أرقامها ويقول: “لولا مساعدة شخصية من رجل يعلم حالي لما استطعت العودة للعمل، فقد تكفل بتقديم أهم المستلزمات، واشترى لي معدات بما يقارب الـ 1000دولار”.
مازال حمد بحاجة الكثير ليستطيع النهوض كالسابق، وأكثر ما يشغله التخلص من الإيجار وتأمين قطع جديدة ومستعملة للمحل وبناء محله القديم، ويختم حديثه بتوجيه رسالة لغير المتضررين الذين يدّعون الضرر أن يعيدوا حساباتهم كي لا يأكلوا حق المتضرر.