مطلع كل يوم يفتح “محمد عبد النبي حمادة” عينيه، قبل شروق الشمس. يتفحص بنظره سقف منزله ليتأكد “ما إن كانت الجدران المتصدعة ما تزال في مكانها” ثم يقلب ناظريه إلى أطفاله الأربعة وزوجته، “كلّ شيء على ما يرام”، الآن صار بإمكانه تجاوز ركام النصف الشمالي من منزله المدمر بسبب الزلزال، إلى محل الحدادة الذي يعمل فيه منذ سنوات.
أشهر مضت على الكارثة ومازال محمد ذو الـ 47 عاماً من مدينة أرمناز بريف إدلب الغربي، ينفض غبار الركام عن المعدات داخل محله كل يوم، محاولاً شقّ طريقٍ جديد له ولأسرته التي قُلبت حياتها رأساً على عقب بعد الزلزال.
يعمل محمد بالحدادة الإفرنجية منذ ثلاثين عاماً، يصف المهنة بالممتعة، يقول “إنها تتفق مع الأوضاع في صفة القساوة، إلا أنها لا تناسب ضعف حال الناس الذين أتعبتهم الظروف وجعلت جيوبهم خاوية فصار همهم تأمين لقمة العيش فقط”، فأعرضوا عن تفصيل المنتجات الحديدية أو شرائها.
يقسّم محمد العام إلى مواسم، منها موسم للآلات الزراعية، موسم لعرائش العنب، موسم صيانة الأفران، موسم تفصيل الخزانات وتصفيح السيارات، وآخر لمعاصر الزيتون، هذه المواسم كلها تلاشت وصار معظم الحدادين يحاولون ابتكار أفكارٍ تناسب حاجة المجتمع لجذب الزبائن إليهم، مثل تفصيل مواقد الطبخ (الببورات) على الحطب، و المدافئ وغيرها، يقول محمد “الحاجة أم الاختراع”.
بعد أن كانت تلبية طلبات المعامل والآليات تشغل كل وقته، صارت أغلب أعماله إصلاح ولحام الأشياء المهترئة، مثل “القاظانات” و الأبواب الصغيرة، وكل ما يتعلق بالحديد، أيضاً صيانة الأفران، يقول: “صحيح أن أصعب الأعمال التي قمت بها كانت دخول بيت النار أثناء اشتعاله لأستطيع تحديد الخلل وإصلاحه إلا أن نار الفرن أسهل من نار الفقر الذي وصلنا إليه”.
تَقلّب قيمة بورصة الحديد وارتفاع أسعارها خلال سنوات الحرب، جعلت مطرقة الحداد تكف عن الطرق، كما أخمدت حرارة الجمر اللازمة لتليين الحديد وتشكيل الديكورات وتفصيلها، لذلك كان على محمد إيجاد حل يضمن له دخلاً حتى لو بثمن الخبز، فضم فرعاً جديداً لعمله وهو الحدادة العربية، فصنع الفأس والمنجل والسكاكين و السواطير لقطع الحطب وغيرها من المنتجات التي يسميها بـ(العربية).
قد يبدو للناس أن تعلم هذه المهنة كان خياراً محبباً لمحمد، إلا أنه على العكس تماماً لأن إنهاء حياته الدراسية كانت ضريبة لابد من دفعها آنذاك، لكنه أيضاً كان خياراً مفروضاً بسبب فقر والديه المسنين، فقرر تعلم مهنة تدر له دخلاً، وتجمع بين الفنّ وخدمة للناس، وبعد أن أتقنها باتت هذه المصلحة تعيش بداخله، لكنها ليست لهذه الظروف حسب قوله.
ولعبت عدة أسباب دوراً في هذا الاختيار، فالمنطقة منذ القِدم مقيدة بمهن محددة أشهرها الحدادة، وكان معجباً بأعمال ورشة حدادةٍ يمر بها دائماً، فهي تجمع بين الفن، والهندسة، والرسم، والحرفة والمصلحة، كان يراقب صاحب الورشة الذي صار معلمه، بابتسامة لا إرادية وخيال يرسم فيه ديكورات وتصميمات خاصةٍ به يتمنى تنفيذها.
الغربة هي الضريبة الثانية التي دفعها لقاء اختيار المهنة، لأن افتتاح محل خاص يتطلب منه رأس مال كبير يفوق طاقته، فسافر إلى لبنان ثم اللاذقية وحلب حتى استطاع بعد 12 سنة افتتاح أول مشروع له عام 2006، فكان حتى أولاد بلدته (أرمناز) لا يعرفونه.
لم تَدُم فرحته طويلاً فالمحل الذي استغرق منه غربة 12عاماً عن عائلته سرعان ما تأثر بالحرب، ثم فقده بلحظة الزلزال، وما لم يدمره الزلزال سرقه أصحاب النفوس الضعيفة فعاد إلى نقطة الصفر من جديد وصار عليه رسم بداية جديدة لكنها ستكون صعبةً، فلم يعد يقوَ على ترك أطفاله، خاصةً أنه يخاف على عائلته من بقايا منزله المدمر، ومع ذلك يصرّ على البقاء فيه يقول “ما حدا بيتحملك غير بيتك”.
على الأمل يعيش منتظراً طاقة فرج قد تفتح في لحظة ما، قد تكون على هيئة مشروع صغير تدعمه منظمة إنسانية لتطوير ما تبقى من معداته وتحديثها، مثل الماكينات التي تحوي لحام السلك، الأرغون، قطع الحديد ليزرية (بلازما) لتقطع جميع المعادن كالحديد، الكروم، الألومنيوم، بعد أن كان يستخدم الشلمون الذي يقطع الحديد فقط.
لا يوفر محمد فرصة عمل تتاح له حتى لو كان خارج اختصاص الحدادة “الشغل مانو عيب” و تشكل العديد من المخاوف هاجساً لا يفارق تفكيره، فهو يخشى أن لا يستطيع دفع قسط الدورة الدراسية لطفلته الوحيدة التي مازالت تدرس، يتساءل دائماً هل ستحل مصيبة جديدة تكسره من جديد؟ فالزلزال لم يكن المصيبة الوحيدة إنما أصيبت عين ابنه، وهو يخاطب المنظمات الإنسانية لمد يد العون له دون فائدة.
يحن محمد لحارته وجيرانه الذين شردهم الزلزال، يقول: “حارتي كانت أحلى حارة وجيراني أفضل جيران وبيتي أجمل بيت” ومازال يعيش في بيته المهدم لعدم قدرته على تأمين خيمة، لا يملك خزان مياه ويتحايل على ضيق الحال بعازل محاط بقطع بلوك لتجميع المياه فيه، يقول مازحاً “السكافي حافي والنجار بلا باب دار”.
تفتقر حارة محمد اليوم للروح والحركة والحياة وخاصة في الليل “الحارة صارت حارة أشباح أو حارة نسيها الزمن، فهي مظلمة يغطيها الركام والغبار، كل شيء تغير، حرارة الشمس، الكهرباء، شبكة المياه، اللحظات الأسرية والاجتماعية السابقة، لمعة الفرح في عيون الناس”.
أيام تفصل محمد عن سعادة جديدة يأمل أن تمسح دموعه فهو يستعد لاستقبال مولوده الجديد، لذلك يفتتح محله كل يوم بابتسامة “تحسن الظروف عند الجميع وتعافيهم من آثار الكارثة وإعمار بيوتهم التي ستتيح له و لزملائه الحدادين فرص عمل تنتشلهم وأسرهم من حالة الركود في السوق وتعيد لمواقد الفحم حرارتها وتمدهم بعزيمة تلين الحديد من جديد.