في كلّ ظرفٕ مناخيّ قاسٕ يمرّ على سكان الخيام في الشمال السوريّ، يراودني اعتقاد أنًي من المحظوظين الذين حصلوا على منزلٍ سكنيّ في تجمّع الكمونة، شمالي غربي إدلب.
هذه المساحة الضيّقة للشقة السكنية التي لا تتجاوز مساحتها 40 م٢، تعتبرها الحكومة التركية مكرمة منحتها للمهجرين كمساكن مؤقتة، بيد أن المؤشرات تدل على أنها قد تكون دائمة، وفق خطة صرح عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
أحد أهدافها غير المباشرة ترغيب المهاجرين السوريين في تركيا بالعودة الطوعية إلى وطنهم. هذا الهدف الذي يتستر خلف تحسين الواقع المعيشي لسكان الخيام حتى تسكين جميع المهجرين.
تعود لذاكرتي دائماً عبارةٌ قالتها لي إحدى صديقاتي المهجرات في مدينة الأتارب غربي حلب، “هذه الشقق فقط للمدعومين”. لم أكن وقتها أعلم عنها أيّ شيء، إلّا أنّ أصوات تفجيرات المقالع فيها لم تكن تهدأ في الليل ولا النهار. كنا نبعد عنها قرابة 3 كم. ومنذ ذلك الحين انتابني الفضول لرؤيتها.
حصولنا على شقة سكنية كان حلماً بعيد المنال باعتقادي، لأنها بحاجة لإجراءات إدارية تبدأ بالتسجيل في مديرية التنمية، وتنتهي بوعود معلقة تساقطت مع الزمن، بحسب كثيرين ممن صادفتهم. لذا لم أفكر بالأمر حتى؛ إلى أن ضاقت بي الحال بعد 14 محطة نزوح خلال أقل من ثلاث سنوات، بدأت في جبل الزاوية مروراً بسرمدا ثم الأتارب ثم إدلب ثم حزانو ثم باتبو.
وفي كلّ محطّة لم نوفق بمؤجّرٍ ينتظر انتهاء العقد، فالمستأجر الذي يدفع أكثر هو من له الحق في السكن، والعقد هنا لا محل له من الإعراب، فهو في نظر معظمهم حبر على ورق. وفي حال اعتراضنا يكون الجواب: “انقعه واشرب ماءه.”
في المحطة الأخيرة في بلدة باتبو غربي حلب، لم يكن طلب المؤجر إخلاء البيت بعد شهرين من السكن فيه وعدم إيجادنا للبديل شرّاً كما حسبناه، إذ كان السبب في ترشيح اسمنا من قِبل أحد الأشخاص ذوي الصلة بمنظمة إنسانية مساهمة ببناء قرية سكنية في الكمونة، بعد ما رآه من ضيق الحال وعجزٍ عن الاستقرار. وهي فرصة لم تتَح لكثيرين ممن يمرون بذات الظروف.
الجولة الأولى في التجمع
بعد أن علمنا بترشيح اسمنا لمنحنا شقة سكنية، كان علينا التجوّل في التجمع للتعرف على نمط البيوت والحياة فيه. بدايةً كان علينا اجتياز طريق ترابيّ وعرٍ يصل بلدة باتبو بالكمونة، وهو أقلّ وعورة من الطريق الآخر على الأوتستراد (طريق باب الهوى- إدلب) بحسب نصيحة أحد الأصدقاء.
وهنا كانت الصدمة الأولى، إذ كنت أشعر أني أدفع السيارة بكل قوة حتى تستطيع صعود الطريق. وما أن نتجاوز المسافة القاسية حتى تجبرها نتوءات صخرية على الانزلاق يميناً أو شمالاً، كنت أتجنب النظر إلى الخيام على حافتي الطريق، إذ رأيت بنظرات خاطفة عيون بعض الأشخاص داخل شقوق خيام، أجبرهم صوت أنين السيارة وارتطامها بالأرض على استراق النظر لرؤية ضحايا الطريق الذي ألِفوه. وهكذا حسبنا أن المسافة طويلة رغم أنها لا تتجاوز 3 كم.
بدأت الانفراجة الأولى عندما وصلنا طريقاً مرصوفاً بأحجار الأنترلوك المتشابكة، توزعت على جانبيه بيوت متلاصقة على طول الطريق، تتوحد فيها الجدران المشتركة بين غرف المنزل والمنزل الآخر. كما يمتد السطح على امتداد واحد لمجموعة من الكتل السكنية، وعلى كلّ حائط نُصب حبل غسيل نُشرت عليه الملابس، فهو المكان الوحيد الذي يمكن نشر الغسيل فيه، إذ لا فسحة سماوية في هذه المنازل.
في الطرقات لا خصوصية للعوائل، إذ أجبر الجميع على افتراش مساحة للجلوس أمام البيوت، معظمهم أطفال أو رجال و كبار في السن، وقلّ جلوس السيدات أو الفتيات إلا أولئك اللواتي ينشرن الغسيل، ففي مجتمعنا من المعيب أن تجلس النساء في الطرقات، حتى لو كانت الوسيلة الوحيدة للتعرض للشمس. كذلك من المعيب نشر الغسيل خارجاً لذا تضطر النساء لجعل الملابس طبقات تتستر بعضها فوق بعض.
كان ذلك في مخيم أطلق عليه اسم (القلمون)، حيث صادفنا أشخاصاً من حلب وحمص وحماة والغوطة. تظاهرت بالإعجاب بالبناء تحسباً لردة فعل زوجي التي توقعتها، وهي رفضه السكن في التجمع، وهو الآخر أخفى صدمته لأنه يعرف رغبتي بإنهاء حياة التشتت والتنقل من بيت لبيت، وحلمي بامتلاك بيت أستطيع تثبيت احتياجات المنزل فيه إلى حين عودتنا لقرانا التي هُجرنا منها.
إلا أن محاولاتنا إخفاء الدهشة من بعض المواقف كانت تفضحها حواجبنا التي ترتفع بدهشة أحياناً، وكذلك تساؤلاتنا لفهم بعض المشاهد، منها شكل البيوت الموحد من الخارج، والمزين بالبلوك النافر. أما من الداخل، فالبيوت تفتقر لإكساء الجدران بالإسمنت من الداخل، وأول ما خطر في ذهني وقتها المثل الشعبي القائل “من برا رخام ومن جوا صخّام.”
تابعنا جولتنا بحثاً عن القرية التي سيكون لنا فيها منزل حسب الوعد. لم نستطع الدخول إليها لأنها كانت قيد الإنشاء وطرقها لا تصلح للدخول إليها بسبب التمديدات الصحية التي بدأت فيها. وهنا خطر في بالي منشور تهكمي قرأته على منصة الفيسبوك منذ فترة، يتساءل صاحب المنشور عن أفضل منطقة سياحية في الشمال السوري يمكن السكن فيها، فأجابه أحدهم في التعليقات: “الكمونة، منطقة مخدمة بالصرف الصحي وشبكات المياه وخزانات على البيوت.”
أفرحني سماعي لخطاب قديم للرئيس التركي عند إعلانه عن عزم الحكومة التركية بناء هذه المساكن، وأنها ستحتوي على فسحة سماوية بمساحة 3 أمتار، رأيتها في هذه الشقق وتمنيت أن تكون شقتنا فيها حتى لا أضطر لنشر الغسيل خارجاً كما في القلمون.
الجولة الأولى في المنزل
افتتحت القرية منذ عام تقريباً، بعد أن دشنها وزير الداخلية التركي سليمان صويلو. شهد الافتتاح احتفاءً من قِبل المسؤولين، كما لقي ضجة إعلامية أوحت بأهمية الأمر وبفخامة البناء، بخاصة أن مدرسة ومسجداً حملا أسماء تركيّة، ومسورات بشكل لم تعتد عليه المخيمات؛ كانا واجهة جميلة للقرية.
بعدها توجه زوجي لتوقيع عقد الاستلام تحت مسمى (عقد انتفاع) واستلم مفتاح الشقة الجديدة. حاولت تجاهل ما رأيته في زيارتي الأولى. وكان دخول زوجي حاملاً بيده المفتاح، حلماً بالنسبة لي، فأنا لا أرغب سوى بالاستقرار. وفوراً ذهبنا لإلقاء النظرة الأولى على هذا الحلم.
دخلت بالقدم اليمنى، ومع أول خطوة تسللت لحظات الإحباط الأولى إليّ رغم محاولتي مقاومتها؛ شعرت بضيق في النَفَس فور نظري إلى السقف المنخفض. تساءلت في داخلي: “كيف نستطيع تركيب مروحة سقفية في الصيف؟” ثمّ دخلت الغرفة الثانية وكانت دون باب، وكالغرفة الأخرى لا يتجاوز طولها الثلاثة أمتار، وعرضها كذلك.
ثم نظرت بإحباط إلى المطبخ وهو عبارة عن مغسلة جلي فقط بجانبها نصف متر تقريباً، اقتطع منه حمام ودورة مياه (تواليت)، كان الشيء الوحيد المناسب من حيث المساحة. تساءلت بداخلي من جديد: أين سأضع فرن الغاز؟ والثلاجة؟ ثم صرفت النظر عن هذه الفكرة، فنحن لم نشترِ ثلاجة بعد، وربما لن نشتري إذا سكنّا هنا، فأنا لم أعد أضمن قرار زوجي بعد ما رأيته من تعابير وجهه التي فضحت صدمته. ثمّ وجه كل منا للآخر سؤالاً مختزلاً كل المفاجأة بكلمة واحدة: (شو؟) ثم أجبنا نفس الجواب “لنؤجل النقاش!”
أحلاهما مرّ
حصرنا تفكيرنا بين خيارين أحلاهما مرّ، إما الإيجار الذي أرهقنا مادياً ونفسياً، فلا إدخار للمال في ظل ارتفاع الإيجارات بين 50 – 100 دولار للشهر الواحد، في الوقت الذي تكاد تنعدم فيه فرص العمل، ولا وظيفة ثابتة تضمن استمرار قدرتنا على دفع الإيجار، ولا استقرار مع تكرار فسخ عقد إيجار المنزل بسبب زيادة الطلب.
عندها، فضلت عدم التفكير بسلبيات الشقة السكنية وإيجاد حلول لما سيعترضنا بعد السكن، إذ لا مجال للتفكير، إنها فرصة يحلم بها معظم المهجرين، وقد سمعنا عن اقتحامات كثيرة لأشخاص لا يملكون عقوداً احتلوا عدداً من الكتل.
تحولت جلساتنا لجدالات لا فائز فيها، كلانا يخشى القبول ويخشى الرفض أيضاً. وكلانا يحاول إخلاء المسؤولية عن قراره. إلى أن جاءت لحظة القرار الحاسمة بعد تهديدات بسحب العقد من غير القاطنين، وكان أن اخترنا الاستقرار (حسب ظننا)، على الأقل سيكون استقراراً لأثاث البيت، قلت في نفسي.
عن تجمع منازل الكمونة
بعد اجتياز الطريق المرتفع الذي يصل التجمع بالأوتستراد، يستقبلك “الطريق المبلط” تتصدره قرية محمد عاكف إنان (وقف الديانة التركي)، التي دُشنت منذ أكثر من عام، بلون جدرانها الأبيض والأزرق. تقع على يمين الطريق، وعلى اليسار خُدمت القرية بمسجد (بدر الدين أربكان)، وإلى جانبه جهزت مدرسة (مدحت سوين) لطلاب مرحلة التعليم الأساسي.
صحيحٌ أن القرية تبدأ بطريق مرصوف بأحجار الأنترلوك، إلا أن طرقات القرية مازالت ترابية غير معبدة.
يُخيّل إلى زائر المنطقة أنها تشهد اهتماماً واسعاً ومنظماً، إذ تمتد الكتل السكنية على مدّ النظر قاهرة الصخور ومفترشة الجبل. كما تدل المسميات التركية للمخيمات والمنظمات الإنسانية المنفذة لمشاريع البناء، والمكتوبة على اللافتات بلغة تركية إلى جانب العربية على أن هذا التجمع نشأ برعاية تركية.
لم تبدُ المنطقة بهذا المشهد بين ليلة وضحاها، إذ بدأ إنشاء القرى السكنية فيها عام 2020، بعد الهجمة الأخيرة لعصابات الأسد على ريفي حماة وإدلب وتهجير آلاف العوائل باتجاه الشريط الحدودي، بحسب محمد علي احمدي، رئيس قطاع إدارة المخيمات.
خُدّمت المنطقة بست مدارس، إحداها للمرحلتين الأساسية والثانوية، وُزعت على القرى السكنية الموجودة حالياً، وهي 12 قرية بحسب رئيس دائرة الخدمات فادي الناعس، وهي: قرية محمد عاكف إنان، قرية البر، قرية العائلة، قرية غسق، قرية وقف الإنسان، قرية الخيرات، قرية البشير، قرية دينيز فنري، قرية حياة يولو، قرية الهلال الأحمر التركي، قرية فتح دار، القلمون.
تم إنشاء هذه القرى على مراحل خلال ثلاث سنوات تقريباً. يبلغ عدد الكتل السكنية 8000 شقة سكنية، أما عدد العوائل فوصل إلى 5000 عائلة تقريباً والعدد في ازدياد، يقول أحمدي.
كما خُدّمَ التجمع بالعديد من المرافق العامة، منها محطتي مياه، ومركزين صحيين، وسبعة مساجد، وثلاثة أسواق تجارية. كما خصصت بعض المساحات الخضراء لإنشاء حدائق عامة. أوضح أحمدي أن المشاريع السكنية توقفت حالياً لضيق المساحات الجغرافية وآخر المشاريع كان بنهاية عام 2022، وكان عبارة عن 200 شقة سكنية. في حين رصدنا بناء مخيم جديد مازال قيد الإنشاء. وعلى خلاف باقي المنازل يبدو أنه مدعّم بأعمدة مسلحة.
تتوجه الخطط المستقبلية لتحسين البنى التحتية والمرافق العامة لهذا التجمع، مثل الطرقات وزيادة عدد المنشآت العامة، دون زيادة عدد الكتل السكنية بحسب الأحمدي. ولعلّ أحدث خدمة كانت تعبيد الطريق الرئيسي الواصل بين أوتوستراد باب الهوى ومنطقة تل الكرامة التي تنتهي بأوتوستراد الدانا بطول 7 كم. ما فتح المجال لمواصلات شركة (الزاجل) لبدء رحلاتها على هذا الطريق مخففة بذلك على الأهالي والطلاب والموظفين عبء بُعد المخيمات عن الطرقات الرئيسية.
على امتداد الكمونة وإلى الشمال قليلاً من منازلها، شُيدت أبنية حديثة ذات طوابق ملونة، توحي لناظرها أنها تباهي مساكن الكمونة، فطريقها الرئيسي المرصوف بأحجار الأنترلوك والذي يفصل شقه الأيمن عن الأيسر بفاصل ترابي مزروع بالأشجار والورود، ومواقف السيارات المنتظمة أمام المباني، والمساحة المخصصة للعب الأطفال رغم سعة شوارعها وهدوءها، كلها تدل على أنها اسم على مسمى (قصور سرمدا)، وهي مشاريع إنشائية خاصة حديثة الإنشاء كما الكمونة، تقع إلى الجنوب من مدينة سرمدا وأقرب إلى الكمونة منها.
ذاكرة قديمة
أثار ضوء السراج الوحيد الذي أشعلت فتيلته أول مرة في جبل الكمونة دهشة أهالي القرى المحيطة، فهي منطقة مُوحشة تعيش فيها ضباع وحيوانات مفترسة، ولم يجرؤ أحد على التفكير بالسكن فيها من قبل.
يُقدّر العمّ أبو محمد، 62 عاماً من بلدة باتبو، تاريخ سكن هذه العائلة فيه بأكثر من 55 عاماً. وهو رقم غير دقيق، ولا يعلم من هم أصحاب الضوء الذي يعتقد أنه لأحد أهالي “برج نمرة” المجاورة للكمونة. سكن وحيداً مع عائلته في هذا الجبل الصخريّ لأسباب يُعتقد أنها خلافات عائلية، بحسب أبو محمد.
يحكي لنا من ذاكرته كيف أن صاحب هذا البيت ربى الأغنام والماعز، وزرع الأراضي المجاورة بالقمح والشعير، وكان يقصد سرمدا لشراء مستلزماته. لم تكن رحلته بتلك السهولة، إذ كان عليه صعود الجبل والنزول منه معتمداً على الدواب أو مشياً على الأقدام، ولم تكن الطرق قد شُقّت بعد، يقول: “كنت ولداً صغيراً، وهذا الكلام قبل وصول الكهرباء إلى المنطقة، وقبل استلام حافظ الأسد لرئاسة سوريا عام 1970.”
بعد ذلك بفترة استهدفت وزارة الزراعة الأراضي الصالحة للزراعة في جبل الكمونة – كونها أملاك دولة – لزراعة الزيتون، واستثمرت الأراضي بتأجيرها لأهالي القرى المحيطة. كان أبو محمد أحد العمال الذين ساهموا بزراعة أشجار الزيتون آنذاك، ومازالت إلى الآن هذه الأراضي تعامل على أنها أملاك دولة وتستثمرها حكومة الإنقاذ.
يسخر بعض من التقيناهم من صفة “المساكن المؤقتة” التي أطلقت على مشاريع البناء المدعومة من المؤسسات التنموية في الشمال السوري، والتي توزعت في مناطق سيطرة حكومة الإنقاذ على مناطق معظمها جبلية،ً منها (مشهد روحين، كللي، بابسقا، كفردريان، حربنوش).
يقولون إنها إبر بنج لإرغام المهجرين على التأقلم ونسيان القضية والتوقف عن المطالبة بالعودة إلى مناطقهم. تدفعني هذه الأفكار لتحليل الأحداث السياسية محاولة إيجاد جواب لسؤالٍ لا يفارقني: “هل أنا حقاً من المحظوظين الذين كتب لهم الاستقرار المؤقت؟ أم أنني من المخدوعين بوعود العودة التي دفنتها السياسة؟”