وسط الركام، بجدران أربعة ودون سقف، أعاد “محمد مصطفى شكر” 48 سنة من مدينة أرمناز شمالي غربي إدلب بناء محله من جديد بعد أن دمره الزلزال وابتلع معداته التي تتجاوز قيمتها 10 آلاف دولار.
لم يكن هذا حال محله الذي يختصّ بـ (كهرباء السيارات) قبل شهر شباط، فقد كان محاطاً بالأبنية السكنية كما كان الحيّ الذي يحمل اسم “شارع الصالة الذهبية” يضج بالحركة والحياة، على عكس حاله اليوم.
ينظر محمد إلى السماء من داخل محله وللمرة الأولى لا يشعر بالراحة لرؤية زرقة السماء، فأشعة الشمس الحارقة التي لا تحتاج للتسلل تدخل من السقف المفتوح لتعيق العمل في هذا الجوّ الحار، يدفعه ذلك للتساؤل “كيف سيكون حاله في الشتاء إذن”.
يراقب محمد ويقارن تدخلات الحكومات في أنحاء العالم وقت الأزمات لتعويض مواطنيها المتضررين، ويتساءل إن كانت إحدى الجهات المحليّة (الحكومية أو الإنسانية) ستلتفت لتعويضه عن خسارته أو لجزءٍ منها علّه يستطيع الوقوف على قدميه من جديد، فهو يشعر أنه مشلول الحركة ويخشى أن يخسر زبائنه الذين يطالبونه بتسريع العودة للعمل.
يقيّم محمد المهنة بالجيدة ويحبها لأن فيها خدمة للناس، كما أنها كانت تدر له دخلًا مقبولاً “إذا ما غنت بتستر، هذا في الأحوال الطبيعية” يقول محمد، أما الآن فلا يستطيع تخديم زبائنه بسبب عدم قدرته على شراء قطع تبديل عوضاً عن التي خسرها مع مصدر دخله.
“كهربجي السيارات” هذا تعلم المهنة منذ 25 سنة، أما محله المهدم فقد افتتحه منذ 8 سنوات بعد أن طوّر نفسه و تتّبع تطورات السيارات الحديثة فأتقن صيانتها بشكل كامل، وكانت السيارة التي تدخل محله تخدّم بشكلٍ كامل، من كهرباء، غيار الزيت، غسيل، ما جعل زبائنه يرضون عن خدماته ويفتقدونها بعد أن باتت محدودةً جداً لعدم توفر معداتٍ بديلة عن تلك التي فقدها.
منذ الصغر اهتمّ محمد بالكهرباء كهواية، فكان يصلّح الأعطال الصغيرة في البيت، مثل المروحة والمصابيح وبعض التمديدات، لفت انتباه والده مرةً اهتمامه بتوضيب المعدات والمفاتيح في أحد المحلات، سافر إلى لبنان وبقي فيها 4 سنوات، ثم عاد إلى سوريا عام 2014 رغم الحرب حتى يبقى مع عائلته وافتتح مشروعه الخاص.
أتقن محمد مهنته وأبدع في التعامل مع أسلاك الكهرباء وتعقيداتها، فهو طبيب السيارات المسؤول عن سلامة لغتها أثناء القيادة، مثل أضواء المكابح والزمور والغمازات الجانبية، وغيرها من الإشارات التي تتحدث بلغة واحدة لجميع السيارات كوسيلة التواصل الآمنة بين السائقين.
يعتبر محمد أن دخول السيارات الحديثة فتح الباب أمام أصحاب المهنة لمتابعة كل التطورات مثل فتح برامج السيارات، وتصفير الكمبيوتر بعد ملاحقة إشارات السيارة على التابلو، يقول “التركيب واحد لكن التحديثات في طريقة الكشف عن العطل، من خلال تشخيص الخلل عن طريق الكمبيوتر الذي يحدد موقع ونوع العطل”، وفي بعض الحالات المعقدة يضطر محمد للتنسيق مع ميكانيكي.
لحظة وقوع الزلزال لم يتخيّل أن تكون الكارثة بهذا الحجم، وعند تفقده لجيرانه شاهد الأبنية الستة التي تجاور محله وقد سوّيت بالأرض، فصار يرشد فرق الإنقاذ إلى أماكن وجود جيرانه متجاهلاً محله المدمر أيضاً، استطاعت فرق الإنقاذ الوصول لعدد منهم وإنقاذهم، لكنه خسر عدداّ كبيراً من جيرانه وأصدقائه.
لم تكسر الكارثة إرادته بالحياة، فهو أب وتترتب عليه مسؤوليات كبيرة، والحياة لن تنته هنا، لذلك اقترض مبلغاً وأعاد إعمار محله من جديد، على أمل إيفاء ديونه من العمل لكن خسارة العدة أثرت عليه كثيراً، ويصعب عليه تقدير مبلغ محدد لإنعاش المحل “لأن المهنة تبدأ بمفك براغي وتنتهي بملايين”، حسب قوله.
ويقدّر احتياجه الأوليّ بـ 5000 دولار كحدٍ أدنى بحيث يضمن للسيارة التي تدخل محله خروجاً دون أي خلل، فزبائنه اعتادوا على اعتباره ورشة صيانة كاملة (كهرباء، غيار زيت، غسيل) ويأمل ألا تنقص خدماته عن السابق.
حالياً سمحت له البلدية بالبناء دون سقف بيتوني، يتأمل تعويض أضرار محله أكثر من تعويض أضرار بيته وذلك لأن المحل هو مصدر رزقه ويخشى أن يتأخر التعويض فيخسر زبائنه كما أنه يخاف من عدم قدرته على متابعة تعليم أطفاله لضيق الأحوال المادية.
في نهاية كل يوم يوضّب محمد ما لديه من معدات، يتسامر مع جيرانه في ظل جدران محله عند غروب الشمس، يدوس على حزنه بابتسامة خجولة، يغلب على حديثه مسألة تعويضه وجميع المتضررين دون استثناء بالرغم من غياب مؤشرات التعويض، يردد مثلين ويتغنى بهما: “ريد الخير لجارك بتلاقيه عندك، الخير وقت يعم يعم على الجميع”