“أصعب صيف يمر علينا”، بهذه الكلمات وصف أحمد السيد، 75 عاماً ونازح إلى مخيمات أطمة بريف إدلب الشمالي، قسوة هذا الفصل، إذ رافق درجات الحرارة العالية ارتفاعاً في سعر صرف الدولار، وحوّلا صيف سكان الشمال السوري إلى جحيم.
ولم يكد ينته السكان في شمال غربي سوريا من مأساة الشتاء، حتى دخل فصل الصيف الذي لم يكن أقل قسوة من سابقه، إذ تجاوزت الحرارة 40 درجة مئوية، وسط ارتفاع في أسعار الوسائل التي يمكن أن يلجأ لها السكان للتخفيف من شده الحرّ، مثل المراوح والكهرباء وقوالب الثلج..
بدأت الليرة التركية بالانحدار وبشكل أكبر منذ مطلع حزيران الماضي، إذ لامست حاجز 28 ليرة تركية لكل دولار بعد أن سجلت في حزيران 21 ليرة تركية للدولار الواحد.
ويقلل المحلل الاقتصادي رضوان الدبس من دخول الصيف كسبب لتراجع الليرة التركية، ويعزو السبب الأهم لتوقف عمليات ضخ الليرة التركية من البنك المركزي بعد انتهاء فترة الانتخابات، ورفعه الدعم عنها ما تسبب بهذا التراجع الكبير في الصرف.
يعتمد سكان شمال غربي سوريا على الليرة التركية في تداولهم اليومي، وتسبب تراجعها الحاد بضعف قدرتهم الشرائية، يقول أنس حج يوسف، نازح مقيم في مدينة إدلب: “يوميتي لا تتجاوز 70 ليرة تركية، لذلك لم يكن بمقدورنا الاشتراك بالكهرباء التي تتراوح تكلفتها شهرياً مابين 300-400 ليرة، وهو ما فاقم معاناتنا هذا الصيف، فليس لدينا ثلاجة للحصول على الماء البارد، ولا نستطيع تشغيل مروحة أو مكيف”.
ويضيف أنس: “شدّة الحر هذا العام لا تُطاق، لذلك قررت شراء مروحة تعمل على البطارية، لكني تفاجأت بارتفاع سعرها بشكل جنوني، إذ كان سعر المروحة في العام الماضي 125 ليرة تركية، أما هذا الصيف فقد وصل سعر المروحة ذاتها إلى 600 ليرة”.
لا تحلّ المروحة مشكلة ارتفاع درجات الحرارة. يقول الصحفي سائر بكور، نازح من سراقب: “المروحة في هذا الحر الشديد، تعطي هواء ساخن، لذلك فالحل الوحيد هو المكيف، لكنه يستهلك كميات كبيرة من الكهرباء”. ويستهلك مكيف بحجم طن ونص الطن، نحو كيلو ونصف كيلو واط في الساعة، علماً أن سعر الكيلو واط يبلغ 18 سينتاً، وبالتالي التكلفة ستكون باهظة مع الاستعمال الشهري.
إضافة للكهرباء عبر الشركات التركية يعتمد قسم من أبناء المنطقة على المولدات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية للحصول على الكهرباء المنزلية، لكن ارتفاع أسعار الوقود بعد أن وصل سعر ليتر المازوت إلى 35 ليرة تركية أجبر الكثير من أصحاب المولدات على التوقف، والاكتفاء بالإنارة فقط عن طريق البطاريات، بحسب أبي مصعب الذي يسكن في مخيم دير بلوط بريف حلب.
في المقابل ارتفعت ألواح الطاقة الشمسية، إذ وصل سعر الواحد منها وسطياً إلى نحو 70 دولاراً والبطارية الوطنية 100 دولار، البطارية الأجنبية 170 دولار، ورافع الجهد (انفرتر) 60 دولاراً.
بعيداً عن الكهرباء تناقصت كميات المياه بشكل واضح منذ بداية الصيف، وهو ما فرض على السكان تقنين استخدامها خارج نطاق الشرب والتنظيف، إذ كانوا يعتمدون عليها في الاستجمام والسباحة لترطيب أجسادهم ومنازلهم.
يقول أنس حج يوسف نازح مقيم في مدينة إدلب: “تضخ المياه إلى المنازل مرة واحدة كل 8 أيام، لكنها لا تكفي مع زيادة شدة الحر، لذلك نضطر لشرائها عبر صهريج بحجم 20 برميلاً تصل تكلفته إلى 100 ليرة تركية”.
وتتكفل منظمات بتزويد بعض المخيمات بالمياه، لكن هناك مخيمات محرومة من المياه، ما يضطر النازحين لشراء الصهاريج في نحو 811 مخيمًا، إضافة إلى تناقص مخصصات المياه في باقي المخيمات، نتيجة تخفيض الدعم وارتفاع معدل استهلاك المياه، مع ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير، وفق ما ذكر فريق منسقو استجابة سوريا.
أبو محمود الحسين من قاطني مخيم البالعة غرب إدلب، يشكو كغيره من قاطني المخيم من نقص المياه للشرب أو الاستهلاكات الأخرى، يقول: “المياه هي الوسيلة الوحيدة لتخفيف شدة الحر عندنا، لكنها شحيحة وبالكاد تكفي للشرب والقليل من الغسيل، ولا يمكن استهلاك أي جزء منها للتبريد خشية انقطاعها، ما يضطرنا لشراء المياه من الصهاريج الجوالة”.
عوامل أخرى زادت من موجة الحر، وحوّلت صيف السكان إلى جحيم. يقول أحمد السيد من قاطني مخيم عائدون بريف إدلب: “الخيمة القماشية المهترئة المصنوعة من النايلون، تجعل الحرارة داخلها أشبه بالفرن في أوقات الظهيرة، لدرجة أن الوقوف تحت الشمس في العراء أرحم من الجلوس في الخيمة، ما يدفعنا إلى إمضاء أغلب أوقات النهار تحت ظلال الأشجار”.
ارتفاع درجات الحرارة، تسبّبت كذلك في اندلاع الحرائق، إذ بلغ عددها أكثر من 98 حريقاً ضمن المخيمات منذ بداية العام الحالي وحتى الشهر الجاري، نتيجة عوامل مختلفة، أبرزها شح المياه الموجودة للتعامل مع الحرائق، وفق ما ذكر فريق منسقو استجابة سوريا.
ودعا منسقو الاستجابة، المنظمات الإنسانية إلى تأمين العديد من المستلزمات الأساسية للنازحين، لمواجهة ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة، وأبرزها زيادة كميات المياه والعمل على تبريد المخيمات، وتأمين معدات إطفاء الحرائق لمواجهة أي حالة طارئة ضمن المخيمات.
يقول السيد لموقع فوكس حلب: “اندلعت عدة حرائق قرب مخيمنا، تسبّبت في تضاعف درجات الحرارة أكثر، لاسيما أن عملية إطفائها تأخرت كثيراً، نتيجة معاناة فرق الإنقاذ من صعوبة السيطرة عليها ونقص المعدات اللازمة”. يضيف السيد: “اشتريت قبل شهرين بطارية بـ 160 دولار، من أجل تشغيل المروحة، لكن لسوء الحظ انفجرت البطارية من شدة الحر، وهي حالة تكررت لدى عدة عائلات”.
شدة الحر تسببت في إصابة كثير من الناس بضربات شمس أيضاً، كما زادت مخاوف الأسر النازحة على أطفالها الرضّع من إصابتهم بضربة شمس أو الإغماء، فضلاً عن معاناة السكان من لدغات الحشرات والبعوض ، وسط تقصير من الجهات المعنية في عمليات الرش للقضاء على تلك الحشرات.
نتيجة النقص الحاصل في تأمين ما يلزم لمواجهة ارتفاع درجات الحرارة لجأ كثير من الناس إلى طرق بدائية للتخفيف من آثارها، يقول مدير مخيم التح بريف إدلب، عبد السلام اليوسف: إن “المنظمات الإنسانية لم تقدّم أي وسائل تساعد النازحين على تخفيف شدة الحر، ولاسيما العوازل الحرارية وألواح الثلج والمراوح، ما جعل النازحين يلجؤون إلى طرق بدائية.
وأضاف اليوسف لفوكس حلب: “يضع نازحون المياه في وعاء بلاستيكي، ويلفونه بالقماش للمحافظة على برودة المياه داخله، كما دهن البعض الآخر الخيمة بالطين أو وضع أقمشة فوق النايلون، لتخفيف شدة الحر، إضافةً إلى رش الخيمة بالمياه من الداخل والخارج بغية ترطيبها”.
كبار السن والأطفال غير قادرين على تحمل درجات الحرارة المرتفعة، ما يضطرهم إلى سكب الماء على أجسادهم للتخفيف منها. وابتكر قسم من الأهالي فكرة لتخفيف الحر، عبر صناعة مسبح صغير داخل المخيم، يسبح فيه الأطفال، من خلال إنشاء سور من البلوك بداخله شادر خيمة ثم يتم تعبئته بمياه الصهريج.
لجأ السكان كذلك إلى شراء قوالب الثلج، وهناك من تصله من المحسنين وأصحاب الخير ومنظمات الإغاثة، حيث وجدوا فيها ملاذاً يطفئ القليل من لهيب الحر. وصل سعر قالب الثلج إلى حوالي 65 ليرة، حيث استغل بعض ضعاف النفوس حاجة الناس إلى مكعبات الثلج، وقاموا برفع سعرها، ما دفع حكومة الإنقاذ إلى تحديد سعرها بـ 40 ليرة تركية.
شهر بعد آخر تتفاقم مشكلات السكان في الشمال السوري، يرتقون ما يستطيعون من فتق يحدثه كل فصل، ينتظرون انتهاء الشتاء البارد ما يتركه من أمراض في ظل غياب التدفئة وغرق الخيام، ويستقبلون صيفاً لاهباً بأشعة الشمس ودرجات الحرارة المرتفعة دون وسائل تبريد تساعدهم على تجاوزه، ووسط كل هذا تعجز المنظمات الإنسانية عن إيجاد حلول لأكثر من مليونين ونصف مليون إنسان يسكنون الخيام سئموا تعاقب الفصول عليهم واختراع حلول غير ناجعة.