في ساحة أحد المخيمات في بلدة دير حسان يجتمع أبو حسان، سبعة وستين عاماً، بثلاثة رجال من الفئة العمرية ذاتها للعب المنقلة، إضافة لعملهم كبائعين في الدكاكين المطلة على الساحة.
يتقاضى أبو حسان مائتي ليرة تركية أسبوعياً لقاء عمله في محل لبيع الألبان والأجبان، وهو مبلغ ضئيل يضاف لمعاشه التقاعدي الرمزي والذي لم يعد يتجاوز المائتين وعشرين ليرة تركية شهرياً بعد انهيار الليرة السورية. أبو حسان واحد من عشرات المتقاعدين الذين يقطنون المخيم، عمل في المؤسسة التموينية في معرة النعمان لمدة خمسة وعشرين عاماً إلى أن تقاعد في عام 2009.
بقي أبو حسان يعتمد على راتبه التقاعدي كمصدر دخل وحيد له ولزوجته إلى أن أُغلقت الطرقات إلى مدينة حماة. بعدها لجأ إلى أحد السماسرة في مناطق النظام من أجل الحصول على معاشه التقاعدي لقاء اقتطاع حصة من الراتب، ما بين أجور سمسار وتحويل، وهو ما اضطره للبحث عن عمل آخر لتغطية انخفاض ما فقده من قيمة معاشه الشهري.
يقول أبو حسان: “لم يعد الراتب يكفي، فالسمسار الذي يقوم بتحويل رواتبنا، يتقاضى ثلث الراتب، إضافة لانهيار الليرة السورية، إذ أن راتبي لا يتجاوز مائتين وعشرين ليرة بعد تحويله لليرة التركية، رغم وجود زيادات ومنح طرأت عليه خلال الأشهر الماضية”.
وبحسب أبو حسان، فإن راتبه يصل إلى مائة وسبعة آلاف ليرة سورية، وبعد اقتطاع أجور التحويل وأجرة السمسار وفارق الصرف من العملة السورية إلى التركية، يتم تسليمه مائتي ليرة تركية، أي ما يعادل 77 ألف ليرة سورية.
بالانتقال إلى الحاج عبد الكريم سويد، الذي أحيل إلى التقاعد بناءً على طلب منه في العام الأول من الثورة السورية بعد خدمة تجاوزت ربع قرن في سلك الشرطة، فإنه بقي يعتمد على معاشه التقاعدي إلى أن تم فرض تداول العملة التركية بعد الانهيار المتتالي لليرة السورية، الذي تزامن مع فترة النزوح. وبسبب زيادة المصاريف وإيجارات المنازل أثناء تلك الفترة اضطر للعمل في مجال التمديدات الصحية والكهربائية.
يقول السويد: “ليس لدي أبناء يعولوا كبر سني، وهو ما اضطرني للعمل في التمديدات مع أحد الشبان، الذي ترأف بحالي، مقابل خمسين ليرة تركية في اليوم الواحد، فالراتب الذي أتقاضاه لم يعد كافياً لتسديد إيجار المنزل”.
انتهت الشهر الماضي بطاقة القبض التي يملكها السويد، شأنه شأن المئات من المتقاعدين الذين يحصلون على مستحقاتهم التقاعدية الشهرية عن طريق تلك البطاقة عبر الصرافات الآلية، التي يتم تجديدها كل ثلاث سنوات، بعد أن استودعوها مع أحد السماسرة المقيمين في مناطق النظام.
يقول السويد: “تواصل معي السمسار وأبلغني بانتهاء صلاحية البطاقة ووضعني بين خيارين: إما دفع مليون ليرة سورية نقداً أو التخلي عن راتبي لمدة سنة كاملة حتى يصبح فيها ذلك الرصيد الذي يستطيع من خلاله إعادة تجديدها”.
بالرغم من كلفة تجديدها البسيطة في حال وجود صاحب العلاقة، إلا أن معظم السماسرة يستغلون عدم قدرة المتقاعدين للذهاب إلى مناطق النظام وتجديد بطاقاتهم المصرفية بأنفسهم. وبحسب مصطفى رياض، أحد العاملين في تجديد تلك البطاقات، فإن سعر تجديد البطاقة يكون بناء على طلب القائم بتجديدها، وهو مبلغ “لا نستطيع مناقشته فيه، إذ أنه الشخص الوحيد القادر على تجديدها.”
يقول الرياض: “إن تجديد البطاقات يترتب عليه مسؤولية كبيرة، فخلال العام الماضي تم اعتقال ثلاثة موظفين وتوقيفهم حتى اليوم بعد اكتشاف تورطهم بتجديد بطاقات لأشخاص متقاعدين يقيمون في مناطق خارجة عن سيطرة النظام.
بحسب بيانات المؤسسة العامة للتأمين والمعاشات التابعة للنظام، فإن عدد المتقاعدين في سوريا يبلغ 750 ألف مستحق للمعاش التقاعدي، من ضمنهم 550 ألف حساب جار، و200 ألف دفتر معاش. ويصرف المعاش التقاعدي عبر ثلاث طرق هي حساب جار، صراف آلي، أو دفتر معاش تقاعدي.
يقول من التقيناهم إن متوسط رواتب المتقاعدين منهم شهرياً يبلغ خمسة وسبعين ألف ليرة سورية أي نحو ثماني دولارات تقريباً، وهو مبلغ لا يكفي لتأمين أبسط متطلبات حياتهم من طعام أو وصفة طبية، بحسب عمر ياسين، وهو رجل سبعيني متقاعد، أمضى أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً في مهنة التعليم، وانقلبت أوضاعه المادية رأساً على عقب خلال السنوات العشر الماضية، لا سيما السنوات الثلاث الفائتة التي بدأت فيها الليرة السورية تشهد تدهوراً متسارعاً.
يشكو ياسين من مرض الضغط، وزوجته مصابة بانزلاق فقرات في العمود الفقري وتحتاج إلى جلستي علاج فيزيائي في الأسبوع الواحد؛ سعر الجلسة الواحدة خمسة وسبعين ليرة تركية.
يقول ياسين: “كانت الأمور مستورة والراتب يكفيني أنا وزوجتي لعيش حياة متوسطة نوعاً ما في بداية تقاعدي قبل أحد عشر عاماً، إلا أن الظروف المعيشية بدأت تصعب شيئا فشيئاً، ولم يعد الراتب يكفيني لشراء وصفة دوائية لي ولزوجتي.”
قرر ياسين خوض تجربة العمل، بداية بانضمامه إلى مجموعة عمال في مجال العتالة، إلا أنه لم يمضِ في عمله أكثر من يوم واحد نتيجة عجزه عن القيام بتلك الأعمال الشاقة. فبحث عن فرصة عمل لدى أكثر من جهة، إلا أن الجميع رفض تشغيله خوفاً على صحته وخجلاً من وجوده بين صبية بعمر أحفاده.
يقول ياسين: “عرض أولادي الأربعة تقديم راتب شهري قدره 100 ليرة تركية من كل ولد منهم مقابل التوقف عن العمل، إلا أنني رفضت، فجميعهم عمال وليسوا بأفضل حال مني”.
انتهى المطاف أخيراً بالحاج عمر ليصبح بائعاً في أحد محلات الخضار، إضافة إلى مساعدة رمزية يقدمها أبناؤه له ليستطيع سد احتياجاته المعيشية.
بتاريخ 11 تموز/يوليو 2021 أصدر بشار الأسد مرسوماً تشريعياً رقم (19) يقضي بإضافة نسبة خمسين بالمئة إلى رواتب وأجور العاملين المدنيين والعسكريين في الدولة بما فيهم المتقاعدين.
تبع ذلك صرف منحتين لكافة العاملين في مؤسسات الدولة بمن فيهم المتقاعدين، الأولى كانت بتاريخ 22 آب/أغسطس 2022 ويبلغ قدرها 100 ألف ليرة سورية (نحو 9 دولارات بسعر الصرف الحالي) معفاة من ضريبة دخل الرواتب والأجور وأي اقتطاعات أخرى. والثانية كانت خلال العام الحالي بتاريخ 11 نيسان/أبريل 2023، فقد أصدر بشار الأسد مرسوماً يقضي بصرف منحة مالية لمرة واحدة بمبلغ مقطوع قدره 150 ألف ليرة سورية (نحو 13.5 دولاراً بسعر الصرف الحالي) لجميع العاملين بمن فيهم المتقاعدين.
الظروف المعيشية واستمرار تدهور العملة السورية واستغلال السماسرة، جميعها أسباب حرمت المتقاعدين من الراحة وألزمتهم البحث عن فرص عمل أخرى؛ وفي معظم الأحيان لا تتناسب تلك الأعمال مع كبر سنهم.