في المنطقة الصناعية بمدينة إدلب يفتتح عمار لاذقاني 43 عاماً منشرته صباح كل يوم ليعمل في نجارة الأخشاب (الموبيليا)، يتفحص محال تصنيع الموبيليا المجاورة له، باحثاً عن زبائن أو أصوات المناشر التي كان يضج بها المكان المخصص للنجارين.
عمار الذي يعمل بالمهنة منذ 30 عاماً، يشتاق لضجيج آلات تفصيل الأخشاب بعد الركود الذي شهده السوق خلال سنوات الحرب، فتغيرت أحوال الناس وظروفهم، ” حتى أن الناس أنفسهم تغيروا، معظمهم هاجر، وآخرون جلّ أحلامهم العيش بأمان فقط”.
ابن مدينة إدلب ورث المهنة عن والده الذي طوّرها ونوّع فيها بعد أن ورثها عن جده المختص بنجارة الأبواب والنوافذ، ويطلق عليه اسم (نجار عربي)، ثم طوّر الأبناء إرث الجدّ إلى تصميم المطابخ وغرف النوم وديكورات المنازل والمحال التجارية والمفروشات.
لكن الحرب جاءت لتضع عقداً في طريق المنشار، فتأثرت النجارة وساءت أحوال النجارين، وازدادت المنافسة فيما بينهم لكثرة عددهم، حالها حال الكثير من المهن، ويعبر عن ذلك بقوله: ” الحرب أكلت الكبير والصغير”.
تعتمد المهنة بشكلٍ أساسيّ على الأخشاب، التي كانت تتوفر من محافظتي اللاذقية وطرطوس أو من خلال استيرادها من لبنان بأسعار مقبولة، وتسببت الحرب بانقطاع الطرقات وتحول الاستيراد إلى طريق تركيا، فتضاعفت الأسعار واختلفت أنواع الأخشاب وجودتها.
بعد أن كان يسترق فرصة للاستراحة من العمل، صار عمار ينظر إلى معداته التي تنتظر جرعة كهرباء لتعمل، فأكثر آلةٍ يستعملها الآن هي مطرقة صغيرة والكثير من المسامير المركونة داخل علبة على طاولة خشبية كبيرة، فأغلب أعماله الآن هي إصلاح أثاث قديم، بعد توجه معظم الناس لشراء المستعمل أو إصلاحه فقط.
يعزو عمار سبب ركود السوق إلى التهجير الذي أثّّر على أصحاب المهنة، وذلك بسبب تجمّع أقرانهم في منطقة جغرافية صغيرة مما زاد المنافسة، أيضاً خسارة المهجرين لمنازلهم وتخوفهم من خسارة أخرى في حال ساءت الأوضاع واضطروا لترك كل شيء خلفهم.
يقول ” لم يعد باستطاعة المهجرين تحمّل خسائر إضافية، أهل المنطقة أيضاً خسروا أثاثهم في قصف سابق قد يتجدد طالما لم يتم التوصل لحل دائم، كما أن توفر الأبواب المستعملة لمن استطاع إخراجها قبل التهجير وبيعها بأسعار زهيدة ساهم بالإعراض عن التفصيل”.
لكنه يعتبر أن التأثير الأكبر كان بسبب منافسة الأبواب التركية من نوع (pvc) ذات الأسعار المنخفضة والمنظر الجميل إلا أنها رديئة الجودة، وهذا ما لا يجهله الناس إنما “صار همهم إغلاق باب يسترهم آخر النهار” يقول عمار مبرراً.
يَحمِِل النجارون همّ تراجع المهنة وعزوف عدد من أربابها عن العمل مما ينذر بتراجع المكانة التي اشتهر بها نجاروا سوريا سابقا، فبرأيه أن “ما يميز نجاراً عن آخر هو الحرفية والفنّ في التعامل مع الأخشاب”.
يعزز هذه المخاوف غزو غرف الجلوس والنوم التركية الجديدة (من الميلامين) والمستعملة للمنطقة، وتوجه معظم الزبائن لشرائها بدلاً عن المحلية لرخص ثمنها مقارنة بالتفصيل المحلي.
يُحمّلُ عمار السلطات مسؤولية الركود، ويطالبهم بحماية المهنة من خلال وضع قوانين تضبط الاستيراد على حساب المنتجات المحلية، مؤكداً أن ازدياد الطلب على المنتجات المحلية يساهم في حل مشكلة البطالة من خلال خلق فرص عمل للكثير من العمال.
فعلى الرغم من الركود يشغّل عمار في ورشته ستة عمّال بأجور متفاوتة حسب خبرة ونشاط كل عامل، يقول عمار: “لايوجد حد أدنى أو أعلى لأجور العمال، وحق العامل مهضوم مهما حاولنا إنصافه لأن صاحب العمل حقه مهضوم بالأساس”.
نتيجة المنافسة الشديدة في السوق يتعرض أصحاب المناشر للمساومة الشديدة من الزبائن، التي تضطره للقبول بأدنى الأرباح وإلا سيلجأ لآخر، فكثرة الأيدي العاملة بهذه المهنة وقلة الطلب على المنتجات الخشبية جعلت النجارين أصحاب المناشر يعملون بأدنى حد من المرابح.
بالرغم من حزنه على متضرري الزلزال، يتمسك عمار بالأمل، معتبراً أن السوق شهد تحركاً معماريا يبشر بفرص عمل لجميع القطاعات، فتحرك سوق البناء والعمارة سيجرّ أعمالا أخرى منها نجارة أثاث المنازل، خاصةً بعد تعاطف مغتربين ودعمهم لأقاربهم ومعارفهم المتضررين مادياً حسب قوله.
حرمت الحرب هذا القطاع من تحديث المعدات لعدم توفرها في الشمال السوري يقول عمار: “أكتفي بمتابعة القنوات المهتمة بنجارة الموبيليا لرؤية المعدات الحديثة التي أتمنى توفرها في حال تحسن سوق الموبيليا، فهي تساهم في سرعة الإنجاز ودقة النقوش والرسومات”.
رغم ذلك يفتتح عمار محله كل صباح، يفترش صور أعمال خشبية، يرسم، يخطط ويصمم، يقيس، ويفصّل، محاولا إظهار إبداعه بآلاته القديمة.