طرقات ترابية تصطف أشجار من الفاكهة على جنباتها، مياه عذبة صافية تتدفق من ينابيع تزدحم مسطحاتها بعائلات تبحث عن متنزه، نهرٌ يشق الجهة الغربية من قرية الباسوطة حوّله شح المياه وتوجيه مصبات الصرف الصحي إليه إلى ما يشبه المستنقع، قلعة ومدن أثرية تحيط بالقرية، مزارعون صبغتهم أشعة الشمس بالسمرة لكثرة ما انتظروا في حراسة بساتينهم خوفاً من تكسير أشجارها، مقصد سياحي شعبي تلاشت أهميته وفق الظروف الحالية وانتشار الحواجز وارتفاع الأسعار.
تمثل الباسوطة مقصداً سياحياً شعبياً، ومع اختلاف ما مرّ عليها من أيام جيدة وأخرى سيئة، إلا أن الإهمال وعدم الاستثمار السياحي بالشكل الأمثل، هما السمتان الأبرزان اللتان عنونتا تاريخ القرية التي تبعد عن عفرين نحو 12 كيلو متراً، ببساتينها التي تتمايز عن ما حولها من قرى وبلدات بتنوع منتجاتها واعتدال مناخها ووفرة مياهها.
يعيش في الباسوطة اليوم نحو 950 عائلة، منها 400 عائلة من المهجرين قسرياً، ويصل عدد أفرادها إلى نحو 5000 نسمة، تقطن 100 عائلة الخيام ضمن القرية، بحسب المختار رسول خليل.
تفتقر الباسوطة لاهتمام الجهات الرسمية باعتبارها موقعاً سياحياً جاذباً للمصطافين، وإن كان هذا الاهتمام في درجاته الدنيا سابقاً إلّا أنه تضاعف اليوم إلى أعلى مستوياته. خدمات قليلة وبنى تحتية هشة، بحسب الخليل، خاصة مع تحول نهر عفرين الذي يشكل حدود الباسوطة الغربية إلى نهر من الصرف الصحي بعد حبس مياهه في سد ميدانكي.
تضم الباسوطة أربعة متنزهات ومطاعم أغلقت جميعها باستثناء منتزه رأس النبع المنشأ بالقرب من نبع الباسوطة ذي المياه العذبة الغزيرة والبالغة 140 لتر/الثانية، ما منحه فرصة للاستمرار “على استحياء”، بحسب تعبير مالكه.
يقتصر العمل في المتنزه الوحيد داخل الباسوطة على أيام العطل والمناسبات، يقول مالكه إنه اضطر لصرف عمّاله والاعتماد على عائلته فقط لخدمة الزبائن. يرجع مالك المتنزه السبب بتراجع السياحة في المكان إلى فقر السكان بالدرجة الأولى، إذ تبلغ تكلفة وجبة غداء مكونة من “مشويات ومشروبات غازية وتوابعها” لعائلة مكونة من خمسة أفراد في مطعم الباسوطة الوحيد بين ثمانمائة وألف ليرة تركية، أي ما يعادل أجر عامل مياومة لـ 20 يوماً.
يرى مالك المتنزه أن الأسعار غير مرتفعة ويرجع المشكلة إلى “دخل العاملين المتدني جداً، إذ لا يقدر على دفع تلك التكلفة إلا نسبة قليلة جداً من الزوار”، يؤكد ذلك سليمان يوسف، زائر يلهو أطفاله بمياه النبع أمام متنزه رأس النبع، يقول “تنتهي حدود زيارتنا بلعب الأطفال في مياه النبع وتناول ما حضرناه من وجبات ضمن حدود قدرتنا المادية تحت أشجار بستان في الباسوطة”.
البساتين والمساحات الخضراء المجاورة لجداول المياه، وجهة القادمين إلى القرية للترويح عن أنفسهم، يحضرون ما يحتاجونه معهم ليوم كامل، ويرحلون تاركين مخلفات طعامهم في المكان.
ويستقبل أصحاب البساتين الزوار في أراضيهم، يسميهم أبو خضر “الضيوف”، لكن مشكلات كثيرة تواجه الرجل وأقرانه مع الزائرين، يقول “لا يفرّق الأطفال بين الثمار الناضجة وغير الناضجة، قد تسبب هذه الثمار نتيجة رشها بالمبيدات الأمراض للأطفال، عدا عن إهمال العائلات لأطفالهم وتركهم يلعبون ويكسرون أغصان الأشجار، ناهيك عن عدم تنظيف المكان، ما يضطرنا لحراسة البساتين بشكل يومي خلال أشهر الصيف”.
الخوف وقلّة الأمان، سبب آخر لتراجع السياحة، إذ تغيب عن القرية السهرات المسائية التي كانت عصب السياحة في الباسوطة التي باتت اليوم تنام قبل غروب الشمس.
قلعة الباسوطة تحولت من معلم أثري إلى مركز بلدية قبل الثورة، ثم إلى مقرّ للأحزاب الكردية حتى منتصف عام 2018، وإلى مقرّ لفصيل الحمزات منذ ذلك الوقت وحتى اليوم! كشأنها بذلك شأن أحد الجبلين المحيطين بالباسوطة، وأعلاهما من الجهة الشرقية يسمى “جبل الأحلام” نسبة إلى المنتزه الذي يحتلّ سفحه، وقد تحول بعد سيطرة الفصائل المدعومة تركياً إلى مقر عسكري لفصيل الحمزات.
تجاوزات يومية من عناصر الفصائل في الباسوطة على سكانها وقاصديها للسياحة، يقول من تحدثنا معهم “سلبت بساتين فاكهة بقوة السلاح دون أن نتجرأ على تقديم شكوى، اختطف أشخاص من القرية وطلب مقابل افتدائهم مبالغ مالية وصلت إلى خمسين ألف دولار، إضافة للمكتب الاقتصادي الذي يجبر السكان على دفع إتاوات موسمية أو شهرية”.
أربعة حواجز عسكرية تفصل بين مدينة عفرين و الباسوطة، أحدها يتبع للشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني في مدخل مدينة عفرين الجنوبي، والذي يعد أكثرها تشدداً في عمليات التفتيش وخاصة على الهويات التي يجب أن تكون صادرة عن مجالس عفرين المحلية ضمن مناطقها الخمسة (عفرين -جنديرس-بلبل -الشيخ حديد – شران) أو من قبل حكومة الإنقاذ في إدلب، إضافة إلى التأكد من أن كل الآليات التي تدخل أو تخرج من عفرين عبره تحمل لوحات صادرة من مصدر الهويات سابقة الذكر، والحواجز الثلاث الأخرى التي تقع على امتداد الطريق تتبع للفصائل العسكرية التي تسيطر على المنطقة إلا أن عمليات التفتيش فيها قليلة الحدوث.
يرى بعض من التقيناهم أن تلك الحواجز تمثل عائقاً أمام وصولهم إلى الباسوطة للتنزه، لما تطلبه من أوراق ولوحات مرورية، يقول مازن الخلف، مهجر من درعا، إن عدم تسجيل دراجته النارية لدى المجلس المحلي يمنعه من التنقل فيها خارج مدينة عفرين، “ما فيني أطلع على الباسوطة لأني أخاف يحجزوا ماتوري لأنه مو منمر”.
طرقات الباسوطة المحفرة رغم تعبيدها منذ سنتين، تشكل عائقاً أمام حركة التنقل، يقول من تحدثنا معهم “سريعاً عادت الطرق إلى سابق عهدها، نتيجة حركة سيارات الشحن المحملة عليها، إضافة لسوء التعبيد الواضح للعيان، خاصة وأن طريق الباسوطة أحد الطريقين الواصلين بين مناطق حكومتي الإنقاذ والمؤقتة”.
المحلّات التجارية في الباسوطة لا تتناسب مع المنطقة السياحية والتي من المفترض أن تحوي ما يحتاجه المصطافين، يقول حسام عبيد، مهجر من دير الزور يقطن الباسوطة منذ أربع سنوات ويعمل على بسطة لشواء اللحوم، إنه “لولا بسطات شواء اللحم ما كنت لتشعر أن هناك منطقة سياحية في الباسوطة”.
ويحصل سكان المنطقة على احتياجاتهم من بازار رئيسي يقام في أيام الثلاثاء من كل أسبوع، أو بالذهاب إلى مدينة عفرين للتسوق. أما الفاكهة فيحصل عليها المشترون طازجة من بسطات عند مدخلي الباسوطة الجنوبي والشمالي، والتي يعرض عليها أصحاب البساتين قسماً من منتجاتهم، بينما يرسل القسم الأكبر للبيع في سوق هال عفرين.
يعرض حسين علو جزء من محصول بستانه من المشمش على بسطة في مدخل الباسوطة الشمالي، تبدو معظم حبات المشمش ذابلة من أشعة الشمس وقلة المشترين، يقول: “تختلف الأسعار بين بداية الموسم ونهايته وحسب الكمية المعروضة منه تبعاً لنجاح الموسم، ولا يمكننا التنبؤ بالسعر فهو مرتبط بالعرض والطلب إلا أن انخفاض سعر الليرة التركية يسبب لنا خسائر في البيع، إضافة لقلة الطلب عموماً على الفاكهة من قبل معظم السكان”.
وتراجعت المساحات الخضراء والزراعة في الباسوطة، إذ كانت تشكل سبباً هاماً لمن يقصدها من الزائرين، سواء لشراء الفاكهة الناضجة أو التمتع برحلة بين أشجار الرمان والمشمش والدراق…
ويرجع من تحدثنا معهم سبب هذا التراجع لقلة المياه التي كانت تروي الأراضي الزراعية، خاصة من نبع الباسوطة الذي لم يعد يروي سوى ثلاثمائة هكتار فقط من المنطقة، بعد تراجع غزارته، أما مياه النهر فلا يعتمد المزارعون عليها اليوم بعد تحوّلها إلى مياه آسنة بفعل الصرف الصحي، وهو ما دفع سكان لحفر آبار ارتوازية في بساتينهم أثرت هي الأخرى على تدفق مياه النبع، وزادت من تكاليف الري لارتفاع أسعار الوقود.
يشتري سكان الباسوطة العائمة على الينابيع والنهر مياه الشرب المفلترة، بعد أن تحول حوض مركز النبع إلى مسبح للعائلات الزائرة، يضاف إليها عدم الاستجابة لنداءات الأهالي برصف مجراه، يقول الخليل: “عدم رصف مجرى مياه النبع يتسبب في هدر كبير لمياهه، ورغم تقديم دراسات لعدة منظمات بدعوى رصفه إلا أنها لم تنفذ إلى الآن، كما أن غزارة النبع انخفضت كثيراً في السنوات العشر الأخيرة جراء حفر الكثير من الآبار الارتوازية في أطراف البلدة ويبدو ذلك واضحاً بتغير لون مياه النبع عند حفر بئر جديد”.
يضاف إلى ذلك توقف مضخة المياه عن العمل، بسبب غياب وجود جهة تدعمها بالوقود والصيانة، ما اضطر الأهالي إلى شراء مياه الاستخدام اليومي عبر الصهاريج، يقول الخليل: “يمكن أن تتكفل بعض المنظمات بوقود المضخة وصيانتها أحياناً إلا أنها في غالب أيام العام لا تعمل”.
وتضم الباسوطة مدرسة ابتدائية وأخرى للمرحلتين الإعدادية والثانوية، إضافة لمركز صحي ومسجد يتوسط البلدة، وتفتقر المدرسة الثانوية للكوادر التعليمية إذ تم إيقاف طلاب المرحلة الثانوية الذكور عقب تطبيق الفصل بين الذكور والإناث، ورغم تقديم أهالي الطلاب شكاوى لتأمين كوادر تدريسية لتربية عفرين إلا أنه وخلال عامين لم يستجب لهم، ما دفع النسبة العظمى منهم لترك المدرسة.
ويقول أهال من الطلاب “يضطر من يرغب بمتابعة دراسته للانتقال إلى مدينة عفرين ما يعني تكاليف تنقلات متعبة و مرهقة مادياً، جراء عدم وجود خط سيرفيس دائم من وإلى عفرين،كما أن ذلك سيحرم الأهالي من مساعدة أبنائهم لهم في البساتين”.
مستوصف القرية يعمل بصورة متقطعة تبعاً للدعم من قبل المنظمات وغالباً ما تقتصر فيه الخدمات الصحية على الإسعافات الأولية رغم أنه يخدم الباسوطة وخمس قرى مجاورة لها ( الغزاوية و برج عبدالو وكفيرة و قرزيحل وعين دارة وكيمار) بحسب الخليل.
الإهمال والفقر وضعف الخدمات والحواجز وغياب الأمن جميعها مشكلات حوّلت الباسوطة من مقصد سياحي إلى مكان مهمل، يفترش القادمين إليه البساتين وضفاف الينابيع أملاً في الترويح عن أنفسهم، في رحلة يمرّون فيها بحواجز تفتيش ومئات الحفر على الطريق، ما يفرض تساؤلاً عن غياب الاستثمار في المكان من قبل الجهات المعنية وتخديمه بقصد السياحة.