منذ أزيد من ثلاث سنوات ونصف كان على محمد عبد الحميد أن يبدأ من الصفر بعد أن أجبر على ترك ورشة الخياطة التي يملكها في معرة النعمان مهجّرا مع آلاف آخرين إلى مدينة إدلب.
اليوم وبعد أن غيّر الزلزال حياة الجميع، على محمد أن يبدأ من جديد، مرة أخرى.
في أيامه الأولى بمدينة إدلب عقب التهجير، كان حبّ هذا الخياط لمهنته وتفانيه في العمل سبباً في نجاحه السريع، إذ سرعان ما تمكن من مدّ خيوط الثقة مع جيرانه وزبائنه، فشهد محله انتعاشاً.
يقول محمد “كان المكان مناسباً لجذب الزبائن إذ تتوفر فيه المعدات اللازمة لأي خياط، وأنا لدي الخبرة والمهارة اللازمتين، وبذلك توفرت كل المقومات التي تساعد على إنجاح المشروع”.
لكن الزلزال الذي دمر مئات المباني والمنشآت في الشمال السوري قضى في الوقت نفسه على كثير من المشاريع الناشئة وعلى أحلام محمد، فمن ذاك الذي سيفكر بخياطة قميص أو بنطال أو فستان خطوبة وعدّاد القتلى يدور؟
حتى على الصعيد الجسدي بدأ محمد يلحظ تغيرات تحصل على قدراته الذهنية وبالتحديد على ذاكرته التي تأثرت بشكل كبير، وكأن شقوق الجدران ابتلعت جزءاً منها.
في الأيام الأولى من وقوع الزلزال لم يعد يتذكر طلبات الزبائن، كان ينسى أسماءهم أحياناً، “كان الوضع صعباً على الجميع، ربما هم نسوني أيضاً” يقول ضاحكاً.
يعزو محمد سبب تراجع ذاكرته إلى الضغوط النفسية التي تعرض لها، فقد أمضى ساعات من نهار السادس من شباط (فبراير) وأعصابه تحترق بينما فرق الدفاع المدني تنتشل قضبان الحديد وترفع الحجارة والكتل الخراسانية التي انهارت فوق منزل أهله الطابقي، كانوا يفتشون بين الأنقاض محاولين العثور على أسرة شقيقه وعلى أبيه المسنّ، وفي النهاية وجدوهم.. لكن ميّتين.
الخوف من الحجارة الكبيرة ومن الشقوق التي غزت جدران المدينة لازمه طوال الأسابيع الأولى وأجبره على الابتعاد عن المحل معظم الوقت، “هناك أسباب للخوف.. لكن بعد الزلزال صار الخوف رفيقاً ملازماً لنا”.
تدريجياً تعود ذاكرة محمد اليوم إلى وضعها السابق، صار يتقبّل ما حصل، يتصالح مع فكرة أن الكثيرين ماتوا، وأكثر منهم من عليه أن يبدأ من جديد، يحاول إنقاذ ما تبقّى، يتمسّك بابتسامة تطفو طوال الوقت على وجهه وكأنه رسمها بإبرة خياطة، لا نعلم حقاً إن كانت ابتسامة من القلب أم أنها فقط سبيلٌ لمواصلة العيش.
يصف محمد مهنة الخياطة بالبحر، ويبدو دوماً مستعداً للسباحة، يؤكد أنه قرر منذ البداية ألا يقيّد نفسه بالخياطة لجنس أو عمرٍ محدد، فهو يجيد الخياطة للرجال والنساء والأطفال، كما أنه قرر منذ البداية ألا يخصص جهوده للطبقة الميسورة من الناس، فمعظم زبائنه هم من الفقراء الذين يجلبون الألبسة المستعملة ويطلبون منه تقصير هذا وتطويل ذاك.
أما الكوي فيقول إنه إحدى الخدمات الأربع، بالإضافة إلى الغسيل والصباغة والخياطة، التي يقدمها محله، ويعتبر أن الكوي بخلاف الخياطة يكون في الغالب لميسوري الحال.
رغم كل التحولات التي تحصل مع الرجل، والدمار المحيط بمحله، إلا أن هناك ضوء يظهر من خلف الشقوق، فعيد الأضحى يقترب، والطلب بدأ يزداد على المحل، وهذا يعني أن الزبائن ما زالت تتذكره، أو ربما عادت ذاكرتهم إليهم من جديد. “بدأ الزبائن يقصدونني لتعديل ملابسهم الجديدة أو المستعملة” يقول محمد، مشيراً بيده إلى كومة من الثياب تنتظر التعديل في إحدى أركان المحل.
يعلق أيضاً آمالاً على الأشهر القادمة، ربما تستقر ظروف الناس قليلاً، يستوعبون صدمة ما حصل، يواصلون المعيشة وكأن شيئاً لم يكن، “ربما أيضاً مع حلول فصل الخريف ينتعش قسم الصباغة في محلي، وبخاصة المعاطف التي يصعب شراؤها نتيجة غلاء أسعارها، أستطيع إعادة المستعمل منها بعد الصبغ والكوي والغسيل وكأنه قطعة جديدة”، يستسرسل في التفكير في مستقبل محله الصغير.
الكهرباء تبقى أكبر التحديات التي تواجه مهنته، إذ مر توفيرها بمراحل بدأت مع الاشتراكات، ثم كان عليه تأمين مولدة خاصة فترتّبت عليه تكاليف مضاعفة، أما الآن فيقول محمد إن الكهرباء تتوفر بشكلٍ دائم، إلا أن ارتفاع أسعارها ينعكس على الزبائن، وانقطاعها يجبره على الاعتذار منهم أحياناً.
في الأسواق، تتوفر أيضاً معدات الخياطة كاملة كالخيوط، والأقمشة، والمقصات، وأدوات الكوي، والإكسسوارات، إلا أن تأمين مواد التنظيف وإزلة البقع ذات الجودة العالية هي مشكلة أخرى تواجه محمد.
يشرح أن جودة مواد التنظيف والأصباغ تختلف عن السابق، كان من السهل تأمينها من حلب أو الشام والآن يصعب الحصول عليها بسبب انقطاع الطرق، “كيف سأزيل كل هذي البقع؟” يسأل، ممشطاً بنظره قطعة ملابس مستعملة يبدو أن عليه تنظيفها من الأوساخ التي علقت بها.
لتحسين ظروف عمله يأمل محمد بتحديث معداته التي تخدمه منذ عام 2006 أو تعديلها، يقول: “بسبب عدم امتلاكي ماكينة الرشة للقطع القطنية أتحايل على الوضع باستعمال ماكينة الدرزة لتدوير وإصلاح القطنيات”.
يمضي محمد يومه في التحايل على صعوبات المهنة وفي تدوير الزوايا الحادة، لكن عندما يهدأ صوت ماكينة الخياطة في محله، ويفرغ المكان من الزبائن، ينظر إلى كل ما هو حوله، ينتابه حنين غريب لمدينته معرة النعمان، وكأنه طفل صغير يريد العودة إلى بيت أهله. “تأقلمت مع الحياة في إدلب، الناس هنا طيبون، إلا أنّ العودة للمكان الذي ولدت ونشأت وتربيت فيه، هو أكبر أمنياتي”.