نصف ساعة من السير في شوارع مدينة جنديرس لم تسعفنا برؤية أي ملمح لأزياء عرائسية على واجهات المحلات. إلى أن وجدنا ضالتنا أخيراً في شارع يلانقوز: “ملكانات” عرائس ببدلاتها الزاهية تزين واجهة المعرض الوحيد لأزياء العرائس في السوق، تيجان، باقات ورد، وأضواء ملونة، لكن دون أي مشهد للزبائن، لا عرائس ولا نساء يملأن المكان كما في مساءات صيف العام الفائت.
غاب الفرح عن المدينة المنكوبة، بعد الزلزال الذي ضرب جنديرس في شباط/ فبراير الماضي، وغابت معه حفلات الزفاف التي أصبحت شبه نادرة، فكثير من الناس منكوبون بأقارب فقدوهم، لوحدها جنديرس فقدت نحو 1100 شخص من سكانها، وأصيب فيها مئات المواطنين من أصل 115 ألف نسمة كانوا يقطنونها قبل الكارثة، إضافة لتهدم أكثر من 278 مبنى، وتضرر حوالي 1110 مبنى آخر.
يخبرنا اسماعيل أبو محمد 49 عاماً، صاحب معرض أزياء العرائس، أن تجارته تأثرت كثيراً بعد الزلزال، إذ يبيع حالياً نحو 3 بدلات شهرياً بعد ما وصفه بـ “الكارثة”، في حين كان يبيع قبلها نحو 15 بدلة في الشهر الواحد.
لم يسلم معرض أبو محمد من الدمار؛ ما اضطره إلى إصلاحه على نفقته الخاصة. ويواجه اليوم مشكلة إضافية، بعد أن أصبح شحن بدلات العرائس صعباً. يقول: “كنت أشحن بضاعتي من دمشق وحلب بسبب غلاء البضاعة التركية. في كل مرة كنت أشتري نحو 10 بدلات. تبلغ أجور الشحن 75 دولاراً. الآن لا أستطيع أن أشحن إلا 3 بدلات. وبالمقابل لا يوجد إقبال على الشراء”.
“كوشة العروس” وتأجير البدلات
يتراوح سعر بدلة العروس ما بين 75 و150 دولاراً، لذا تلجأ كثيرات إلى استئجار ثوب الزفاف، إذا يتراوح أجر البدلة من 15 إلى 50 دولاراً. يقول أبو محمد: “بعد تأجير البدلة مرة أو مرتين خصوصاً البدلات الثمينة، نستطيع بيعها بأقل من سعرها اللازم بعد إبلاغ الزبون، ما يسهل عليه شراءها”.
إلى جانب بدلات العرائس يعتمد معرض الأزياء بشكل أساسي على ما يُعرف بــ “كوشة العروس”، وهي بحسب ما تشرحه ناريمان، 40 عاماً، زوجة صاحب المعرض وبائعة فيه، تجهيز “صمدة” العريسين بالزينة المختلفة، ويبلغ أجرها 50 دولاراً، وتشهد بعض الإقبال من سكان المدينة المهجرين من محافظات أخرى، وتعد مصدر رزق مهم للمعرض.
خسائر مادية كبيرة بدون تعويضات
محمود الخليف، صاحب معرض أثواب زفاف وأحد سكان جنديرس الأصليين. خسر نحو 40 ألف دولار في انهيار معرض ألبسة آخر له في شارع السوق، يعتبر أن كارثة الزلزال كانت ثقيلة مادياً على السكان. يقول: “معرضي الأول في السوق انهار بالكامل، أما هذا فكانت أضراره قابلة للإصلاح، لكن كل ذلك احتاج مبالغ كبيرة، ولم يكن لدي الوقت للانتظار، كان يجب أن يجهز قبل موسم العيد الماضي، فموسم العيد مهم لنا”.
زارت منظمات لاحقاً معرض اسماعيل ومعرض محمد، وكانت النتيجة واحدة “لا يمكن تعويضهما بشيء”، فسياسة المنظمات أن تُصَلح بنفسها، وأن يكون الضرر ما يزال موجوداً، وكونهما أصلحا معارضهما بنفسهما فلا يمكن تعويضهما.
أخبرنا الخليف أن موظف المنظمة قال حرفياً: “روتين المنظمة لا يسمح”، ويتساءل ماذا يفيد الروتين من خسروا أرزاقهم، وهل ينبغي أن يكون الروتين عائقاً في مساندة المتضررين، لذلك “نقاوم واقعنا بما نستطيع، وطبيعي أن يتأثر كل شيء والزيجات أولها، فهي كانت مكلفة ما قبل كارثة الزلزال، فما بالك بعده”.
تكاليف الزواج
ترى سهام (اسم مستعار) سيدة من جنديرس وزوجة محمود الخليف، تعمل في معرض زوجها، أن نسب الزواج في المدينة انخفضت إلى حد واضح بعد الزلزال، تقول: “قبل الكارثة كانت لدينا 3 أعراس بالأسبوع، أما الآن من النادر أن يقام عرس، فخسائر الناس كانت كبيرة بالزلزال، وتكاليف الزواج لدينا باهظة مقارنة بالقدرات المادية. فأنا بلغت تكاليف زواجي نحو 12 ألف دولار منذ ثمان أعوام بدون ثمن البيت”.
يكلف الزواج في جنديرس من 4 إلى 5 آلاف دولار، بحسب تقديرات اسماعيل وزوجته ناريمان، موزعة على “تلبيسة ذهب بقيمة 1500 دولار كحد أدنى، وأثاث بيت بقيمة 1500 دولار أخرى، عدا غرفة النوم التي تكلف نحو 600 دولار، يضاف إليها تكاليف الخطبة والعرس التي تصل لـ 1000دولار”.
الزواج وعوائقه
من ناحية أخرى، فإن التمسك بفكرة امتلاك بيت كضرورة لا يتنازل عنها العديد من سكان المدينة، من الأسباب التي تعيق الزيجات، وتثقل كاهل الخاطبين في ظل غلاء المساكن وندرة توفرها بعد الزلزال، إذ قد يحتاج الخاطب لخمسة آلاف دولار أخرى فما فوق ثمناً لمنزل.
ناريمان من النساء المتمسكات بضرورة امتلاك بيت. فبالرغم من تضرر عملها بتجارة أزياء العرائس من قلة الزيجات، إلا أنها لم تتقبل فكرة التنازل عن البيت، وعند نقاشنا لها عن إمكانية الزواج في بيت مستأجر وأن الحرب لها ظروفها، تبسمت وقالت:” أنا لدي بنت وحيدة لا أقبل أن أزوجها بدون (حوش) ملك. ولدي ولدان أحدهما بسن الزواج وأتمنى تزويجه، لكن الظروف المادية لا تسمح. أعلم أن زواجه سيكون مرهقاً لنا، وأناقش زوجي دوماً بكيفية تدبير الأمر، لكني مقتنعة بفكرة امتلاك المسكن”.
قد تُكسر قاعدة توفر بيت ملك إذا كان هناك حب وقرابة، وتوافق على تجاوزها. وقد تنخفض تكاليف المهور والزواج لمبلغ الـ 3500 دولار كحد أدنى لدى المتجاوبين مع التسهيل على الخاطب، لكن فكرة التمسك بالبيت الملك عند المقتنعين بها تتسبب بوجود شبان وفتيات تجاوزوا عمر الثلاثين بدون زواج، بحسب ما عرفنا من بعض سكان المدينة.
ختمت ناريمان كلامها ضاحكةً: “برأيي نحن مقتنعون بضرورة امتلاك البيت أولاً، ولتكن الزوجة مكلفة حتى لا يفكر الزوج بتعدد الزوجات، عندما تكون الزيجة خبطة ثقيلة على الزوج لا يفكر أبداً بتكرارها.”