“خلّيا لبعد الانتخابات” عبارة سئِمت فاطمة ياسين سماعها من زوجها، حين كانت تطلب منه تجديد أثاث المنزل، وأصبحت هذه العبارة أصبحت أشبه بمتلازمة أثرت على نفسية السوريين في تركيا، وجعلتهم يعيشون حالة تخبّط وعدم استقرار قبيل الانتخابات، ما دفعهم لتأجيل تنفيذ أي مشروع أو مخطط، لحين انتهاء السباق الرئاسي.
ومع انتهاء الانتخابات في تركيا، وفوز رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية جديدة، تنفّس بعض السوريين الصعداء، وشعروا بنوع من الاستقرار النسبي، وعادوا لتنفيذ مخططاتهم التي أجلوها سابقاً، خوفاً من فوز المعارضة التي كانت تتوعد بترحيل السوريين.
لكن في المقابل يعتقد قسم آخر من السوريين في تركيا، أن فوز أردوغان بالرئاسة، لن يمنحهم الشعور بالاستقرار، والتعويل عليه سيكون مجرد آمال معلّقة في الهواء، لاسيما أنه توعد في خطاب النصر بإعادة مليون سوري بشكلٍ “طوعي” إلى بلدهم.
الأوراق الثبوتية تمنح الأمان
عاش السوريون، خلال السنوات الأولى من وجودهم في تركيا، وضعاً مستقراً، في ظل تراخي الحكومة التركية معهم، لكن تصاعد خطاب الكراهية ضد اللاجئين، وتزايد الضغوطات على أردوغان، اضطره لإطلاق حملة ترحيل ضد المخالفين.
حملة الترحيل بدأت في إسطنبول منتصف عام 2019، إذ أمهل السوريون الذين يحملون بطاقات الحماية المؤقتة (كمليك) المسجلة في ولايات أخرى، شهراً واحداً للعودة إلى مناطقهم، ومع انتهاء المهلة بدأ ترحيل المخالفين بشكلٍ مكثف.
حملات الترحيل انتقلت لاحقاً إلى جميع الولايات التركية، وتصاعدت حدتها أكثر، إذ رحّل من لا يملك “كمليك” إلى سوريا، وطال الترحيل بعض حاملي الـ “كمليك” من المخالفين الذين يفرض القانون ترحيلهم إلى ولاياتهم لا إلى سوريا.
وتحدثت تقارير إعلامية أن معظم عمليات الترحيل التي طالت المخالفين، وحتى من رُحلوا إلى سوريا رغم حيازتهم أوراقاً ثبوتية، تم إعادة بعضهم مجدداً إلى تركيا.
تقول فاطمة ياسين لاجئة سورية تقيم في إسطنبول: “بعد فوز أردوغان في الانتخابات، شعرنا ببعض الاطمئنان، وقررنا العودة لحياتنا الطبيعية، بعد حالة التخبّط التي عشناها في الفترة الماضية، وبدأنا بتجديد أثاث المنزل”.
تضيف فاطمة لموقع فوكس حلب: “ما جعلنا نشعر بالأمان نوعاً ما، أن أردوغان أكد مراراً أنه لن يُرحّل السوريين بالقوة، كما أننا نحمل كمليك نظامي، وقمنا بتثبيت عنوان السكن، لذا نعتقد أنه لن يتم ترحيلنا طالما لم نرتكب أي مخالفة، وسنكمل حياتنا هنا في تركيا، ريثما يسقط الأسد، ونستطيع العودة إلى بلدنا”.
عمران شاب سوري يقيم في ولاية هاتاي، له نفس رأي فاطمة، فامتلاكه لأوراق ثبوتية نظامية، يشعره بالأمان والبقاء في تركيا على المدى المنظور، إذ ليس لديه قدرة على دفع تكاليف السفر بشكل غير شرعي إلى أوروبا، ولا يستطيع العودة إلى سوريا.
مشكلة حقيقية تدفع سوريين للرحيل
فوز أردوغان أو خسارته، لم يكن المشكلة الأساسية بالنسبة لبعض السوريين، بل ما كان يهمهم، هو تحسّن الوضع الاقتصادي في تركيا، لكن الليرة التركية كانت تواصل التدهور يوماً بعد يوم، ما أدى إلى ضعف القدرة الشرائية، في ظل غلاء الأسعار بشكلٍ جنوني.
كثر من السوريين بدؤوا يخططون للسفر إلى أوروبا بأي طريقة أو العودة لسوريا، لاسيما مع انهيار الليرة التركية خلال الأيام الماضية، حيث قاربت حاجز 24 ليرة أمام الدولار، وسط توقعات أن تصل إلى 28 ليرة في نهاية العام، وفق ما أفاد بنك “غولدمان ساكس” الأمريكي.
يقول “زياد” لاجئ سوري في إسطنبول: “قبيل الانتخابات كان همنا الأول من سيكسب السباق الرئاسي، لكن رغم فوز أردوغان فلن تنتهي مشاكلنا، حيث برزت مشكلة حقيقية، وهي تراجع الليرة التركية بشكل متسارع”.
يضيف زياد: “أصبح من الصعب على كثير من السوريين البقاء في تركيا، إذ أن تكلفة المعيشة لعائلة متوسطة، تصل إلى 20 – 25 ألف ليرة تركية شهرياً، بينما يتراوح متوسط الرواتب بين 10-15 ألف ليرة، لذلك أفكر بالعودة الى إدلب، كوني لا أملك تكاليف السفر الى أوروبا، حيث يتقاضى المهربون أكثر من 10 آلاف دولار على الشخص الواحد”.
ما يزيد رغبة السوريين أيضاً في التفكير بترك تركيا رغم فوز أردوغان، الغلاء الكبير الذي طال إيجارات المنازل، والتي يتراوح المتوسط فيها بين 5 إلى 10 آلاف ليرة، وقد تصل إلى 20 ألف ليرة في بعض الولايات، أي أن إيجار المنزل يعادل راتب موظف، عدا فواتير الخدمات الأساسية، وباقي تكاليف الحياة من طعام وشراب ولباس ومواصلات.
“العنصرية تخنقنا”
الخطاب العنصري ضد اللاجئين السوريين، سبّب لهم مضايقات وتوتر طوال السنوات الماضية، لكن الكارثة أن هذا الخطاب تصاعد جداً عقب انتهاء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية.
كمال كليجدار أوغلو مرشح المعارضة، ركز حملته الانتخابية بشكلٍ أساسي على الخطاب العنصري، ونشر لافتات طرقية تطالب بترحيل السوريين، ما خلق حالة من الكراهية لدى شريحة واسعة من الأتراك ضد السوريين.
أم معتز، لاجئة سورية في ولاية أنقرة، بدأت تفكر جدياً بمغادرة تركيا، حيث اشتكى ابنها مراراً من المضايقات من قبل أقرانه الأتراك في المدرسة، إضافةً لتعرضها هي وزوجها للعنصرية في السوق أكثر من مرة، تقول: “العنصرية باتت تخنقنا، بكل معنى الكلمة”.
تضيف أم معتز: “أصيب طفلي بأزمة نفسية، ولم يعد يرغب بالذهاب إلى المدرسة بسبب العنصرية التي زادت مؤخراً ضده من قبل زملائه، ورغم تقديمي أكثر من شكوى لإدارة المدرسة، لكنها لم تتخذ أي إجراء بحق الطلاب المتنمرين”.
نقلت أم معتز نقلت إلى مدرسة أخرى، لكن الواقع ازداد سوءً، حيث واجه العنصرية من الطلاب والمعلمة أيضاً. المشكلة الأكبر أن أم معتز لا تستطيع تسجيل ابنها في المدارس العربية الخاصة، بسبب تكلفتها الباهظة والتي تصل إلى 3500 دولاراً في السنة”.
لم تقتصر العنصرية على توجيه الإساءات اللفظية، بل وصلت إلى حد ارتكاب جرائم قتل بحق عشرات السوريين، وكانت تزداد أكثر مع تصاعد خطاب الكراهية من قبل أحزاب المعارضة، ما جعل سوريون يقررون الرحيل عن تركيا أو يفكرون في ذلك، حتى رغم فوز أردوغان بالرئاسة.
مؤشرات تنذر بالخطر
شعر السوريون بالخوف على مستقبلهم، بعدما أعلن أردوغان عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية، أن حكومته تعمل على إعادة مليون لاجئ سوري إلى بلادهم “طوعاً” خلال سنواتٍ قليلة، مشيراً إلى أن 600 ألف شخص عادوا إلى “المناطق الآمنة” في سوريا حتى نهاية الشهر الماضي.
يقول الصحفي أحمد خورشيد لموقع فوكس حلب: إن “المؤشرات على بدء تنفيذ خطة ترحيل السوريين بالتعاون مع قطر، برزت بالفعل بعد سحب الجنسية التركية من السوري ماهر الدغيم وترحيله الشهر الماضي إلى الدوحة ومنها إلى دمشق، إضافةً إلى تصريح وزير الخارجية السابق مولود جاويش أوغلو، حول إمكانية ترحيل السوريين أيضاً إلى مناطق النظام بالتنسيق مع الأسد”.
وبرزت مؤشرات سابقة تنذر بمستقبل خطير يهدد السوريين، وعلى رأسها اللقاءات التركية السورية المتواصلة، من أجل تطبيع العلاقات بين البلدين برعاية روسية.
وما يزيد فرص هذا التقارب تعيين رئيس الاستخبارات التركية السابق، هاكان فيدان، الذي لم يقطع اتصالاته مع استخبارات النظام، وزيراً للخارجية، وامتناع الرئيس التركي عن ذكر جرائم الأسد في خطاباته كما كان يفعل سابقاً، وفق ما ذكر خورشيد.
من الأمور التي تهدّد مستقبل السوريين أيضاً، استمرار المعارضة التركية في تحريض الأتراك على اللاجئين السوريين ونشر أخبار مزيفة عنهم، إضافةً إلى إجبار الموقوفين في مراكز الاحتجاز على توقيع ورقة العودة الطوعية وترحيلهم بعد ذلك.
وتوقع خورشيد أن “تطال عمليات الترحيل خلال الفترة القادمة، بشكلٍ مكثف السوريون الذين لا يحملون أوراقاً ثبوتية أو ارتكبوا أي مخالفات، وربما تستهدف العازبين، بينما من المستبعد أن تطال عمليات الترحيل العائلات السورية التي لديها أطفال في المدارس التركية”. في المقابل يرى آخرون أن حديث أردوغان حول إعادة مليون لاجئ سوري إلى بلدهم، مجرد تصريحات إعلامية، لتخفيف الاحتقان الشعبي ضد الحكومة التركية.
بدوره أفاد الصحفي المختص في الشأن التركي، محمد طاهر أوغلو، أن “التركيز سيكون أكثر على مسألة تسهيل عودة جزء من السوريين في تركيا، لا سيما قبيل الانتخابات البلدية التي من المفترض أن تجري مطلع عام 2024”.
طوق نجاة
غموض مستقبل اللاجئين، دفع سوريون للتقديم على الجنسية التركية، التي أصبحت طوق النجاة الأخير بالنسبة لهم، لضمان الاستقرار وتأمين مستقبلهم. ويبلغ عدد السوريين الحاصلين على الجنسية التركية، 230 ألفاً و998 شخصاً، من أصل 3 ملايين و 426 ألفاً و719 لاجئاً سورياً يعيشون في تركيا بموجب الحماية المؤقتة، وفق آخر إحصائية ذكرها وزير الداخلية التركية السابق، سليمان صويلو.
وكانت تركيا أوقفت ملفات التجنيس خلال الفترة الماضية، بعد تصاعد الاتهامات من قبل أحزاب المعارضة، بأن حزب العدالة والتنمية الحاكم يسعى إلى تجنيس أكبر عدد ممكن من السوريين لكسب أصواتهم في الانتخابات.
لكن عمليات التجنيس عادت بعد انتهاء الانتخابات، حيث رصد موقع فوكس حلب، عشرات السوريين على منصات التواصل الاجتماعي، أبلغوا عن تلقيهم رسائل ترشيحهم إلى الجنسية.
يقول لؤي غادري، سوري مقيم في ولاية بورصة، إنه أرسل طلب الترشح للجنسية إلى أنقرة ثلاث مرات دون جدوى، وفي المرة الرابعة وصلته رسالة الترشح، ناصحاً السوريين بعدم اليأس والاستمرار في إرسال الطلبات، مع ضرورة كتابة العريضة (الديلكشة) بشكل متقن عبر استشارة محامين مختصين.
رغم تأكيد الحكومة التركية أن عودة اللاجئين لن تكون قسرية، لكن ذلك لم يُدخل الطمأنينة لأغلب السوريين، لاسيما أن سنان أوغان مرشح تحالف الأجداد، ربط تأييده لأردوغان في الانتخابات بجملة شروط؛ أبرزها إعادة اللاجئين إلى بلدهم بأي شكل، إضافةً إلى أن أي تقارب بين أنقرة ودمشق، سيُفضي إلى إعادة السوريين إلى بلدهم، ما يدق ناقوس الخطر بالنسبة للاجئين.