تسبّب الحفر الجائر وغير المدروس للآبار الارتوازية (السطحية) بجفاف أو نزوح مياه كثير من الآبار التي يعتمد عليها بريّ المحاصيل الزراعية في ريفي حلب الشمالي والشرقي، يضاف إلى ذلك شحّ الأمطار في السنوات الثلاث الماضية، ما دفع مزارعون للبحث عن بدائل بحفر آبار جوفية عميقة، أو ما يطلق عليها الآبار البحرية رغم ما تسببه من أضرار لاحقة على التربة الزراعية في المنطقة، قد يصل حدّ خسارتها.
تمتاز الآبار البحرية بمستوى منسوب مياه ثابت لا يتأثر بالعوامل الجوية أو كميات الاستجرار إضافة لغزارتها، ويكمن الخطر الأكبر في الآبار الجوفية العميقة أو الآبار البحرية في مياهها الكبريتية.
ويقول الخبير الجيولوجي ثابت كسحة “إن المياه الجوفية نوعان: مياه عذبة نقية صالحة للشرب لا تحتوي على ملوثات، وفي حال وجدت يكون نتيجة اختلاطها بالمياه السطحية عند اختراق الطبقة الصخرية الكتيمة الفاصلة بين المياه السطحية والجوفية، ومياه كبريتية تنتج خلال انحلال توضّعات الكبريت الموجودة بين الصخور بالمياه ما يرفع درجة حرارة المياه إلى أكثر من 40 درجة وقد تصل في بعض الأحيان إلى 60 درجة، بحسب التوضّعات الكبريتية الموجودة”.
ويفرّق كسحة بين نوعين من المياه الكبريتية، الأول يحتوي على غاز كبريت الهيدروجين ضمن الصيغة الجزيئية (H2S)، وهو غاز طيار غير سام، يمكن التخلص منه بنسبة تصل إلى أكثر من 80 %، وذلك من خلال ضخ المياه الكبريتية إلى أحواض تبريد وتركها لعدة ساعات حتى تطاير غاز الهيدروجين في الهواء، ويمكن استخدام المياه لري المزروعات.
أما النوع الثاني فيحتوي على توضَعات الكبريت وهو الكبريتات (SO4)، ويكون لون المياه فيه مائلاً للسواد وغير صالحة للاستخدام الزراعي، لما تتركه من آثار لاحقة، وبشكل كبير على التربة الزراعية وتحويلها إلى حبيبات ناعمة جداً تشبه الطحين، ويمكن استخدامها بعد معالجة الكبريت في محطات مخصصة.
ويتراوح عمق الآبار البحرية بين 700 و900 متراً، تختلف من منطقة إلى أخرى، فيما ترتفع المياه داخل البئر إلى مسافة نحو 500 متر، يوضع بعدها الغطاس المخصص لاستجرار المياه من المسافة المتبقية، وتضخّ إلى “برك” مخصصة، إذ تكون المياه ذات لون فضي تحتوي على نسبة تصل إلى 15 % من الكبريت وبدرجة حرارة تتراوح بين 30 و40 درجة، وبعد تبريدها وركود المياه وتطاير الكبريت يتم ضخها للمشاريع الزراعية، بحسب كسحة.
وتحوي الآبار البحرية على كلا النوعين من المياه بنسب متفاوتة، يقول الجيولوجي فواز الجواد، مؤكداً أن هناك أضرار مختلفة في التربة والمحاصيل الزراعية يسببها النوع الأول تظهر على شكل اصفرار في أوراق النباتات أو لون الصدأ، يمكن معالجته بالمبيدات، لكن لا يمكن معالجة التربة التي ستحتاج بعد سنتين أو ثلاث سنوات إلى حراثة عميقة، بـ “الديسك”، وتعني تقليب التربة بعمق 40 إلى 50 سنتيمتراً، وبعد سنوات أخرى ستفقد التربة كثيراً من خصائصها ما سيتسبب بخسارتها كتربة صالحة للزراعة.
ويضيف الجوّاد أن هذه الآبار قد تكون حلّاً لتأمين المياه اللازمة للري، شريطة معالجتها قبل الاستخدام، وبوجود تكاليف باهظة لهذه المعالجة ينبغي أن تتبنى مثل هذه المشاريع المديريات المختصة المحلية أو المنظمات الزراعية الدولية، مؤكداً ضرورة وجود قوانين ودراسات تحكم حفر هذه الآبار بعيداً عن الفوضى المتبعة حالياً، تجنباً لتكرار ما أحدثه الحفر الجائر للآبار الارتوازية سابقاً في المنطقة، والتي قدّر أعدادها بالآلاف، على نزوح المياه الجافية واضطرار المزارعين لحفر آبار جديدة لري محاصيلهم.
يقول عبد الباسط كوسا، مزارع أنهى منذ أسابيع حفر بئر بحري ضمن أرضه الزراعية في مدينة مارع، إنه قرر خلال العام الماضي حفر بئر جديد بالقرب من منشأته الزراعية بحثاً عن المياه الجوفية العميقة، بعدما شحّت مياه الآبار القريبة التي يصل عمقها إلى 120 متراً كحد أقصى، ولم تعد تغطي حاجة المشاريع الزراعية من مياه.
وأضاف: “أن عدداً من المزارعين في المنطقة حفروا آباراً بحرية يصل عمق بعضها إلى 800 متر بحثاً عن المياه الجوفية العميقة، واستطاعوا استخراج المياه من الأرض، لكنها مياه كبريتية، تختلف نسبة الكبريت فيها بين منطقة وأخرى”.
ويرجع الكوسا سبب توجه المزارعين لحفر الآبار البحرية إلى جفاف ونزوح الآبار الجوفية أو انخفاض منسوب المياه فيها ما اضطرهم للبحث عن بدائل من شأنها تغطية احتياجات المحاصيل الزراعية للمياه.
ويقول المهندس يوسف الحجي، مدير وحدة مياه مارع، إن “منسوب المياه في الآبار الجوفية يتراجع بنسبة 20% خلال فصلي الصيف والخريف، ما يزيد من تفاقم أزمة المياه سنوياً، خاصة مع تزايد الاستهلاك نتيجة الاكتظاظ السكاني في المنطقة بعد حملات التهجير والنزوح التي عايشها السوريون”.
وأضاف: “أن حفر الآبار بشكل عشوائي من قبل الأهالي والمزارعين والاعتماد على الطاقة الشمسية في ري المحاصيل الزراعية ساهم في زيادة استهلاك مياه الري، مما أدى إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية التي لم تعوض ما خسرته من الهطولات المطرية الشحيحة خلال فصل الشتاء”.
وكانت مناطق ريف حلب تتغذى على عدد من الأودية (طفشين – مبارك – قويق) التي تجري نتيجة السيول على الجبال في الجنوب التركي، وتغطي مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وتساهم في تحسين مخزون المياه الجوفية إلا أن جريانها خلال السنوات الأربعة الماضية كان نادراً جداً حتى في ذروة الهطولات المطرية ما تسبب في استنزاف المياه الجوفية.
يولي الجيولوجي الجوّاد مسألة الحفر الجائر الأهمية الكبرى في استنزاف مياه الآبار الجوفية مقارنة بغيرها من الأسباب كشح الأمطار، يقول “إن عمليات الدحر الأفقي للآبار الجوفية وحفر آبار جديدة هو السبب الرئيس في تراجع منسوب المياه، يضاف إليها أن الآبار الجديدة تحفر بقطر متر واحد وبأعماق تصل إلى 120متر، بخلاف الآبار القديمة التي لم تكن تتجاوز 70 متراً بقطر 20 سنتيمتراً”.
ويرى الجوّاد أن الحل لا يكون بحفر آبار بحرية، ولكن بتنظيم عمليات الحفر الجائر والحد من انتشارها.
التكلفة العالية لحفر الآبار العميقة هي ما يحول، حتى اليوم، من ازدياد عدد هذه الآبار، لكن توجّهاً ملحوظاً يظهر في المنطقة نحو الاتجاه إليها، تقدّر بالعشرات خلال السنة الماضية، وسط غياب للجهات المسؤولة للحدّ من انتشارها والتوعية بمخاطرها، أو الطرق الصحيحة للاستفادة منها بما يضمن ضرراً أقلّ على القطاع الزراعي، الركيزة الأساسية لحياة السكان في المنطقة.
يقول جمال المحمد، مزارع في قرية حور النهر بريف حلب الشمالي، إنه اضطر مثل غيره من المزارعين إلى البحث عن بدائل أخرى لري المحاصيل الزراعية التي تهاوى إنتاجها خلال السنوات الماضية بسبب قلة الري.
ويضيف “الزراعة مصدر رزقي الوحيد، ولا أستطيع تغيير المهنة التي ورثتها عن والدي، لكن أزمة المياه وجفاف الآبار، تسببت في تعثر الإنتاج الزراعي في ظل تهاوٍ مستمر، وفي السابق كان المزارعين يعتمدون على الأودية ومياه الأمطار في تغطية ري نسبة كبير من المساحات المزروعة، إلا أنها أضحت من الماضي نتيجة شح الهطل المطري، وانقطاع الأودية واستهلاكها من الحدود السورية -التركية”.
ويقدر المحمد “تكلفة حفر بئر المياه الجوفية الكبريتية بعمق 870 متر بنحو 40 ألف دولار أمريكي، وتنخفض التكلفة تبعاً للعمق، وتستغرق عملية الحفر نحو ستة أشهر وقد تختلف من منطقة إلى أخرى كما هو حال اختلاف عمق المياه”.
وأوضح، أن التكلفة ترتفع إلى 50 ألف دولار أمريكي بعدما يتم إضافة تجهيزات البئر، من خلال وضع قمصان من الحديد وغاطس مياه لاستجرارها ومولدات كهربائية أو طاقة شمسية، مشيراً إلى أنه لا يوجد سوى حفارة تدخل من الأراضي التركية إلى المنطقة وتقوم بحفر آبار المياه الكبريتية.
ويقدّر من تحدثنا معهم تكلفة حفر الآبار البحرية بنحو 20 ألف دولار أمريكي، تزيد أو تنقص بحسب طبيعة التربة والعمق المطلوب، وتلعب مساحة الأرض دوراً كبيراً في حفر هذه الآبار، إذ لا يمكن الاستفادة من هذه الآبار في مساحات ضيقة.
ويتحدث المهندس الزراعي محمد الموسى أن مثل هذه الآبار تحتاج لنحو عشرين هكتاراً، وأن مثل هذه المشاريع تكون رابحة إن تمت إدارتها بالشكل المطلوب، من خلال الدورات الزراعية.
وأكد الموسى على المخاطر التي تتسبب بها مياه الآبار البحرية على التربة، وضرورة عدم الري الجائر المتبع حالياً، وتجهيز الأرض للري بالتنقيط أو المرشات ما يقلل من المخاطر.
ليست المياه الكبريتية ضارة بمجملها، ولكنها تختلف باختلاف طبيعة المنطقة، إذ تقل مخاطرها في المناطق الصخرية عن التربة الهشة، وهو ما أثبتته دراسة أعدت لمجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية في العام 2010، بحثت في علاقة الري بمياه كبريتية مالحة وبعض الخصائص الفيزيائية والكيميائية للتربة في جاهزية البوتاسيوم في منطقة جبل الحص بريف حلب الجنوبي.
وبينت الدراسة، بحسب التجارب، أن ري المحاصيل الزراعية بالمياه الكبريتية أدى إلى تشكل أملاح كبريتية في التربة وهي أملاح غير ضارة، وزاد إنتاج القطن والقمح بازدياد سنوات الري، كما أن استخدام المياه الكبريتية تسبب في إحداث تغيرات فيزيائية وكيميائية خصوبية في التربة من خلال تأثيرها على حالة التوازن السائدة بين التربة والنبات والماء، حيث يعتبر أيون البوتاسيوم من الأيونات الرئيسية التي يحتاجها النبات لما له من تأثير على إنتاجية المحاصيل الزراعية ونموها.
حفر الآبار البحرية المدروس ووجود إرشادات زراعية مع دراسة بنية التربية وطبيعة المياه، قد يكون حلّاً لمشكلات الري وتطوير الإنتاج الزراعي في أرياف حلب الشمالية والشرقية، لكن تجنب الفوضى وإصدار قرارات تمنع من حفر الآبار الارتوازية الجائر وتنظيم عملها و استصدار رخص على أسس جيولوجية صحيحة يمكن أن يكون الحل الأمثل لتجنب أضرار قد تفقد المنطقة تربتها الزراعية الخصبة وتحول دون استثمارها مرة أخرى.