غصت مجموعات متخصصة على تطبيق تلغرام في الفترة الأخيرة بإعلانات مكثفة عن شواغر للعمل في مجال علاج الصدمات النفسية المتفاوتة التي تعرض لها الناجون من زلزال السادس من شباط.
على منصة آدم للوظائف وحدها، أعلنت أكثر من 25 منظمة إنسانية عن أكثر من 250 شاغراً وظيفياً في مجال الحماية والدعم النفسي في الشمال السوري وإدارة الحالة، بحسب مدير المجموعة آدم هزاع.
ومن أبرز المنظمات العاملة في هذا المجال على سبيل المثال: هيئة الإغاثة الطبية لسوريا “ميديكال” والمؤسسة الدولية للتنمية الاجتماعية SDI ورابطة الأطباء العالمية DDD ومنظمة بهار وأطباء بلا حدود وهاندي كاب وبنفسج وسامز.
الاستجابة الضعيفة تقف عائقاً في وجه المنظمات
تتطلب تلك الوظائف شهادة جامعية في اختصاص علم النفس وعلم الاجتماع والإرشاد النفسي أو ما يعادلها، إضافة إلى أي تخصص آخر شريطة امتلاك الخبرة اللازمة في العمل بمجالات الدعم النفسي وإدارة الحالة. تقول أسماء جديد، موظفة في إحدى المنظمات العاملة في إدلب في مجال الدعم النفسي: “هناك فرق بين الدعم النفسي الأولي الذي يعمل به غير المختصين في علم النفس وبين الدعم النفسي الذي يعمل به المختصون بعلم النفس”.
ومع ذلك، تكمن المشكلة الأكبر في أنّ الاستجابة من قبل الأشخاص تبقى ضعيفة جداً وترتبط بتحقيق منفعة مادية تلبي جزء من احتياجاتهم، بحسب صفاء العاتقي، عاملة إدارة حالة. إذ يبذل عاملو الدعم النفسي وإدارة الحالة جهداً كبيراً في سبيل إقناع الأشخاص بتوثيق حالاتهم مع إعطاء وعود قاطعة بسرية تلك المعلومات.
تقول العاتقي: “إن إدارة الحالة والدعم النفسي مصطلحان لم يعتد الناس عليهما، وقد لا يعلمون معناهما، ربما لأنهما ارتبطا بمعانٍ خاطئة كمحاولة تفريق الأزواج أو تشجيع الزوجات على الوقوف في وجه أزواجهن، لذا يجد العاملون في هذا المجال صعوبة في إقناع الناس بضرورة هذا العمل”.
وصمة مجتمعية
يذهب ضياء رويشد، مدير المبادرة السورية في كلية واشنطن للقانون، إلى أبعد من ذلك، فهو يعتبر أن مسمى “الدعم النفسي” ارتبط في ذهن السوريين بوصمة مجتمعية، إذ ارتبطت خدمات الدعم النفسي قبل الثورة السورية بالقطاعات الحكومية متمثلة بمستشفيات الأمراض النفسية، التي غالباً ما تتعامل مع حالات الاضطرابات العقلية، و”هذه الوصمة تمنع كثيرين من المحتاجين لخدمات الدعم النفسي من اللجوء للمنظمات والفرق العاملة في هذا المجال.
وهو ما زاد صعوبات العمل التي تواجه تلك المنظمات والفرق، مع اعتبار أنّ كل ما يقدم هو في الحقيقة “خدمات دعم مجتمعية” أكثر من كونها خدمات دعم نفسي تخصصية إلا في بعض الحالات النادرة”.
تعتمد آليات العلاج المتبعة على نماذج مؤشرات معدة مسبقاً من قبل مختصين وأطباء، ويتم تدريب العاملين في مجالات الدعم النفسي على طريقة تعبئتها من خلال جلسات نقاش مركزة.
ووفق إجابات الشخص المستفيد يتم اتخاذ القرار باستمرار العمل مع الحالة داخل المركز من قبل العامل المشرف على الحالة أو تحويلها الى طبيب نفسي مختص، بحسب عاملين في منظمات إنسانية مختلفة.
أخبرنا العاملون أنه قبل بدء الجلسات يتعين على المستفيد أو ذويه، في حال كان من ذوي الاحتياجات الخاصة أو طفلاً، التوقيع على تصريح خطي (موافقة مستنيرة). من ثم تتم تعبئة استمارة توثيق للحالة وتُعطى رمزاً حفاظاً على سرية المعلومات.
ثم تليها جلسة استماع أولية لتحديد طبيعة الحالة واحتياجاتها، فإذا ارتأى القائمون على الحالة ضرورة الاستمرار معها في المركز نفسه، تتبعها ثمان جلسات دعم نفسي ضمن خطة يتم التوافق عليها بين المستفيد وعامل إدارة الحالة. وبحسب نفس الأشخاص، يمكن للعامل إحالة المستفيد إلى مراكز خدمات أخرى، طبية أو قانونية أو إلى طبيب نفسي مختص إذا اقتضت الحاجة.
احتراق وظيفي لدى موظفي الدعم النفسي
ازدياد حالات الهلع والفزع عقب كارثة الزلزال والشعور بعدم الأمان وازدياد حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي (GBV) نتج عنه زيادة الحاجة والطلب على خدمات الدعم النفسي، بحسب سناء مسؤولة فريق دعم نفسي في إحدى المنظمات العاملة في الشمال السوري.
بيد أن العاملين في الدعم النفسي يشعرون بالعجز وعدم جودة الخدمات المقدمة جراء الاحتياجات الكبيرة للحالات. تفسر سناء ذلك نتيجة قلة الخدمات والجهات التي تعمل على تلبية احتياجات المستفيدين مع معايشة هؤلاء العاملين تجارب المستفيدين القاسية، مما يؤدي بهم للاحتراق الوظيفي.
استيعاب حالة العاملين في الدعم النفسي لمنع وصولهم إلى مرحلة الاحتراق الوظيفي دفع رويشد لوضع برنامج كامل يتضمن تدريبات تخصصية وأنشطة ضرورية تجنبهم الوصول إلى تلك المرحلة. يقول الرويشد: “بالمجمل لم تكن خدمات الدعم النفسي وإدارة الحالة بشكلها المطلوب، إلا أنه لا يمكن الاستغناء عنها لأهميتها مع مراعاة طرفي هذا العمل: مقدم الرعاية النفسية والمستفيد، وصولاً لخدمات تعتبر مقبولة”.
هوة بين النظرية والتطبيق
من ناحية أخرى، ينتقد فيصل سريع، الذي سبق له أن عمل في إدارة الحالة سابقاً في مجال الدعم النفسي الأولي، آليات العلاج، فمن وجهة نظره ثمة شرخ عميق بين النظرية والتطبيق. فخلال التدريبات النظرية كان المعنى الواضح لإدارة الحالة أنها عملية متكاملة وتشاركية مع منظمات مسؤولة لتقديم الخدمات الناجعة للناجين من أقل الاحتياجات وصولاً للتعافي، بحسب سريع.
غير أنه يرى أن التطبيق على أرض الواقع لا يخدم الناجين بالحد الأدنى، بحيث تبقى الضحية أو الناجية بلا خدمات أساسية، من شأنها الوصول للتعافي، فتبقى في حالة من القلق وعدم الاستقرار والخوف من القادم والمجهول.
يعتبر سريع أن الخدمات المقدمة في حالات الكوارث لا تتجاوز تقديم دعم نفسي أولي عبر جلسات توعية، علماً أنّ الضحايا أو الناجين/ات يأملون تحسناً ملموساً لأوضاعهم، فأولئك الذين خسروا كل شيء، لن يتعافوا نفسياً إنّ قُدمت لهم مساعدة خجولة تقتصر على سلة غذائية أو مأوى غير مناسب كخيمة مثلاً.
في سياق متصل، يؤكد الطبيب النفسي ضياء عبدالله على ضرورة عدم ربط تقديم خدمات الرعاية النفسية بتقديم مساعدات مادية، كما هو الحال في الشمال السوري.
ويرى أنه لا يمكن تقديم خدمات الرعاية النفسية بمعزل عن باقي الخدمات: اجتماعية وقانونية وطبية، فهي “مرتبطة بشكل وثيق ببعضها البعض. و يقول إنه في الوضع المثالي عادة ما تصل فرق الرعاية النفسية إلى مواقع الكوارث رفقة الفرق الطبية والإسعافية، مع ملاحظة أن الآثار المترتبة على أوضاع الشعب السوري من حرب ونزوح وتهجير وكوارث تجعل معظمهم بحاجة للرعاية النفسية”.
كما ينوه عبدالله إلى نقطة يعتبرها مهمة في هذا السياق، تتمثل في متابعة المستفيد من قبل الموظف/ة نفسه وعدم استبداله/ابشكل متكرر، كما يحدث في الشمال السوري. إذ يرجع سبب ذلك إلى طبيعة ظروف العمل لدى المنظمات، التي تؤطر مهمة الدعم النفسي في مشاريع محدودة الأجل قد تنتهي بعد ستة أشهر.
وتبقى الحاجة لخدمات الرعاية النفسية والاجتماعية في مناطق الشمال السوري تفوق قدرة المنظمات العاملة بهذا المجال مع قلة إمكانية تلبية كل احتياجات المستفيدين التي قد تحتاج ميزانيات ضخمة جداً تعجز عنها بعض الدول، وذلك ما كون مفهوماً غير متكامل عن الدعم النفسي وإدارة الحالة لدى العاملين بهذا المجال، بحسب جل من تحدثنا إليهم.