“مابدنا نام يا ماما.. كل الولاد الصغار اللي ناموا ماتوا”.. أصابني الذهول مما سمعت، طفلتي ذات التسعة أعوام تتحدث عن الموت، باتت تخاف من لحظة تغفو فيها كي لا تموت، كما حدث مع باقي الأطفال الذين ابتلعهم ركام منازلهم، لحظة زلزال 6 شباط، والتي حفرت في أذهاننا وأصبح ما قبلها ليس كما بعدها.
“ماذا حدث؟” .. “لماذا اهتزت الأرض؟” .. ” كيف يموت الأطفال الصغار؟” .. “ماذا فعل الأطفال كي يموتوا بهذه الطريقة؟” .. “لماذا لم يحمهم الله كما حمانا؟” .. حاصرتني أسئلة أطفالي الفضولية، التي كنت أتجاهل الردّ على معظمها أو أجيب على بعضها بعبارة موجزة “هم لم يموتوا، بل أصبحوا عصافير في الجنة”.
احتل الخوف والرهبة مما حدث، قلوب أغلب الأطفال الذين شهدوا خلال سنوات عمرهم القليلة فظائع الحرب والقصف والدمار، وآخرها زلزال مدمر، ليحملوا ذاكرة مشوهة عن الحياة وانعدام الشعور بالأمان، يرون أمام أعينهم عجز الآباء وقهر الأمهات، ويبقى السؤال الأهم؛ كيف سيعيش هؤلاء الأطفال، وقد شاهدوا أقرانهم تحت الأنقاض، ومنهم من انتشل من حضن والديه الميتين.
لم نعد نطمئن لسكون الليل
اعتاد أطفالي الثلاثة النوم في غرفتهم منذ سنوات، غير أن ليلة حدوث الزلزال تركت أثراً نفسياً عميقاً لديهم، جعلتهم يخافون النوم وحدهم وأنوار البيت مطفأة، فمنذ تلك اللحظة يتشبثون بي، يتزاحمون على النوم قربي والأسئلة ذاتها تتكرر كل يوم وأكثرها السؤال عن مصير الأطفال الذين فقدوا ذويهم في الزلزال.
حدثتني جارتي القريبة مني في السكن، أنها تعيش التفاصيل ذاتها تقريباً مع بناتها الثلاث الصغار، أكبرهم في العاشرة من عمرها، فهم إلى اليوم ينامون قربها بمعاطفهم الشتوية كي لا يشعروا بالبرد الذي شعروا به ليلة الزلزال وخروجهم حفاة بثيابهم الخفيفة تحت المطر والريح وقضائهم قرابة الساعة في الخارج إلى حين التأكد من هدوء الأرض دون أن يفهموا ما الذي يجري من حولهم.
أما أنا فلم أستوعب ما حدث حين اهتزت الأرض من تحتنا بقوة لم نعتد عليها أيام القصف الصاروخي. صوت غليان الأرض وفورانها واهتزاز الجدران والأثاث كان مرعباً لأشخاص استيقظوا للتو على وقع الزلزال.
“قصفتنا الطيارة” .. صاح زوجي، وهرع إلى غرفة الأطفال ليتفقدهم، وبحركة لا إرادية توجهنا نحو زاوية المنزل، ظناً منّا أنها أكثر صلابة من باقي أجزاء المنزل، كما كنا نفعل أيام القصف، إلا أن رائحة الموت فاحت من باطن الأرض هذه المرة، لا من السماء، ونبهتني صرخات الأطفال والنساء من الجيران في الطابق العلوي الذين سارعوا إلى خارج المنزل، أن ما يحدث ليس قصفاً، إنما زلزال اجتاح المنطقة، ويجب إخلاء المنزل قبل فوات الأوان.
لم يعرف أطفالي النوم الآمن منذ ذلك الوقت، حال كثير من الأطفال في المناطق المنكوبة وأصبحت ساعات نومهم قليلة جداً، يتخللها القلق والرعب على وقع أي حركة، مهووسون بمراقبة كل تحركات الأرض والهزات الارتدادية، مع إبقاء باب المنزل الخارجي مفتوحاً، ليسارعوا إلى الهرب عند حدوث أي هزة جديدة.
يُسمَّى ما تعرض له الأطفال ليلة الزلزال في علم النفس “الحدث الصادم” وقد ينتج عنه أعراض جسدية مثل الصداع والغثيان والعصبية والغضب وأعراض نفسية مثل؛ القلق والخوف ونوبات الهلع، فضلاً عن اضطرابات النوم ورؤية كوابيس، حسب ما أخبرنا طبيب رأب الفجوة في الصحة النفسية، بهاء الخاني، يعمل في عيادة سرمدا النفسية التابعة لوحدة سرمدا للأمراض النفسية والعقلية
يقول الخاني: “إن هذه الأعراض لا تعالج بالأدوية خلال الشهر الأول من ظهورها، وتسمى هذه المرحلة (اضطراب الكرب الحاد) وهو يحدث للطفل مباشرة بعد الصدمة ويعتمد على عدة خطوات من جلسات الدعم النفسي، وذلك بعد توفير البيئة الآمنة للطفل وعائلته، ثم تأمين المتطلبات الأساسية من مسكن وغذاء وعلاجات أساسية في حال وجود جروح أو رضوض، ثم الخضوع لجلسات الدعم النفسي”.
خرج كل الأهالي إلى ساحة القرية السكنية في منطقة كفر لوسين، شمال إدلب، باستثناء أم مصطفى، سيدة خمسينية، بقيت بجانب ابنها محمد الذي يعاني من ضمور عقلي وشلل في الأطراف. كانت تجلس فوق رأسه، تغمره بيديها، وتقرأ عليه آيات قرآنية، محاولة أن تخفف عنه مشاعر الصدمة وشعوره بالعجز.
قضينا معظم وقتنا في الأيام الأولى التي تلت الزلزال في أراضي الزيتون القريبة من منزلنا، أنا وكثير من أهالي القرية السكنية، حيث أقيم وعائلتي، وجلست النسوة يتبادلن الأحاديث عن الزلازل والأهوال التي عاشوها تلك الليلة، ويراقبن عبر هواتفهن الجوالة أخبار أقاربهم ومن قضى تحت الركام، وكانت عيون الأمهات تدمع أثناء أحاديثهن وهن ينظرن إلى أطفالهن وقد نجوا من الموت بأعجوبة.
اتخذ الأطفال من أراضي أشجار الزيتون مساحة جديدة للعب ومقراً لاجتماعاتهم وتبادل القصص والحكايات عن الزلزال، وعن أطفال بأعمارهم خرجوا أحياء من تحت الأنقاض.
تستعرض ريماس، 8 أعوام، قوة قلبها أمام صديقاتها، تقول إنها لم تخف لحظة حدوث الزلزال وكانت شجاعة، تكذبها أختها التي تكبرها بعام، تقول إن ريماس كانت ترتجف وتبكي بشدة، أما والدة الطفلتين تؤكد لي أن أولادها تأثروا كثيراً بما حدث، وأنهم لايتركوها أبداً منذ تلك الليلة، أينما تحركت يكونون بقربها، وفي الليل يفزعون ويستيقظون عدة مرات، والصغيرة ذات الخمس سنوات أصبح لديها تبول لاإرادي وخوف من الوحدة، حسب تعبيرها.
الخوف من العودة إلى المنزل
لم تكتمل فرحة جارتي أم حمزة وعائلتها بانتقالها منذ شهر من العيش في خيمة إلى مشروعنا السكني، ولم تفلح جميع النظريات ونصائح الدعم النفسي التي قرأتها في تخفيف مخاوف أطفالها، بعد أن ترك الزلزال أثراً واضحاً على جدران المنزل من تشققات تنذر بخطر قريب، وفضلوا العودة إلى الخيمة، لأنها من وجهة نظر أطفالها أكثر أماناً من الجدران الإسمنتية في الوقت الحالي.
لم تعد أم حمزة إلى منزلها إلا لساعات مؤقتة، أخذت منه بعض المؤن والأغطية ولعبة حمزة (الأرنب الأبيض) الذي بقي يسأل عنه منذ مغادرتهم المنزل، إذ يخشى عليه من الموت تحت الأنقاض، كما أخبر والدته.
“مستعدة للعيش في العراء وتحت أشجار الزيتون وألا يصاب أحد أطفالي بخدش صغير” تقول أم حمزة، التي غادرت منزلها وعادت للعيش بين جدران الخيمة القماشية، كما فعلت عشرات العوائل التي تصدعت منازلها، بفعل الزلزال وباتت بلا مأوى مرة أخرى.
أعراض الخوف والأرق وقلة النوم التي رافقت أطفالها جعلتها تسأل فريق الدعم النفسي الذي زار مركز الإيواء في الأسبوع الأول من إقامتها هناك، عن طريقة العلاج المُثلى في هذه الحال، خاصة أنها لاحظت مثل تلك الأعراض على كثير من أطفال المركز، إذ تقول “كنت مستعدة لشراء أي دواء يجعل أطفالي ينامون كالسابق، ويتخلصون من مخاوفهم”.
لكن مسألة استخدام العلاج الدوائي ليست بهذه البساطة التي تحدثت عنها أم حمزة، فالأدوية النفسية لا توصف بشكل عشوائي خاصة للأطفال، إذ لا يوصف للأطفال أدوية علاجية مباشرة بعد تعرضهم لصدمة نفسية، كما يوضح الطبيب بهاء الخاني، بل يركز الأطباء أو المرشدون النفسيون على الدعم النفسي والتحدث معهم في أول شهر بعد الحادثة، وإذا استمرت الأعراض لعدة أشهر يدخل الطفل مرحلة تسمى “اضطراب مابعد الصدمة” وعندها يخضع لبرامج دعم نفسي ضمن خطة ممنهجة، حسب تعبيره.
بينما نحاول، نحن الكبار، تجاوز كل الصدمات النفسية التي تعرضنا لها على مدار اثني عشر عاماً، من حرب وقصف ودمار، والتمسك بالحياة واقتناص لحظات سعيدة، من أجل أطفالنا، حتى في أقسى الظروف التي مررنا بها، لكن بعد كارثة الزلزال، ونجاة أطفالنا منه، بات جُلَّ ما نتمناه ألَّا تستمر الآثار النفسية بداخلهم جراء ما حدث، وأن يستطيعوا النوم مطمئنين، دون أن يستيقظوا فجأة، وهم في حالة هلع وخوف، على وقع أي حركة تحدث أثناء نومهم.