اكتظت صالة معبر الهوى بالسوريين القادمين من تركيا، إثر الزلزال المدمر في السادس من شهر شباط (فبراير) الماضي، وارتسمت على وجه كل قادم حكاية ألمٍ حلت به وبعائلته، في ظل فقدانهم للمأوى، ولكل ما يملكونه. عادوا إلى أهاليهم وذويهم، أملاً بالتعافي من الصدمة التي عاشوها طيلة الأيام الماضية.
نَجَتْ نور، 25 عاماً، وعائلتها من الزلزال الذي طال منزلها في مدينة أنطاكيا التركية، ولم تعد تملك شيئاً، ذهبت مع أبناء الحي المُدمَّر ضمن سيارة نقلتهم إلى مراكز الإيواء والتي ضمت عشرات العائلات ممن فقدوا ذويهم وعائلاتهم، كما تروي لنا، إذ لم تدرك أنها الأيام الأخيرة في البلد التي بدأت به حياة جديدة، لتعود مجدداً إلى ما ذاقته قبل بضع سنوات خلال الحرب في سوريا، بعد أن أصبح الوضع اليوم أكثر سوء، لتبقى الخيمة مأوى ومسكناً لها رغماً عنها، حسب وصفها.
تقول نور لــ “فوكس حلب”: “بقيت وعائلتي نحو تسعة أيام في مركز إيواء مزدحم بالعائلات الناجية، بعدها أُصدِرَ قرار الإجازة إلى سوريا، وكان قراراً لآلاف العائلات الموجودة في تركيا، بغض النظر عما ينتظرها من مصير مجهول، وعدم الأخذ بالحسبان إمكانية عودتهم إلى تركيا مجدداً”.
بدأت قوافل السوريين القادمين من تركيا إلى محافظة إدلب بالدخول عبر معبر باب الهوى يوم الأربعاء 15 شباط (فبراير) الماضي، بموجب الإجازة التي منحتها الحكومة التركية للسوريين، وذلك بعد إعلان معبريّ باب الهوى وتل أبيض يوم الإثنين 13 شباط السماح لمن يود من السوريين المقيمين في تركيا زيارة الجانب السوري، وفقاً لشروط معينة، إذ جاء في البيان أنه يمكن لحاملي بطاقة الحماية المؤقتة والمقيمين في الولايات المتضررة من الزلزال “كهرمان مرعش، هاتاي، ملاطيا، أديامان، أضنة، غازي عنتاب، شانلي أورفا، كيليس، العثمانية، ديار بكر” التوجه مباشرة إلى المعبر دون الحصول على إذن سفر.
وبحسب ما جاء في البيان، فإن مدة الإجازة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد عن ستة أشهر للسوريين الحاصلين على بطاقة الحماية المؤقتة، علماً أنه لا يمكن العودة لصاحب الإجازة قبل ثلاثة أشهر، وفي حال تأخره عن الرجوع بعد مضي ستة أشهر تلغى بطاقة “الكمليك” الحماية المؤقتة.
بعد جلسات مباحثات بين إدارة معبر الهوى والجانب التركي؛ توصل الطرفان إلى إقرار إجازة للسوريين اللاجئين في تركيا والمقيمين في الولايات التي ضربها الزلزال، وتضمن القرار النزول في إجازة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد عن ستة أشهر، علماً أن القادمين من تركيا بدؤوا الدخول يوم الأربعاء 15 شباط، وبلغ عدد الوافدين حتى يوم أمس 12 آذار (مارس) نحو 17761 مواطناً، ولا توجد هناك أي إجراءات مطلوبة للدخول سوى امتلاك بطاقة الحماية المؤقتة “الكملك”، وذلك بحسب مازن علوش، مدير مكتب العلاقات العامة في معبر باب الهوى.
عودة مليئة بالآلام والمصائب
خسارات متتالية لحقت بالسوريين، بعد أن خسروا مدنهم وبلداتهم وهربوا إلى تركيا جراء القصف المستمر، خسر الكثير منهم أرزاقهم وأعمالهم و أشخاصاً من أقربائهم وذويهم.
بقيت ريم، 33 عاماً، بجوار منزلها الذي أصبح ركاماً، نحو ثلاثة أيام في مدينة انطاكيا التركية، تنتظر فرق الدفاع المدني لانتشال زوجها وطفليها من تحت الأنقاض لتعود إلى سوريا رفقة جثامينهم، متمنية لو أنها انضمت إلى قائمة الوفيات ودفنت بالقرب منهم. لكن مصيرها كان العودة إلى منزل والدها في بلدة أرمناز والعيش مع عائلتها، حسب ما روت لنا.
ولم يكن حال هزار، 30 عاماً، تقيم بغازي عنتاب، أفضل، إذ فقدت أربعة أفراد من عائلتها، وقررت العودة إلى الداخل السوري لتبدأ رحلة البحث من جديد عن مأوى، ولتقضي بقية أيامها مع أقربائها في ريف مدينة سلقين شمالي إدلب، مؤكدة أنها ستستقر في سوريا ولن تعود إلى تركيا”، حسب قولها.
وبحسب العلوش: “بلغ عدد الجثامين التي وصلت من تركيا إلى سوريا نحو1570 جثماناً، إذ ترغب العائلات بدفن موتاها في البلاد بعدما لقوا حتفهم في ولايات تركية متفرقة”.
تقول هزار: “لم يتبقَ لدينا شيء نخسره. قضيت نحو تسعة أيام ضمن مراكز الإيواء في مدينة غازي عنتاب التركية وكانت المراكز عبارة عن صالات رياضية وجوامع تضم الناجين من الزلزال من أتراك وسوريين، لكن العنصرية لم تختفِ حتى في أوقات الكوارث”.
وأضافت: “كانت المساعدات تأتي للأتراك فقط، بينما الأمهات السوريات منشغلات بتدفئة أطفالهن الصغار وبكائهن على من فقدن، ليأتي خبر إصدار قرار العودة إلى سوريا كآخر الحلول للنجاة من الموت”.
إجراءات المعابر الحدودية
حددت المعابر الحدودية العودة المؤقتة للاجئين السوريين بالتوجه نحو المعبر مباشرة، بينما أعلنت إدارة معبر باب السلامة بتاريخ 16 شباط (فبراير)، وضمن تعليمات الزيارة التي نشرتها عبر صفحة المعبر الرسمية على فيسبوك، تسجيل الدخول إلى سوريا عن طريق رابط إلكتروني، لكن صفحة المعبر نشرت في يوم 17 شباط توضيحاً بأنه “يمكن الحجز ضمن المعبر في الجانب التركي للراغبين بالدخول إلى سوريا ضمن الزيارات ريثما يتم إعداد رابط الحجز الإلكتروني”، وفي اليوم التالي 18 شباط نشرت صفحة المعبر رابطاً للحجز، لكن رابط الحجز تغير في 4 مارس ونشرت صفحة المعبر رابطاً جديداً، إضافة للحجز عبر الاتصال برقم: 157، ووصل العدد الكلي للسوريين القادمين من تركيا عبر معبر باب السلامة لـ 11610 شخص، بحسب آخر تحديث للصفحة الرسمية للمعبر.
بينما أعلنت إدارة معبر جرابلس إنها ستستقبل من يوم 18 شباط الراغبين في قضاء إجازة داخل الأراضي السورية لحاملي بطاقة الحماية المؤقتة في جميع الولاية التركية، 81 ولاية، وأصحاب الجنسية التركية، حاملي الجنسية المزدوجة”، بعدها ألحقت بيانها بمنشور آخر أوضحت من خلاله أنها سمحت أيضاً لحاملي الإقامات من جميع الولايات التركية بالدخول للأراضي السورية. في البداية كانت مدة الإجازة التي حددها معبر جرابلس داخل الأراضي السوري أدناها شهر واحد وأقصاها ستة أشهر، لكن بتاريخ 25 شباط مددت الإجازة لتصبح أدناها 3 أشهر وأقصاها 6 أشهر. وبلغ عدد الوافدين عبر معبر جرابلس 16174 مواطن، وهو مجموع الإحصائيات اليومية التي نشرت على صفحة معبر جرابلس الرسمية من تاريخ 19 شباط (فبراير) الماضي حتى يوم أمس 13 آذار (مارس)، وشملت هذه الإحصائية حاملي بطاقة الحماية المؤقتة وحاملي الجنسية المزدوجة والخروج الطوعي من تركيا.
أما معبر تل أبيض، فنشر بياناً بتاريخ 13 شباط (فبراير) أفاد فيه بأنه يمكن للحاصلين على بطاقة الحماية المؤقتة المقيمين في الولايات المتضررة من الزلزال: كهرمان مرعش، هاتي، ملاطيا أديامان، أضنة، غازي عنتاب، شايلي أورفانا، كيليس، العثمانية، ديار بكر التوجه مباشرة إلى معبر تل أبيض دون الحاجة إلى الحصول على إذن سفر. ومدة الإجازة لا تقل عن 3 أشهر ولا تزيد عن 6 أشهر، للحاصلين على بطاقة الحماية المؤقتة علماً أنه لا يمكن العودة لصاحب الإجازة قبل ثلاثة أشهر وفي حال تأخره عن الرجوع بعد مضي ستة أشهر يتم إلغاء كملك الحماية المؤقتة، بحسب ما جاء في البيان. وبلغ عدد الوافدين من تركيا عبر معبر تل أبيض 7866 لحاملي كملك 99 و1287 عودة طوعية حتى تاريخ 11 آذار (مارس) الحالي، وفقاً لآخر إحصائية نشرتها صفحة معبر تل أبيض الرسمية على فيسبوك.
أما معبر الراعي فقد أصدر تعميماً مساء اليوم السبت 4 آذار (مارس)، بعودته للعمل بعد إغلاقه عدة أيام بسبب أعمال الصيانة. وقالت إدارة المعبر في بيان لها إن المعبر انتهى من أعمال الصيانة، وعاد للعمل كالمعتاد بالنسبة لدخول وخروج الأفراد وجميع من يحمل إذن عبور، ولم يستقبل المعبر سوى قافلات إغاثية وطبية تابعة للأمم المتحدة لمساعدة المتضررين من الزلزال.
ضمان العودة إلى تركيا
بدوره حذر رئيس تجمع المحاميين السوريين في تركيا غزوان قرنفل من أخذ الإجازة بقوله: “على القادمين إجازة من تركيا إلى سوريا في حال قرروا العودة نهائياً، فنتمنى لهم التوفيق، أما في حال فكروا بالرجوع مرة أخرى إلى تركيا، فعليهم أن يرتبوا أمورهم ببلدهم، وأن يأخذوا في الحسبان أن هناك احتمالية ألا يستطيعوا العودة إلى تركيا”.
وبحسب رأي قرنفل أن الإجازة التي أصدرت عقب الزلزال مخالفة لقوانين اللجوء وقانون الحماية المؤقتة التي يخضع لها السوريون في تركيا، إذ لا يحق لطالب الحماية وطالب اللجوء بالعودة للبلد الفار منه، وفي حال العودة هذا يعتبر بمثابة التنازل عن حق الحماية.
ويوضح القرنفل لــ “فوكس حلب”: “لا توجد ضمانة قانونية بحق المغادرين للعودة، بناءً على السياق العام للتعاطي مع ملف اللاجئين في جانبيه القانوني والسياسي، وأعتقد بأنه لن يُسمح لهم بالعودة، خاصة في ظل الانتخابات الرئاسية خلال الفترة القادمة”.
ويرى أن هذا القرار اتخذته الحكومة التركية لتخفيف الضغط عنها، نتيجة عجزها عن تلبية احتياجات مواطنيها، لذا ينصح من غادر ولديه إمكانية للعيش في الداخل السوري ألا يفكر بالعودة إلى تركيا، خاصة في ظل الاستغلال وارتفاع إيجارات المنازل، إضافة إلى ندرة وجود فرص العمل، حسب قوله.
العودة إلى المجهول
قرر محمد ياسين، 35 عاماً، وعائلته العودة إلى سوريا بشكل نهائي، بعد أن أقاموا في مدينة أنطاكية التركية خمس سنوات، إذ يقول: “عندما بدأ الزلزال تخيلت أن يوم القيامة قد بدأ من شدة الأصوات الصادرة من الأرض. سارعت بحمل أطفالي والخروج من البناية إلى الشارع، والحمد لله لم نتضرر جسدياً، ولكن فقدنا كل ما نملك. وبعد التنقل من شارع إلى آخر وعدم معرفة مصيرنا في الاستقرار، قررنا العودة إلى سوريا”.
وأضاف: “الرحلة كانت متعبة ومكلفة جداً، بسبب كثرة التنقل والجشع الذي طال أسعار المواصلات. وبعد وصولي لشمال غرب سوريا، أقمت بشكل مؤقت في بيت خالي في منطقة دير حسان على الحدود السورية التركية”.
لم يختلف الحال كثيراً مع حمزة الابراهيم، 26 عاماً، المقيم، سابقاً، في ولاية أديامان التركية، إذ نجا هو وزوجته وطفله بأعجوبة من الزلزال، حسب ما روى لنا، “بضع ثوانٍ فقط كانت فارقة في حياتي، وقد انحرق بيتي جراء الزلزال وفقدت كل ما أملك”.
يقول الابراهيم: “أقمت في تركيا أربع سنوات لكن لم أتوانَ في التفكير بالعودة إلى سوريا، إذ رغم كارثة الزلزال التي حدثت، لم تغب العنصرية عن وجوه الأتراك، حتى باتوا يضايقوننا إن وقفنا في الشوارع، لذا قررت العودة إلى سوريا بعد رحلة سفر متعبة ومكلفة للغاية”.
ورغم الظروف الإنسانية الصعبة في المنطقة، اشترى الابراهيم خيمة قرب أحد المخيمات بريف إدلب الغربي، وقرر الاستقرار بها مع زوجته وطفله ريثما تتحسن أحواله، حسب تعبيره.
الطلب على استئجار المنازل في الشمال السوري
بعد وقوع حادثة الزلزال المدمر في تركيا، أخبرت أم محمد، مقيمة في مدينة الريحانية التركية، جميع أقاربها وأصدقائها المتواجدين في مدينة معرة مصرين شمالي إدلب، بالبحث عن منزل بالقرب منهم، كي تعود من تركيا مع عائلتها المكونة من سبعة أفراد، كما روت لنا.
لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فقد بات الحصول على منزل أمراً في غاية الصعوبة نظراً لازدحام المناطق التي لم تتأثر بالزلزال بالسكان والنازحين، لاسيما أن الأبنية الضخمة والطوابق المرتفعة لم تعد مرغوبة للسكن، بل بات الجميع في الشمال السوري يفضل البيوت العربية والمنفردة، وأصبحت مطلب الجميع في الوضع الحالي.
يقول أحمد المحمد، يعيش في مدينة الأتارب غربي حلب، لــ “فوكس حلب”: “بعد تصدع منزلي بشكل كبير جراء الزلزال الذي ضرب المنطقة بدأت البحث عن منزل عربي بعيداً عن خوف الأبنية العالية، لكن فوجئت بارتفاع أسعار إيجارات المنازل بشكل كبير ولم أستطع تأمين منزل بسعر مناسب، ما دفعني لبناء خيمتين على أطراف الأراضي الزراعية غرب المدينة”.
من المرجح ازدياد أعداد الوافدين من تركيا إلى الشمال السوري في الأيام القادمة، بالتزامن مع قدوم شهر رمضان وعيد الفطر. ولكن، في ظل ما تعيشه تركيا في الوقت الحالي من أزمة سياسية وتحديات اقتصادية بعد الزلزال الذي حوَّل 11 ولاية في تركيا لمناطق منكوبة، وترقب لما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية المقررة في 14 أيار (مايو) القادم، يجد العائدون أنفسهم أمام قرار مصيري: البقاء بشكل نهائي في سوريا أم الرجوع إلى تركيا مجدداً بعد انقضاء فترة الإجازة؟