فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

لثورتنا-حكايات-يجب-أن-تروى-فوكس-حلب

لثورتنا حكايات يجب أن تروى

مصطفى أبو شمس

التقارب التركي الأخير مع النظام السوري لم يكن مفاجئاً للسوريين، لكن السرعة التي قيد بها هذا التحرك نحو الوفاق مع بشار الأسد كانت محبطة لكثير من أبناء المنطقة

وفق الأحداث التي آلت إليها الثورة السورية تغيب الأهداف الأولى عن المشهد اليوم، التخلص من الطغيان والسعي لبناء مجتمع حرّ بعناوين ناصعة مثل الحرية والكرامة لم تعد تأخذ طريقها في وعي السكان الذين تحمّلوا في السنوات الأخيرة أعباء تضاف إلى همومهم وتأخذ مكانها في الصورة، الطغيانات الجديدة، سياسة كمّ الأفواه، الخوف، التهديد، الحدود الجديدة، الترقب، والأهم من ذلك إقصاءهم مرتين، من قبل سلطات الأمر الواقع عن تقرير حياتهم وشكلها، وكذلك من المتحكمين بملفهم السياسي الدولي والذي أقصى الجميع بمن فيهم أولئك الذين يدورون في فلكهم وينفذون أوامرهم.

التقارب التركي الأخير مع النظام السوري لم يكن مفاجئاً للسوريين، لكن السرعة التي قيد بها هذا التحرك نحو الوفاق مع بشار الأسد كانت محبطة لكثير من أبناء المنطقة، بدرجة أقل الذين يعيشون خارج تركيا اليوم بعد أن تحرّروا منها كحبل نجاة أوحد للحياة والعمل ومستقبل أبنائهم.

شكّلت تركيا خلال عقد من الزمن طوق البقاء على الحياة للسوريين، خاصة في الشمال، فمصيرهم مرتبط بالنوافذ التي أحكمت تركيا قبضتها عليها، بداية من خلال ربط المساعدات الإنسانية والعسكرية بأراضيها، ثم، ومع الخذلان العربي، استقبال الهيئات السياسية هناك والتحكم بمقدراتها وفرض أجنداتها، وهو ما فرضها لاعباً وحيداً على الساحة للثورة السورية في مقابل روسيا وإيران ومن خلفهما النظام السوري وقسد المدعومة أمريكياً.

غُيّرت لأجل ذلك مناهج التعليم والعملة المتداولة، شكل الحكم المدني وربطه بالمؤسسات التركية، القرار العسكري والزج بالثورة السورية وحرف بوصلتها نحو معارك تقررها بالمقام الأول الحكومة التركية وفق ما تراه مناسباً وما يوافق مصالحها، دون أن تتكلف عناء إشراك من يموت على الأرض سواء في معارك قسد أو في ليبيا وأذربيجان من سوريين بالرأي أو اتخاذ القرار.

هذا الربط لم يكن ليتم لولا الهواء الذي ينفذ إلينا في سوريا عبر تركيا، ودون معادلة أن بشار الأسد هو الطغيان الأكبر، ووفق هذه المعادلة يغدو أي طغيان آخر وأي شكل من أشكال الانتهاك والإقصاء بعيداً عن القصر الجمهوري في دمشق يمرّ، ليس بسلاسة، ولكن دون اعتراض وبخوف من قادم أسوأ لا يمكن تحمله أو التصالح معه.

يشبه ما يحدث اليوم الاستعانة بالنظام السوري في حرب لبنان، وقتها كانت جميع الأوراق اللبنانية والفلسطينية بأياد سورية، وتدار في مقر المخابرات لا في مجلس الشعب، وبسياسة التهديد لا بناء التحالفات، وبات الوجود السوري عبئاً أكبر من الحرب الأهلية واستلزم لخروجه ثورة أخرى وظروف دولية مواتية.

ويشبه ذلك ما حدث للفصائل الفلسطينية في لبنان بعد خروجها من الأردن، ثم من لبنان، ليصل بهم الطريق للقول على لسان عرفات، أريد متراً مربعاً في فلسطين، من هناك يمكن أن يحدث أو يتغير شيء ما في هذه القضية التي يسعى الجميع لاستخدامها والسيطرة عليها لا الوقوف إلى جانبها ودعمها.

الفارق هنا أننا في سوريا ما نزال نملك أمتاراً مربعة ونفتقر للشخصية المحورية ومن يدور في فلكها، بعد أن بات الارتهان عنوان جميع من يملكون القرار في ثورتنا، ناسين أو متناسين أن لهذه الثورة حكايات يجب أن تروى، وأن الباحث فيها يمكن ببساطة أن يجد طريقه، بعد مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين وأضعافهم من النازحين واللاجئين.

قبل الثورة السورية، ولا أعرف الحال في أجيال سبقت جيلي، لم يكن منا من يملك حكايات عاشها بنفسه أو تعلق بها لأشخاص من حوله، كنا دائمي التوجه للاستعارة من حكايات فلسطينية أو ثورية على المستوى العالمي دون أن نتجرأ على البحث حولنا عمن يسد هذا الفراغ، سواء على الصعيد الشخصي أو العام، خاصة وأن الاحتكار طال هذه الرمزية وحصرها بقائد أوحد في مختلف المجالات.

حين دخلت الثورة السورية من أبواب ونوافذ منازلنا، للوهلة الأولى تغير كل شيء، في كل يوم حكاية، وعند كل مفترق شخصية كنا نحفظها لنقول في يوم من الأيام أننا عشنا ذلك الزمن، كنا هناك في ذلك المكان، حظيت بأن أهتف يوماً في هذا الشارع، تعرفت إلى الشهيد الذي قتل في ذلك اليوم، رأيت اللافتة التي رفعت، حضرت تحطيم صنم أو تمثال أو تمزيق صورة، دخلت مقرّ أحد الأفرع الأمنية دون خوف بعد تحريره وتحوله إلى جدران، جدران تشبه كل الجدران التي عرفناها يوماً.

تلاشت الحكايات هذه في السنوات الأخيرة، بسراج وفتيلة، ومثل الباحث عن إبرة في كوم قش، نحاول أن نجد ضالتنا بين الأحياء اليوم، القيادات العسكرية، الهيئات السياسية والمدنية، المجالس المحلية، المنظمات الإنسانية والإغاثية، الدولية والمحلية، وكل ما يمت لجميع أولئك بصلة باتوا عرضة للشك من أبناء المنطقة، والانتقاد من اللاجئين خارج قدرتهم على الوصول، ليس لأن ذلك ديدننا ولكن لحجم الخذلان الذي رافق مسيرتهم وغياب الصورة الصحية التي كنا نأملها يوماً منهم وبهم ومعهم.

من “أنا أمني“، وصولاً لمنع الكتابة على الجدران والاعتداء على متظاهرين وقتل ناشطين وقصف مدنيين وفصل معلمين ومنع وسائل إعلامية من الوجود وبطاقات الهوية الجديدة والحدود بين منطقتين تتقاسمان الخراب والدمار، وفتح معابر وإغلاقها، إضافة لمصطلحات الخوارج والمهاجرين وأخوة المنهج، تُسرق منا حكاياتنا، لعل الخطر الأكبر من تسارع الأحداث الأخير هو أن تصبح ثورتنا اليتيمة دون حكايات، ولعلّه الهدف الأكبر لإفشالها مستقبلاً لملئ فراغ الذاكرة بحكايات جديدة لا نعرفها وسنصدقها بمرور الزمن.