سعى فوكس حلب طيلة عام مضى إلى تسليط الضوء على مسألة العقارات في سوريا، لا لكونها متعلقة بالحقوق فقط بل لأنها تتصل بجذر الصراع في سوريا، وتخفي وراءها بعض أسباب تعميقه وتعقيده، ومن هذا المنطلق كان المبدأ الرئيس هو تغطية هذه المسألة ما أمكن على اتساع الجغرافية السورية، وعلى كثرة تجلياتها، مهما اختلفت سلطات الأمر الواقع ودوافعها.
وبناء عليه، ركز فوكس حلب في سلسلة تحقيقات سابقة، بالدرجة الأولى على حالة سلب الأملاك ضمن مناطق سيطرة النظام، المدعومة بحزمة تشريعات سُخرت لأجلها مؤسسات الدولة وأجهزة النظام الأمنية، تجعل من سلب الأملاك مشكلة مزمنة لها تداعيات واسعة ومديدة، سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً، ثم انتقلنا ونحن نتحرى خيطاً جامعاً لمسألة حرمان السوريين من أملاكهم إلى مناطق سيطرة قسد، ولاحقاً إدلب، ورصدنا أوجه الشبه في هذه المأساة والاختلاف في الآليات والأهداف، والآن نحط الرحال في مناطق النفوذ التركي، نستعرض في تحقيقات ثلاث واقع الأملاك هناك.
كان من الأنسب بعد معاينة واقع الأملاك في مناطق النفوذ التركي، التي تحولت إلى ما يشبه “دويلات للفصائل” اللجوء إلى عملية نمذجة نُلخص من خلالها أبرز ما يُمكن أن يُقال عن هذه القضية، والحاجة إلى مثل هذه النمذجة مردها عوامل عديدة، أبرزها العامل الأمني وغياب المركزية في هذه الانتهاكات بما يشكل حالة فريدة بالمقارنة مع مناطق سيطرة النظام وقسد وهيئة تحرير الشام. ومن هنا تمثل مدينة الباب حالة نموذجية يمكن تعميمها إلى حد كبير على مناطق واسعة من مناطق النفوذ التركي، لنترك للتحقيقين اللاحقين تغطية الجوانب الأخرى.
يستند هذا التحقيق إلى مقابلات مكثفة مع ضحايا فقدوا أملاكهم، وكذلك مع ناشطين، وحقوقيين، ومصادر في دوائر مدنية وقضائية، وكذلك مصادر مطلعة وأخرى مقربة من الفصائل العسكرية، وسنحرص على تجنب إيراد أي اسم أو صفة، حماية للمصادر من الانتقام، نظراً إلى ما أثبته الواقع من انفلات أمني يسهل عمليات الاستهداف الشخصي المميت، تعزيزاً لالتزام فوكس حلب بحماية المصادر في مناطق النزاع. وهو التزام اضطرنا إلى استثناء معلومات وازنة يسهل الاستدلال إلى مصادرها خشية التعرض لها معنوياً ومادياً، وكذلك التحري عن بعض الانتهاكات من مصادر غير مباشرة.
الباب: خريطة السكان والسيطرة
كما أسلفنا، فإن اختيار مدينة الباب يأتي في إطار إيجاد مثال نموذجي قابل للتعميم، ومن هنا لا بد بداية من سرد بيانات تؤشر إلى الحالة العامة فيها. لجهة التبدل على صعيد جغرافية السكان والنفوذ.
لا تتوفر إحصائيات رسمية دقيقة تحدد عدد سكان مدينة الباب، لا منطقة الباب، باستثناء التعداد السكاني لعام 2004 والذي قدر عدد سكان المدينة بنحو 112 ألفا. وهي أرقام تضاعفت بطبيعة الحال، لكن تحديدها على وجه الدقة لم يكن يسيراً. وأفاد مصدر في المجلس المحلي في مدينة الباب أن عدد السكان الحاليين في مدينة الباب يبلغ 350 ألفا، تشمل السكان الأصليين والمهجرين والنازحين، وهو الرقم الذي يدل على الحاصلين على الهوية، في حين أن العدد يرتفع إلى نحو نصف مليون، ليشمل المسجلين وغير المسجلين، وقدر المصدر أن أكثر من 60 في المئة هم نازحون ومهجرون.
في ظل غياب الأرقام الرسمية الدقيقة، لا يمكن الجزم أن النسب السابقة بين سكان أصليين ومهجرين دقيقة، لكنها تعطي مؤشراً على التبدل الكبير في الخريطة السكانية للمدينة، ولهذا انعكاسات كبيرة على الصعد كافة.
إضافة إلى ما سبق، فإن المدينة وبعد طرد تنظيم داعش منها، يوجد فيها أو على أطرافها الفصائل التالية: الفيلق الثالث (الجبهة الشامية وجيش الإسلام)، وأحرار الشرقية، وحركة أحرار الشام. وفرقة الحمزة (الحمزات)، وفرقة ملكشاه، وفرقة السلطان مراد، وهناك نقاط عسكرية على أطراف مدينة الباب يوجد فيها: الفرقة الأولى (لواء الشمال)، وصقور الشام/ قطاع الشمال، وفرقة المعتصم. لكن يبقى الثقل الأكبر في المدينة هو للفيلق الثالث وأحرار الشرقية وفرقة الحمزة، فيما تسيطر مجموعة وليد الخويلد المعروف بـ “أبو وليد العزّي” على معبر أبو الزندين، والتابعة لـ “فرقة السلطان مراد”.
عسكرة القضاء
تخضع المحاكم التي تشكلت في مناطق الجيش الوطني المدعوم تركياً إلى نفوذ الفصائل العسكرية، وتعتمد على قوانين النظام السوري (أصول المحاكمات) دون قدرتها على تنفيذ هذه القوانين على أرض الواقع، ما يثير لدى السكان مخاوف حقيقية في استرداد حقوقهم، خاصة العقارية، والتي ما تزال حتى اليوم بين أخذ ورد رغم حسم هذه المحاكم لدعاوى قانونية مرفوعة لديها منذ سنوات.
السمة العامة للانتهاكات العقارية تتمثل في استيلاء وغصب للعقارات من جانب الفصائل العسكرية التابعة لما يعرف بالجيش الوطني، وكذلك عمليات الاستحواذ لإقامة معسكرات الجيش التركي، أو منشآت عامة، وتمس هذه الانتهاكات أملاك المدنيين وبدون تعويض، وكذلك الأملاك العامة.
وعطفاً على ما سبق، فقد كان البحث عن إحصائيات دقيقة حول حجم الانتهاك العقاري في هذه المنطقة أمراً بالغ الصعوبة، يعود ذلك لأسباب أمنية دفعت الكثير من السكان للخوف من توثيق هذه الانتهاكات، أو الحديث معنا، وكذلك الاستيلاء على عقارات لأشخاص يعيشون خارج المناطق المدروسة ولعدم استجابة الجهات الرسمية لرسائلنا حول هذه الانتهاكات، والتي لا تملك في الأصل أي إحصائيات عنها، سوى تلك الموجودة بدعاوى المحاكم القضائية المرفوعة.
وعليه، كان في صلب مساعي القائمين على التحقيق الوصول إلى وثائق حول عمليات غصب العقارات في مدينة الباب، وهي مهمة لم تكن سهلة لحرصنا على الوصول إليها من مصادر عدة ومن خارج الدوائر القضائية ما أمكن.
قضاء مشلول
يعرف قانون العقوبات السوري غصب العقار بأنه “أي استملاك على ملك الغير دون رضاه، أو وضع اليد دون توفر سند قانوني بالملكية أو وجود سبب مشروع”. ولا يشترط في غصب العقار “الإكراه”، وإنما يكتفي القانون بتصنيف من يضع يده على عقار دون وجود مبرر قانوني بـ “غاصب للعقار”.
وحددت المادتان 723 و 724 من قانون العقوبات عقوبة جريمة غصب العقار بالحبس حتى ستة أشهر لمن استولى على عقار أو قسم منه دون أن يحمل سنداً بالملكية أو التصرف، وسنة كاملة إذا رافق الجرم تهديداً أو جبراً على ملاك العقار، وتصل العقوبة إلى ثلاث سنوات إذا كان غاصبو العقار جماعة مؤلفة من شخصين مسلحين على الأقل، وهذا ما ينطبق على طبيعة معظم عمليات الغصب في الباب.
حصل فريق فوكس حلب من مصادر متعددة على دعاوى قضائية بجرم “غصب عقار” في مدينة الباب، وتأكد فوكس حلب عبر مصادره الخاصة من صحة هذه الوثائق.
تضم اللوائح 122 عقاراً موزعة وفق النسب التالية: 72,9 ٪ من الدعاوى مرفوعة ضد مدنيين مقربين من الفصائل العسكرية بواقع (89 قضية)، فيما كانت 27,1 ٪ من الدعاوى مرفوعة ضد أشخاص ينتمون إلى فصائل عسكرية منضوية ضمن الجيش الوطني، بواقع (33 قضية).
للواء السلطان مراد الحصة الأكبر من الدعاوى وتبلغ (8 دعاوى)، فصيل أحرار الشرقية (7 دعاوى)، لواء المنتصر وأحرار الشام (4 دعاوى لكل منها)، فيلق الشام (2 دعوى)، المجلس المحلي ومحمد الفاتح وفيلق أبو بكر والجبهة الشامية والمجلس العسكري ولواء الشمال ولواء السلطان ملك شاه وأبو غصب الحياني بـ (1 دعوى لكل منهم).
التمحيص في الدعاوى المرفوعة بين أن معظمها مرفوعة منذ ما يزيد عن عامين، بعضها يعود لخمس سنوات، وإن أكثر هذه القضايا حسمت، بينها على وجه الدقة 29 دعوى محسومة بقرار من المحكمة بين عامي 2020 و 2021، إلا أن أصحابها لم يحصلوا على حقهم باستعادة ملكياتهم ولم تتم محاسبة مغتصبي العقار وفق القوانين المعمول بها.
مصادر فوكس حلب القضائية والحقوقية تؤكد أن أكثر من مئة عقار يمكن تأكيد وقوع جريمة غصب العقار عليها في مدينة الباب، ورفع أصحابها قضايا أمام المحاكم المدنية والعسكرية، حسم قسم منها وصدرت قرارات باستعادتها دون القدرة على تنفيذ هذه الأحكام، رغم أن القانون يكفل في مثل هذه الحالات إعادة الحقوق إلى أصحابها.
عملية التدقيق وما أفادت به المصادر تؤكد أن 154 عقاراً مغتصباً (مزارع -منازل -محال)، بحسب الشكاوى المرفوعة للقضاء وللشرطة المدنية والعسكرية في مدينة الباب، جميعها دون جدوى وهي مرفوعة غالباً على قادة أو أفراد في فصائل أو أشخاص محسوبين على تلك الفصائل، جميع هذه القرارات كانت دون جدوى.
الجهات التي استولت على العقارات، أغلبها فصائل (اتخذت العقارات المسلوبة مقار لها)، أو قادة وعناصر فصائل، أو أشخاص منتمين لفصائل أو مدعومين منها -هؤلاء يستخدمون العقارات المسلوبة بشكل شخصي (مثل الإقامة فيها أو الانتفاع بتأجيرها).
في الذرائع
في محاولة لفهم منطق غصب العقارات يمكن القول إن معظم الفصائل تعتقد بأحقية كونها من “حررت المنطقة”، إضافة بطبيعة الحال إلى ذرائع أخرى منها “التشبيح أو الانتماء لداعش”، وهذان المبرران يقفان وراء الكثير من دوافع الفصائل لاغتصاب العقارات إضافة إلى البطش العاري غير المبرر، سعياً وراء منفعة مادية.
أحصى فوكس حلب أكثر من 60 عقاراً استُولي عليها، باعتبار أنّ أصحابها “شبّيحة” أو من الموالين للنظام، في مقدمتها مزرعة كبيرة لـ “حكمت الشهابي”، رئيس أركان النظام السابق أيام حافظ الأسد، مزرعته الواقعة على طريق الراعي، بعد استعادة مدينة الباب من النظام تحوّلت إلى مستشفى ميداني، وتعرضت للقصف مِراراً، وبعد استعادة المدينة من داعش سيطر على المزرعة فصيل “أحرار الشرقية” وما يزال إلى يومنا هذا.
حسب المعلومات التي حصل عليها فوكس حلب، فإن مزرعة حكمت الشهابي -بعد وفاته – باعها ابنه حازم المقيم في الولايات المتحدة إلى تاجر يدعى “محمد العلو” -ينحدر من بلدة تادف -وأنّه توصّل إلى اتفاق غير معروف بقيت بموجبه “أحرار الشرقية” في المزرعة.
ومن العقارات التي استُولي عليها أيضا تلك العائدة إلى “مروان سامي الخللو” (مزرعة على طريق الأزرق، فيلا في مدينة الباب، محلان وسط المدينة”. وأغلب مزارع المتهمين بأنهم شبيحة باتت مقرات للفصائل.
أحد أبناء عائلة “البهو” موجود في حلب، وعن طريق أقربائه كان يحاول ترميم مزرعته في الباب، قبل أن يستولي عليها فصيل “أحرار الشرقية” بذريعة اتهامه بأنه “شبيح”، رغم تأكيد معظم أهالي المدينة على نفي هذه التهمة عنه، وفق وصف مصادر مقربة، ويحاول صاحب المزرعة إلى اليوم إيجاد طريقة للعودة إلى مدينته لرفع دعوى قضائية لاسترجاع مزرعته بعد فشله بتقديم شكوى عن طريق توكيل أحد في المدينة، والعودة في مثل هذه الحالة خطرة لتجارب سابقة يجري خلالها اعتقال أشخاص لمجرد الشبهة ويعلق مدة طويلة بين أروقة السجون لا سيما العسكرية منها.
ذرائع التشبيح والدعشنة إن صح التعبير وإن كانت الفضلى للفصائل العسكرية إلا أن الإحصائيات والواقع تثبت أنها حججاً واهية نظراً إلى غياب هذه الذرائع عن عمليات غصب واسعة لا تفسر إلا كما أسلفنا، من خلال البطش العسكري لتحقيق أطماع مادية.
وتأكيداً للخلاصة السابقة، حصل فوكس حلب على وثيقة مؤرخة بتاريخ أكتوبر 2019 تتضمن حكماً من القضاء العسكري يدين “أبو جمو” أحد المنتمين لفصيل أحرار الشرقية بتهمة غصب عقار مطالبة بسجنه وإخلائه العقار، وقد أدلى المُغتصب بتصريح أمام القاضي وفق مصادر مطلعة أنه موجود في العقار المذكور بصفته “ضيف” جاء من المنطقة الشرقية، وأنه نفى وجود أي مبررات أمنية اعتادت الفصائل إلى سوقها لتبرير أفعالها، والخلاصة أن غاصب العقار رفض تسليمه، ليبدأ انتقال الاستحواذ عليه ضمن دائرة المتنفذين في الفصيل ذاته والفصائل الأخرى حتى اليوم، وهو من زاوية أخرى تقويض للحكم القضائي الصادر مع انتقال الملكية من غاصب إلى آخر، في ظل غياب قوة تنفيذية فاعلة.
أمراء حرب لكن صغار
واقع الحال في مدينة الباب والذي يمكن تعميمه في مناطق النفوذ التركي تتفشى فيه ظاهرة “الفصائلية” وبالتالي غياب قوة مركزية يمكن الاحتكام إليها أو تحميلها المسؤولية، ولم تفرز هذه الظاهرة أمراء حرب بارزين قد يسهمون في التقليل من تشتت المشهد، بل كل ما أفرزته سطوة متفشية غير منضبطة يمارسها أي مسلح طالما أنه يستقوي بمجموعته المحيطة أو الفصيل الذي ينتمي إليه، وهو ما يزيد من الانتهاكات لا كماً وحسب بل ونوعاً، وجميعها سالبة للحقوق، من أصغرها مثل اعتداء في الشارع، وصولاً إلى الاعتداء على حق التعبير والحياة.
ومن الأمثلة على ذلك، قضية فادي الموسى الصالح، والمعروف باسم فادي الديري والذي لا يرتقي حتى لوصفه بأنه “أمير حرب” بالمعنى المتداول. الديري، وهو نائب قائد فرقة السلطان ملك شاه (الفرقة 27) والتي يقودها محمود الباز، عضو مجلس قيادة “هيئة ثائرون للتحرير” في الجيش الوطني، استولى على سبع مزارع تعود ملكيتها لكل من (أنس الشواف، الشيخ محمود مسعود، أبو ابراهيم الشامي، حسن اليونس، عامر سكر، طارق المصري، أبو نديم البزيعي والأخير تحولت مزرعته إلى مقر عسكري للفرقة)، إضافة لمبنى مؤلف من ست شقق تعود ملكيتها لـ يوسف قبلاوي، وبناء من ثلاثة طوابق لـ محمد بشير زعيتر، وبناء من ثمان شقق لـ محمد علي القديراني و19 شقة سكنية و 4 محال تجارية في المدينة. إضافة لجرائم غصب العقار ادعى ملاك لبعض هذه العقارات على الديري بسرقة ممتلكات مزارعهم وعقاراتهم أيضاً، بعد الاستيلاء عليها في عام 2016.
يقول يوسف قبلاوي في فيديو نشرته قناة أورينت، إنه وبعد المعارك مع تنظيم داعش اضطر لمغادرة مبناه المؤلف من ست شقق سكنية إلى ريف حلب الشمالي، وبعد انتهاك المعارك عاد إلى مدينة الباب ليجد مسلحين يسكنون البناء وقد كُتب عليه “لواء البيازيد” الذي يقوده فادي الديري.
وأضاف قبلاوي في الفيديو المشار إليه أنه حاول استعادة مبناه دون جدوى، حتى بعد خروج أحد العناصر وتسليمه لإحدى الشقق تفاجأ برتل من نحو ثلاثين عنصراً يحملون السلاح ويقودهم (أبو سليمان الدبس) يدخل إليه ويطرده من المنزل بحجة “هذه البناية لنا، نحن حررنا البلد، أنتو وين كنتو”. وهي الذريعة التي أشرنا إليها سابقًا.
لجأ يوسف، على حد قوله، إلى الشرطتين المدنية والعسكرية والمجلس العسكري والقضاء لكن دون جدوى، بل تعرض للتهديد من قبل أحد عناصر الديري الذي توعد بقتلهم و “إرجاعهم بأكياس إن حاولوا الوصول إلى المبنى”.
حصل فوكس حلب على ضبوط شرطة وإدارة القضاء العسكري والنائب العام والعائدة لأصحاب خمس مزارع استولى عليها الديري، وألزمته المحكمة بإعادة المزارع لأصحابها، وهو ما لم يحدث حتى الآن، وفق أكثر من مصدر موثوق. وكانت الحجة بعدم تسليمها أنها “مقرات عسكرية” في جميع الوثائق التي حصلنا عليها.
تتبع قضية الديري أفضت إلى أنه يستولي على تلك العقارات منذ 5 سنوات، أي بعد استعادة مدينة الباب من تنظيم “داعش” ضمن عملية “درع الفرات”، مطلع العام 2017. ووصل الأمر إلى خروج مظاهرات متضامنة مع أصحاب العقارات المسلوبة -آخرها نهاية شهر أيلول 2022 -طالب فيها المتظاهرون ضمن جُمعتين أطلقوا عليهما “جمعة الكرامة” و”جمعة استرداد الحقوق”، باستعادة العقارات ومحاسبة المستولين عليها.
بعد المظاهرات ضد مغتصبي الحقوق وحملة شهدتها مدينة الباب برزت 134 دعوى مرفوعة ضد مغتصبي العقارات، رفعت بعد مظاهرات خرج فيها أصحاب العقارات للمطالبة بحقوقهم وحملة استعادة الحقوق المغتصبة، وطُلب منهم رفع دعاوى بذلك، ولكنها بقيت مجمّدة في القضاء حتى الآن. وأغلب الدعاوى لم تُرفع باسم فصيل بعينه، إنما باسم مغتصب العقار الذي يكون قيادياً أو عنصراً في فصيل ما، أو محسوب على فصيل ما.
الحق حين تصنعه القوة
احتكام أصحاب الحقوق والناشطين إلى الشارع من خلال المظاهرات يرسم حداً فاصلاً لم يتضح حتى والمتمثل في أن الفصائل تثبت على أنها سلطة أمر واقع لا “قوة تحرير”، بل بعض الناشطين قالوا إن بعض الفصائل هي قوة احتلال لا تختلف عن الاحتلالات في بقية الجغرافية السورية، في تباعد واضح عن اعتبار تلك الفصائل ممثلة للثورة السورية.
وأدلة ما سبق كثيرة فإضافة إلى الغصب بالقوة العارية، تعرض بعض أصحاب العقارات المسلوبة للابتزاز لا سيما من جانب فصيل “السلطان ملك شاه” الذي حاول شراء تلك العقارات بأسعار زهيدة جداً مقابل الحصول على عقود تنازل من أصحابها، ووصل الابتزاز إلى التهديد بالقتل ولكن معظمهم رفض تلك العروض وأصرّوا على استعادة أملاكهم المسلوبة. لتبقى المعركة قائمة بين حق عار وقوة عارية.
الخلاصة السابقة تتقاطع مع شواهد منها إصدار عدد من أصحاب العقارات ثلاثة بيانات تنذر ” فادي الديري” الذي وصفته بـ”اللص والشبّيح” وتطالب الفصائل بالتدخّل لإخراجه من أملاكهم المستباحة، قائلين للفصائل: “لم تتمكنوا من إعادة ممتلكاتنا التي يستولي عليها فادي الديري وزبانيته منذ ما يزيد عن 5سنوات، كيف نثق بكم في تحرير سوريا”. وهذا ما يعيدنا إلى أن قضية غصب العقارات تتصل جذرياً بالواقع السياسي والاجتماعي في سوريا. وقد تؤدي في مناطق النفوذ التركي إلى انفجار يعيد ترتيب المشهد هناك، وفق رأي بعض المراقبين.
قبل إصدار البيانات، كان هناك محاولة للتواصل مع فادي الديري ومناقشة مسألة العقارات على غرفة واتس آب تضم معظم المسؤولين والناشطين في مدينة الباب، وتم إضافته للغرفة، ولكنه أرسل ردّاً جاهزاً يشير فيه إلى أنّه جاهز “تحت سقف القضاء والمؤسسات” في حال إثبات غصب عقار من قبل عناصره أو أمر إخلاء عقار صادر من القضاء، وأنّ “هيئة ثائرون” هي المسؤولة عن تنفيذ ذلك، ثم غادر فوراً.
وبحسب المصادر فإنّ “هيئة ثائرون للتحرير” اتفقت مع أصحاب مزارع ومنازل وعقارات يستولي عليها “فادي الديري”، على إعادتها لهم بعد ستة أشهر غير قابلة للتمديد، وأن يتعهد أصحاب المزارع والعقارات والمنازل في حال قرار بيعها مستقبلاً بأن تكون أولوية البيع لـ “هيئة ثائرون”، التي تتعهد أيضاً بتسليم العقارات لأصحابها بعد انتهاء المدة المتفق عليها، سواء أكانت “هيئة ثائرون” أم حملت اسماً آخر مستقبلاً، وسواء كان “فادي الديري” ضمن صفوفها أو خارجها.
هنا تبرز الزبائنية في طريقة تعاطي الفصائل على اختلافها، ومنحها شرعية لنفسها لا تستند على أي أساس سوى الإحساس الفائض بالقوة، وهنا نتحدث عن هيئة يفترض أنها ملاذ أخير لأصحاب الحقوق. الشرط آنف الذكر والقضية برمتها فضيحة قانونية وأخلاقية، وفق وصف مصدر حقوقي مطلع عليها، خاصة أن قسماً من هذه العقارات صدر بحقها أحكاماً قضائية.
ومن حق المصادر ذاتها أن تتساءل ماذا لو عصفت بهذا الاتفاق التغييرات السريعة المتلاحقة في المنطقة في ظل عمليات الاندماج والانشقاق، في إعادة تشكيل للمشهد الفصائلي لا يتوقف، ومنها مثلاً إمكانية حل “هيئة ثائرون” بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة. وأيضا ماذا تعني مهلة الأشهر الستة، ولماذا لا تنفذ هذه القرارات مباشرة، خاصة وأنها مثبتة بحكم قضائي، وأن أحد أبرز أعضاء الهيئة هو قائد للفرقة التي يتبع لها الديري نفسه! ربما الإجابة تضيع لأن المعنيين بالتنفيذ أمراء حرب صغار تحكمهم توازنات مؤقتة وأطماع مادية محدودة، وإحساس عميق بالتفوق، وفق وصف المصادر.
آخر عمليات الغصب حدثت، رغم وعود قسم من مغتصبي العقارات برد الممتلكات لأصحابها في الفترة الأخيرة، كانت من مجموعة يقودها “ابراهيم البيراوي” ويتبع لفرقة الحمزة، إذ استولت المجموعة في (19 تشرين الثاني 2022) على كامل تل بطنان، إضافة لمزرعة قريبة من التل لـ عائلة “الطالب” وتمركزوا فيها أيضاً.. ومنعوا الاقتراب من التل بشكل كامل.
التل والمزرعة المجاورة هي أملاك خاصة، ويندرج الاستيلاء عليه تحت بند غصب العقار وانتزاعه من أصحابه.
وبحسب المصادر، فإن التل ليس من أملاك الدولة وليس وقفاً، إنّما هو ملكية خاصة ويملك أصحابه سند ملكية (طابو) وهو الآن من القمة إلى ما قبل قاعدته – كأنّه جبل أجرد- بينما سفحه ومحيطه أراضٍ مزروعة بالزيتون والفستق، وأغلب التل والحصة الأكبر فيه تعود ملكيته لـ عائلات: العكيل، عفورة، هاشم (أبناء عم من عشيرة العفادلة).
الأتراك: الرقم الصعب
“نحن هنا لحمايتكم في الأصل”، الرد التركي الدائم على أصحاب العقارات التي بنيت عليها قواعد عسكرية تركية أو مقرات لهم، دون عقود إيجار أو دفع تعويضات، وفي حالات كثيرة منع أصحاب المنازل من العودة إليها وجرفت منازلهم، كما حدث في جبل الشيخ عقيل.
يقول من تحدثنا معهم من أصحاب العقارات، إضافة لناشطين في المدينة إنهم، أي القوات التركية، لا ينتظرون موافقة أحد، هم فقط يختارون الأرض أو العقار الذي يريدونه ويقيمون فيه دون تعويض أو عقود إيجار. يوجد في الباب وريفها نحو 30 قاعدة ونقطة عسكرية للجيش التركي، أبرزها “قاعدة جبل عقيل”.
في حادثة متداولة في مدينة الباب أن صاحب مدجنة في مدينة الباب، اعترض على بناء نقطة عسكرية في مدجنته خلف سوق الهال الجديد على طريق حلب جنوب غربي الباب، وطالب إمّا بثمن الأرض أو بإيجار شهري يتم الاتفاق عليه، استُدعي صاحب المدجنة إلى قاعدة الجبل، وهناك سئل: أين تقيم أنت؟ فقال في تركيا، فطرده الضابط من المكتب وقال لأحد الموجودين “ذكروني باسمو”. في وعيد ضمني دفع صاحب المدجنة إلى الصمت ووقف كل مطالبه.
جبل عقيل نموذجاً
كان جبل عقيل أوّل المناطق التي تقدّم فيها الجيش السوري الحر والقوات التركية في عملية السيطرة على مدينة الباب ضمن عملية “درع الفرات”، مطلع العام 2017، وشهد معارك كبيرة مع تنظيم “داعش” الذي تمركز جيّداً في الجبل، الذي كان سبباً رئيساً لسيطرته على كامل مدينة الباب حين اقتحامها برتل عمر الشيشاني، مطلع العام 2014.
ينتصب جبل عقيل على ارتفاع 500 متر جنوب غربي الباب، ويطل على كامل المدينة من ثلاث جهات. السيطرة عليه تعني إحكام السيطرة على كامل المدينة، ومن أجل ذلك حاولت “داعش” الدفاع عنه بشراسة وشهد معارك عنيفة وهزيمةً أولّية للقوات التركية قتل فيها العديد من جنودها، بينهم ضابط برتبة رائد “بولنت البيرق”، وأطلق اسمه على الجبل “جبل الشهيد الرائد بولنت ألبيرق”.
خلال المعارك تعرّض الجبل لقصف مكثّف بالمدفعية والصواريخ، وخاصةً “مشفى الباب الوطني” الذي تمركزت فيها قناصة “داعش”، وتعرّض المشفى ومعظم المنازل في الجبل لدمار كبير، مثل مدينة الباب التي شهدت دماراً كبيراً يقدّر بأكثر من 50%، شملت دمار المشفى ومعظم المرافق “الحكومية” والمؤسسات المدنية: (البريد، القصر العدلي، السرايا/ النفوس، الثانوية الشرعية للبنات، المجمّع التربوي ومجمّع المدارس) وغير ذلك، تقول المصادر إنّ الدمار الذي شهدته مدينة الباب خلال استعادتها من “داعش”، كان أكبر بكثير من القصف الذي تعرّضت له المدينة طوال سنوات تحريرها من قوات النظام.
بعد السيطرة الكاملة على مدينة الباب وجبل عقيل. عمِلت القوات التركية على هدم مشفى الباب الوطني بالكامل وهدم وجرف ما تبقّى من منازل في عموم قمة الجبل، وتحويل الجبل إلى قاعدة عسكرية هي الأكبر تقريباً بين قواعدها في عموم ريف حلب.
إخلاء كامل
أحد سكان جبل عقيل في مدينة الباب، يملك أوراقاً تثبت ملكيته لأحد المنازل في الجبل الذي جرّفت منازله وتحوّلت إلى أكبر القواعد العسكرية التركية في المنطقة. يقول لفوكس حلب إن منازل جبل عقيل في الأصل كانت “وقف” أي تعود ملكيتها لوزارة الأوقاف السورية منذ ما يزيد عن مئة سنة، توارثها الأشخاص بمرور الزمن، منذ العهد العثماني. لاحقاً كان السكان يدفعون أجوراً زهيدة شهرية وعوائد سنوية رمزية لمديرية أوقاف الباب قبل عام 2011، مقابل الانتفاع بالسكن. وهذا ما تأكد منه فوكس حلب من مصادر أخرى متقاطعة.
بعض سكان العقارات في جبل عقيل تملكوا هذه المنازل بموجب قرار من وزارة الأوقاف ورئاسة مجلس الوزراء في النظام السوري قبل عام 2011، بعد دفع ثمنها أصولاً.
يخبرنا صاحب عقار آخر أن عدد المنازل في جبل عقيل نحو 52منزلاً (بعض المنازل قُسّمت إلى منزلين وأكثر، غالباً عند تزويج صاحب المنزل لأولاده)، وأن نحو 200 منزل منها تملكها أصحابها بعد دفع ثمنها، بقرار من وزارة الأوقاف ورئاسة مجلس الوزراء، بينما تعود ملكية باقي أراضي جبل عقيل لمديرية الأوقاف في المدينة والبناء للسكان، وكانوا يدفعون مقابل ذلك إيجاراً شهرياً زهيداً وعوائد سنوية رمزية للأوقاف.
جميع المنازل في جبل عقيل أزيلت واستولي عليها دون تعويض حتى الآن، رغم المطالبات الكثيرة من قبل الأهالي بمنازلهم أو التعويض عنها.
وانفجر الغضب
أثارت ممارسة تركيا غضب واستياء مئات الأهالي من سكّان جبل عقيل، الذين فقدوا منازلهم، مع منع القوات التركية لهم حتى الاقتراب من أنقاض منازلهم بحثاً عن أوراق وثبوتيات، ما دفعهم للخروج بمظاهرات تطالب بتعويضهم، خاصةً بعد تعثّرهم في استئجار منازل ضمن مدينة الباب التي خرجت حديثاً من معركة شرسة خلّفت دماراً كبيراً، ما أدّى إلى قلة المنازل الكافية لاستيعاب مَن تبقّى في المدينة والعائدين إليها بعد نزوحٍ لأشهر خلال معارك استعادتها، فضلاً عن عودة نازحين كثيرين من سكّانها والمقيمين فيها، نزحوا عند سيطرة “داعش” على المدينة، مطلع 2014.
وهكذا عاد سكان جبل عقيل من نزوحهم إلى نزوح جديد داخل مدينتهم، وعلى مدار 4 سنوات تكرّرت المظاهرات أمام القاعدة التركية التي أقيمت على أنقاض منازل الأهالي في جبل عقيل، خاصةً بسبب عدم وفاء القوات التركية ومجلس الباب المحلي بالوعود التي أطلقوها لتعويض أهالي الجبل.
في مطلع شهر أغسطس / آب 2019، أعلن المجلس المحلي في مدينة الباب عن أنّ اللجنة الخاصة بمسح وتوثيق أراضي حي جبل عقيل ما تزال مستمرة في عملها وتستقبل طلبات الأهالي في مديرية الإعمار. وفي 9 نوفمبر / تشرين الثاني 2020، أنهت اللجنة المكلّفة بمسح وجمع أملاك جبل عقيل أعمالها وأصدرت تقريراً بذلك، وقال المجلس المحلي في مدينة الباب إنّه سيتم نشر التقرير في لوحة الإعلانات، لِمَن يرغب بالاعتراض على قرار اللجنة.
حبر على ورق
جميع الوعود لم تنفذ، فعادت المظاهرات مجدّداً، إلى أن أصدر المجلس المحلي، مطلع مايو / أيار 2021، قراراً يقضي بتعويض المتضررين الذين فقدوا منازلهم في جبل عقيل.
وجاء في القرار: “بناء على قرار الأمانة العامة الصادر بتاريخ 3-5-2021 المتعلق بتخصيص أرض لتعويض أهالي جبل عقيل لـ أملاكهم في محاضر الجبل، تم تحديد موقع أرض بديلة غربي وشمالي جبل عقيل على المحاضر (450-128) منطقة عقارية أولى التابعة لمديرية الأوقاف”.
وبحسب القرار، تم تقسيم المنطقة إلى محاضر وتخطيطها ودراسة وتقديم الخدمات لها من مسجد ومدرسة وطرق وحدائق ومياه وصرف صحي، موضحاً القرار أنّ التوزيع سيكون وفق الآتي:
- يأخذ كل مالك نفس مساحة الأرض التي كان يملكها بموجب قائمة المستفيدين.
- يتنازل المالك عن ملكيته بالجبل مقابل توثيق ملكيته للعقار الجديد لاحقاً بعد الانتهاء من التخصيص.
- يتم توثيق عقود الإيجار مع الأوقاف بعد تسوية أوضاعهم في حال وجود ذمم سابقة لاحقاً بعد الانتهاء من التخصيص.
- يحق للمستفيد اختيار منطقة العقار الذي يرغب بتخصيصها له ضمن المخطط المرفق ما لم يكن مشغولاُ من مستفيد آخر.
وأشار القرار إلى منح 10 أيام لمراجعة المجلس واختيار العقار المناسب وتخصيصه بموجب الرقم المتسلسل في قائمة المستفيدين، شريطة حضور جميع المستفيدين من الطلب حسب الرقم المتسلسل أو إحضار وكالة صادرة عن كاتب العدل لمقدم الطلب بالنيابة عن المستفيد.
ما تزال قضية جبل عقيل دون حل حتى اللحظة، القرارات جميعها لم تنفذ، ولم تف الجهات المسؤولة بوعودها التي يراها قسم من أصحاب العقارات مجحفة بحقهم، حتى وإن نفذت.
يقول ملاك في جبل عقيل تحدثنا معهم، إنه يجب التفريق في الملكية بين من يملك عقود تمليك أو عقود إيجار، أصحاب عقود التمليك دفعوا ثمن عقاراتهم سابقاً للأوقاف، وحصلوا على عقود، فكيف يمكن أن يكون التعويض لهم بـأرض من أملاك الأوقاف ثانية، دون سندات ملكية!
يضيف من تحدثنا معهم أن الجهات المسؤولة لم تتحدث عن تعويضات البناء، لأن ما هدم وجرف كانت منازل سكنية وليست أراض قاحلة، مستنكرين أن على المستفيدين من القرار بناء منازلهم بأنفسهم من جديد!
قبول سكان جبل عقيل بقرارات المجلس المحلي والقوات التركية جاء بعد “فقدانهم لأي أمل بالتعويض”، رغم تحول قضيتهم وتداولها في الأوساط المحلية والدولية، لكن حتى هذه القرارات المجحفة والتي لا تتعدى مساحة أرض غير مبنية على أرض تتبع للأوقاف من جديد لم تدخل حيز التنفيذ منذ ما يزيد عن عامين، ولا زالت القرارات حبرا على ورق، والوعود تذروها الريح.
“نحن الدولة”
جبل عقيل حلقة في سلسلة من قضايا غصب العقارات في مدينة الباب، والتي امتدت إلى المرافق العامة والخدمية والمدارس التي تحولت إلى قواعد ومقار عسكرية أو مؤسسات مدنية، ومنها:
- الشرطة العسكرية والمجلس المحلي في مدرسة الصناعة بمدينة الباب.
- الشرطة والأمن العام في مدرسة البحتري القديمة.
- مقر “فرقة الحمزة” (الحمزات) في مدرسة الزراعة، خرجت منها الفرقة الآن وحالياً هي بعهدة “أحرار الشام”، ولم تُسلّم إلى المجلس المحلي لإعادتها مؤسسة مدنية كما كانت.
وبناء على ما سبق، فإن الفصائل العسكرية والموالين لها يتصرفون وكأنهم فوق القانون، في عسكرة للأوضاع تشل عمل المؤسسات المدنية، وهو واقع دفع كثيرون إلى اليأس وعدم المضي قدماً للمطالبة بحقوقهم وخصوصا أنهم قد يتعرضون للأذى أو يفقدون حياتهم ببساطة، بعد رسالة تهديد قصير يتلقونها على تطبيق واتس آب، لتتكفل رصاصة في الشارع بالأمر.
الممارسات السابقة تتركز في التجمعات السكانية الكبرى بشكل أكثر حدة، وهو أيضا ما يبرر الحاجة إلى التوقف عند نموذج كما فعلنا في مدينة الباب، وقد ينسحب الأمر إلى مدن أخرى مثل جرابلس وإعزاز، فيما تكون حدة هذه الممارسات أقل في القرى والبلدات، لكنها تحتفظ بذات الطريقة التي فصلناها سابقا، من حيث الأدوات والذرائع والنتائج.
ووثق فوكس حلب فشل دعوى لرجل يملك أرضاً زراعية في قرية كلجبرين، بالقرب من مدينة إعزاز، استولت عليها القوات التركية وبنت فيها قاعدة عسكرية، وقوبلت دعوى الاسترداد المرفوعة في محكمة إعزاز بالرفض، وتعطلت كون الجيش التركي يسيطر عليها. كذلك في مدينة مارع جنوب شرقي إعزاز، بنيت قاعدتان للجيش التركي، الأولى أقيمت على أرضٍ يُتهم صاحبها بأنّه من”داعش”، والثانية على أرض تابعة لـ “الأوقاف”. كما استولت “فرقة المعتصم” في الجيش الوطني على أرضٍ زراعية على طريق دابق شمال شرقي مارع، وحوّلتها لـ قاعدة عسكرية، واتهمت صاحب الأرض بأنّه “شبّيح”.
المجلس المحلي: جزء من المشكلة أم الحل
بعد الدمار الكبير الذي طال “مستشفى الباب الوطني” الواقع على قمة جبل عقيل غربي مدينة الباب، خلال معارك استعادة المدينة من “داعش”، تم بناء مستشفى جديد بالاشتراك بين الحكومة التركية ومجلس الباب المحلي على أرضٍ جنوب غربي المدينة تعود ملكيتها لأحد تجّار المدينة، وجرى البناء دون علم صاحب العقار الذي كان مقيماً في تركيا، وعند معرفته تقدّم بشكوى وأقرّ القضاء له بملكيته على الأرض وأقرّ بإعادتها له أو إعطائه ثمنها، ولكن المجلس رفض وأراد أن يعطيه عوضاً عنها أرضاً من أملاك الدولة قريبة من المشفى، فرفض، يقول “إن أرضه “طابو أخضر”، ولماذا لم يبنِ المجلس المشفى على الأرض التي تعود ملكيتها لأملاك الدولة أساساً وهي قريبة من المكان، وما يزال الأمر معلّقاً حتى الآن.
بعيداً عن الملكيات الخاصة منح المجلس المحلي أراض من الملكيات العامة للقوات التركية أو الفصائل العسكرية إضافة للمنظمات لبناء تجمعات سكنية عليها.
مصدر مطلع على أعمال المجلس المحلي قال إن معظم أملاك الدولة في مناطق سيطرة الجيش الوطني، وضعت “المجالس المحلية” يدها عليها، وهي تمنحها إلى منظمات لبناء وحدات سكنية عليها عوضاً عن المخيمات، أو تؤجّرها لأفراد، ما عدا التي تستولي عليها الفصائل أو الجيش التركي.
ويضيف أن أغلب المجمّعات السكنية في مدينة الباب بُنيت على أراضٍ مشتراة أو مستأجرة من أصحابها، ومع ذلك يوجد بعض المجمّعات التي بُنيت على أراضٍ تعود ملكيتها للدولة، أبرزها:
- مجمّع سكني على طريق الأزرق -بنته منظمات إنسانية لصالح عائلات مهجّرة من جبل الزاوية جنوبي إدلب (معظم العائلات هم قادة وعناصر صقور الشام).
- قرية سكنية بنتها “مؤسسة قطر الخيرية” على طريق الراعي -الباب، وتُعرف محلياً بـ “المجمّع القطري”.
- قرية سكنية على طريق قرية سوسيان، أغلبها لـ عائلات قادة وعناصر من “أحرار الشام + جيش الإسلام”.
في بلدتي بزاعة وقباسين المجاورتين لمدينة الباب يوجد أيضاً عقارات تعود لـ أملاك الدولة، ومنها مقار لبعض الفصائل، وبعضها بني عليها جمعيات سكنية لـ صالح “منظمة أنصر” و”منظمة عطاء” في بزاعة، وجميعة سكنية على أرض أملاك دولة لصالح “منظمة عطاء”.
عود على بدء
أمام القوة القهرية التي تمثلها الفصائل العسكرية مقابل هيئات مدنية لا حول لها ولا قوة استطاع البعض فعلاً من استعادة عقاره المغتصب، وهي حالات فردية محدودة للغاية وفريدة في آن معاً، منها محلان تجاريان ومكاتب كانت تستولي عليها حركة أحرار الشام، وثلاثة منازل ومحل تجاري كانت تستولي عليهم “أحرار الشرقية”.، إضافة لعقارات لم يرفع أصحابها دعاوى استرداد، إنما استعادوها باتفاق “غير معلوم”، وغالباً مقابل مبلغ مالي، من بينها منازل وأبنية كانت تستولي عليها “ثائرون”.
وعلى سبيل المثال لجأ ملاك العقارات إلى استعادة الشرارة التي أطلقت الربيع العربي حين عمد إلى التهديد بفعل ما فعله محمد البوعزيزي في ديسمبر كانون الأول 2011. وذلك حين أقدم شخص اغتصب فصيل أحرار الشرقية عقاره في مدينة الباب، وبعد تقديم شكاوى متكررة للشرطة العسكرية والقضاء، وحصوله على حكم باستعادة عقاره، دون جدوى، أقدم على التهديد بحرق نفسه بعد سكب مادة البنزين على جسده أمام منزله، قائلاً إما أن أموت أو يعود إليّ منزلي، وتجمعت الشرطة والأهالي وتحوّل الأمر إلى ضغط شعبي، اضطر قيادة “أحرار الشرقية” إلى إخلاء المنزل وإعادته له. يقول من تحدثنا معهم هل علينا نحن إحراق أنفسنا لاستعادة أملاكنا المغصوبة رغم وجود قرارات مبرمة من القضاء بحقنا فيها ووجوب إعادتها لنا. ويضيف أحدهم أن ممكن القهر مضاعف، لأنه يُستّبد بنا من جانب قوى تدّعي أنها محررِة ومحافِظة على الحقوق والكرامات. ويختم: إنهم يسلبون منازلنا وحياتنا وثورتنا.
فوكس حلب يمنح كل الأسماء الواردة في التحقيق، الفردية والاعتبارية، حق الرد أصولا.