في خمسينيات القرن الماضي كان جدي يعمل مزارعاً، يضمن الأراضي الزراعية و يحصدها في بلدته كفرنبل، وكان أحد أصحاب الورش التي تعمل في الحصاد رجلٌ يدعى “كنهر” عُرف بحُسنِ معاملته وبراعة إدارته لأعضاء ورشته ما مكنه من التفوق على ورش الحصاد الأخرى بأشواط، ومن شدة إعجاب جدي بهذا الرجل، أسمى أول مولودٍ له من أبنائه على اسمه: “كنهر”، ولم يعبأ بغرابة الاسم في بلدته.
أسباب مختلفة تدفع العائلات لتسمية أولادها أسماءً غير شائعة أو متداولة في منطقتها أو بعيدة عن ثقافتها، وخلال العقود الماضية كانت تسميات المواليد بين العوائل السورية مرتبطة دائماً بأحداث اجتماعية أو ثقافية أو سياسية، ففي فترة الوحدة بين مصر وسوريا (1958- 1961) انتشر في سوريا اسميّ “جمال” و”ناصر” انطلاقاً من إعجابهم بشخصية الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر.
وفي فترة صعود الدراما السورية منتصف التسعينات، اتجه بعض هواة متابعة المسلسلات الدرامية، لتسمية أولادهم أسماءً لأبطال أو شخصيات درامية أعجبوا بها، وهذا ما حدث مع إبراهيم الاسماعيل، من جبل الزاوية، عندما أعجب بشخصية “صقر” بطل مسلسل الفوارس، الفارس العربي الذي عمل على جمع شتات القبائل العربية لمحاربة الروم، ما دفع إبراهيم لإطلاق اسم “صقر” على أحد أبنائه.
كان لوقع الأحداث التي جرت في سوريا في العقد الأخير، من ثورة وحرب ونزوح وتهجير، أثرها على اختيار السوريين أسماء لأبنائهم وبناتهم، ولعب التوجه السياسي للآباء دوراً في انتقائها كحال الشاب ياسر، الذي لقبته عائلته وأصدقاؤه بـ”أبو بشار” نسبة إلى اسم والده “بشار”، وتسمية المولود الأول من الذكور أو الإناث باسم والديهم، عادة متوارثة في ثقافة المجتمعات العربية.
بعد عامين من انطلاقة من الثورة السورية رُزق ياسر بمولود ذكر، لكن رفض تسميته على اسم والده “بشار”، لما يحمله من أبعاد سياسية، إذ بات الاسم مكروهاً لغالبية السوريين المعارضين لنظام بشار الأسد، يقول ياسر: “لو كان الأمر بيدي لغيّرت اسم والدي .. أشعر بالحقد والكره عند توارد ذلك الاسم على مسمعي”.
وسجلت إحصائية لدائرة نفوس إدلب تراجعاً هائلاً في تداول اسم “بشار” بين أسماء المواليد، ووثقت 118 حالة في السجلات المدنية للشمال السوري، منذ بداية عام 2011 وحتى يومنا هذا، وتراجع تداول الاسم نتيجة طبيعية، إذ أن غالبية من يعيش في تلك المنطقة معارضين للنظام السوري ورئيسه بشار الأسد، والأخير لم يتوانى عن تغيير مصير حياة من يعيشون في تلك البقعة للأسوأ، من قصف وتدمير ومجازر، إلى جانب عائلات وأهالي ريف دمشق والغوطة الشرقية ممن هُجِّروا إلى الشمال.
ارتباط أسماء الأبناء بمصير الآباء
اختيار أسماء المواليد أصبح انعكاساً لبؤس الواقع الذي يعيش تحت وطأته الأهالي، من خلال منح المولود، سواء كان أنثى أم ذكراً، اسماً يلخص الوضع المعيشي لوالديه، وهو حال عبد الله العمر، الذي أطلق على مولودته الوافدة اسم “فراق”، بعد شهرين من نزوحه وعائلته من بلدة معرة النعمان بعد سيطرة قوات النظام السوري عليها، يقول العمر: “اخترت اسم فراق ليكون ذكرى لتاريخ فراقنا عن بلدتنا، ولكي أتذكر الأيام الجميلة التي قضيتها هناك قبل فراقها كلما تردد الاسم على مسامعي”.
أما عبد السلام المحمد، نازح من بلدة شيخون، ويقيم في أحد مخيمات كفر دريان، التابعة لبلدة سرمدا، أسمى إحدى بناته “بسنيا”، على اسم البلدة التي ولدت فيها، وبسنيا بلدة تابعة لمنطقة حارم، وهي محطة من محطات نزوح لا يعتقد عبد السلام أنها انتهت، يقول ممازحاً: “أقسمت أن أُسمّي أولادي على أسماء الأماكن التي نزحت وأقمت فيها، إلى حين العودة لقريتنا، وفي الوقت الحالي أوقفنا خلفة الأولاد، بانتظار خروجنا من كفر دريان كي لا أتراجع عن قسمي”.
وأطلق عماد سلطان، مهجر من ريف درعا، اسم “هاجر” على ابنته، لأنها ولدت بعد أيام قليلة من وصوله وعائلته إلى الشمال السوري، دلالة على هجرتهم من محافظة درعا، وعائلة أخرى كانت قد هُجِّرت قبل خمسة أعوام من حي الوعر بمدينة حمص، وتعيش حالياً في الشمال السوري، أسمت ابنتها “غُربة”، لأنها ولدت بعيداً عن مدينتهم ومسقط رأسهم.
يقول من التقيناهم من أهالٍ إن الظروف المعيشية والأحداث التي يعيشونها هي ما دفعتهم لاختيار تلك الأسماء، بالرغم من كونها تحمل مفاهيم الفقد، إلا أنهم اختاروها لتكون ذكرى تحمل فترة مؤلمة مروا بها في حياتهم.
وخلال الخمس سنوات الماضية تصدر كل من أسماء أحمد ومحمد وعبد الله ومصطفى وإبراهيم قائمة الأسماء الأكثر تداولاً بين الذكور، وشام وخديجة وفاطمة وعائشة ومريم، قائمة الأسماء الأكثر تسمية بين الإناث، وذلك بحسب معاون وزير الداخلية للشؤون المدنية لدى حكومة الإنقاذ السيد طلال زعيب.
أسماء ذات طابع ديني
لم يكن هذا التحول باختيار أسماء المواليد وليد الوضع الذي يعيشه بعض الأهالي فقط، فالبعض اختار أسماء لأولاده تأثراً بتيار ديني أو فصيل عسكري انضم إليه، وهذا ما حدث مع أحمد الذي التحق بعدة فصائل عسكرية غلب عليها الطابع الإسلامي.
لدى أحمد ستة أبناء، ثلاثة منهم ولدوا بعد انطلاقة الثورة السورية يقول: “كانت الموضة السائدة هي التي تسيطر على اختيار الاسم، لكن أدركت مؤخراً بأن اختيار الاسم أمانة تقع على عاتق الأهل، ولو عاد بي الزمان للخلف لما اخترت تلك الأسماء لأولادي الثلاثة الكبار”.
حالات الفقد أو الاعتقال أو الأسر كان لها الأثر أيضاً في تكرار الأسماء على المواليد الجديدة، وهو ما ينطبق على عمار الخطيب، الذي فقد اثنين من أولاده محمد وعبد الله في حرم جامعة حلب، بعد اعتقالهما من قبل قوات النظام، إذ انقطعت أخبار الشابين لسنوات، وتوالت الأخبار عن وفاتهما أثناء حمل والدتهما، وحين ولدت، أنجبت توأماً، ليجد والدا الشابين فرصة في إعادة إحياء ذكرى ولديهما المفقودين عبر تسمية التوأم الوافد بـ “محمد وعبد الله”.
وحسب إحصائية لدائرة نفوس إدلب، على لسان طلال زعيب معاون وزير الداخلية للشؤون المدنية، بلغ عدد الولادات العام الماضي من أبناء المحافظة 136497، فيما بلغ عدد الولادات المسجلة في الدائرة للمهجرين من باقي المحافظات السورية 38596 ولادة.
الاسم جزء من هوية الشخص
الاختيار غير الموفق للاسم قد يجعل من الولد محل سخرية لمن حوله، خاصة وإن كان الاسم غريباً أو يحمل في طياته معنى فارغاً لا يصلح لأن يكون اسماً، وهو ما يؤدي إلى حالة من الضعف وانكسار في شخصية الطفل منذ الولادة، وقد يسبب له حالة من الاكتئاب مع مرور الأيام لكونه سيشعر بأنه فقد أهم شيء لديه وهو اسمه المعبر عن ذاته، وذلك حسب رأي الأخصائية الاجتماعية نائلة الشعبان.
تقول الشعبان لفوكس حلب: “يعتبر الاسم جزء مهماً في تشكيل شخصية الفرد، وهو اللبنة الأولى في تكوين شخصيته منذ الطفولة، وانتقاء الاسم هو أحد حقوق الولد على والديه، كونه يرافق الشخص طوال حياته، فمن الواجب التريث قدر الإمكان قبل منح الاسم للولد، ومن أبرز الأخطاء في اختيار الاسم توارث اسم الأب أو الجد، من ضمن هذه الأسماء ما لم يعد يصلح للزمان الذي يعيشه الطفل، فلكل زمان ومكان أسماؤه الخاصة به”.
وأضافت: “لا ينبغي تحميل الطفل اسماً يلخص محطة معاناة مرَّ بها والداه أو ذكرى عصيبة لمجرد إحياء ذكرى خاصة لا ذنب للطفل في حملها وستبقى آثارها على الطفل مدى الحياة”.
رحلة الأسماء مع بلاد المهجر
لم تتوقف رحلة اختلاف الأسماء عند الشمال السوري، إذ إن من لجأ من السوريين إلى الخارج واجهتم معوقات الاسم في بعض البلدان التي لجؤوا إليها وهذا ما حدث قبل خمسة أعوام في مدينة “ريفييرا”، جنوب شرق فرنسا حين أحال عمدة المدينة أسرة إلى السلطات القضائية بعد تسمية ابنها بـ”محمد مراح”، وهو اسم مرتكب هجوم في عام 2012، أسفر عن قتل سبعة أشخاص، وانتهى الأمر بتغيير اسم الطفل.
وفي فرنسا بات اسم “جهاد” يرمز إلى المتطرفين الإسلاميين، بحسب تقرير أعدته صحيفة «تلغراف» البريطانية، لكن في ألمانيا يختلف معنى الاسم فـ”جهاد” باللغة الألمانية يعني “الحرب المقدسة”، لكن محكمة برلين سمحت بتداول الاسم، منذ ما يقارب العشرة أعوام، كونه لا يضر بمصلحة من يحمله، ومستخدم بالفعل في اللغة العربية.
لم يقتصر اختيار الأسماء على المواليد الجدد، إذ أن البعض تخلى عن اسمه الذي اعتاد عليه طوال حياته، ليضمن لنفسه البقاء ضمن تلك المجتمعات، ففي السويد يفضل أرباب العمل في تلك الدولة، المواطن الأصلي على اللاجئين والكثير منهم يهملون قراءة السيرة الذاتية الخاصة بالمتقدمين بمجرد إدراكهم أن الاسم لوافد جديد، وهو ما دفع البعض منهم لتبديل أسمه بأحد أسماء تلك الدولة، أو الحفاظ على الاسم مع تغيير اسم العائلة.
وهناك عائلات أصبحت تفضل تسمية أبنائها بأسماء تلقى توافقاً من قبل الجميع وسهلة اللفظ مثل اسم آدم أو نوح، أو اللجوء إلى اسم مركب يحفظ هوية الماضي وسلامة المستقبل، حيث يكون الاسم الأول غربي والاسم الثاني (الكنية) عربي، لذلك اختار حسن، يقيم في النمسا إسم “آدم” لمولوده الجديد لكي يضمن له التعايش مع مجتمعه الجديد بدء من التحاقه بالمدرسة، ومستقبلاً في سوق العمل.
وبحسب إحصائية للأسماء في السويد تم إعدادها العام الماضي، فقد احتل اسم “أليس” قائمة الأكثر تسمية للبنات وقد أُطلق على سبعمائة وستة من الفتيات، بينما احتل اسم “نوح” قائمة الأكثر تسمية لدى الذكور.
ربما بات لأغنية فيروز “أسامينا، شو تعبوا أهالينا تلاقوها وشو افتكروا فينا” وقع مختلف وأعمق بين العائلات السورية، فاختيار أسماء المواليد الجديدة أصبح مرتبطاً بالنزوح واللجوء والأحداث الكثيرة التي مروا بها خلال العقد الأخير.