.
منذ فترة غير قصيرة علم الحاج محمد الحسون -المقيم في تركيا -أن عائلة من بلدة كفريا سكنت منزله في حي المرجة بحلب، الحي الواقع في الحزام الشرقي لمدينة حلب والذي يغلب عليه طابع العشوائيات بنسبة تتجاوز الثمانين في المئة.
وفي مقابلة مع فوكس حلب يقول الحاج محمد الحسون: في البداية قلت إنه منزل من أرض وحجر، ولن يضيره أن يسكن فيه أي أحد، لكن تبين أن الأمر ليس بهذه البساطة وأنني على بعد خطوة من خسارتي المنزل.
حي المرجة في حلب يعتبر توسعاً مخالفاً لحي باب النيرب، ويقول الحاج محمد إنه مثل غيره في الحي ليس لديه سند ملكية، إذ شيده مطلع سبعينيات القرن الماضي عند انتقاله من ريف حلب الجنوبي إلى المدينة بغرض العمل، وذلك بعد أن اشترى قطعة أرض كانت كرم زيتون قسم مالكها الأرض إلى قطع وباعها للوافدين إلى المدينة، وكانت عمليات البيع على أساس الثقة دون عقد أو ثبوتيات.
قصة تهجير الحاج محمد وعائلته تشبه حد التطابق قصة تهجير مئات الآلاف من أبناء حلب الشرقية، والملايين من سكان سوريا أيضاً، سواء في نزوح داخلي أو لجوء خارج حدود الوطن، فإن هؤلاء الملايين تتشابه أوضاع العقارات السكنية للغالبية العظمى منهم أيضاً، وهم الأكثر عرضة لخسارتها.
السكن العشوائي
-
أولا: التعريف
ثمة الكثير من التعريفات لمناطق السكن العشوائي، ومنها التعريف الذي يقرر بأنها “تجمعات سكنية نشأت من دون تخطيط، في أماكن غير مرخصة وغير معدة للبناء أصلاً، لأنها مخالفة لنظام ضابطة البناء، ولأن الباني في معظم الأحيان لا يملك سنداً للملكية، إنما يكون متعدياً على أملاك الدولة، أو الأوقاف أو أملاك الغير، أو أنه يبني ضمن الأراضي الزراعية” وفق ما أورده مركز حرمون للدراسات.
-
ثانيا: النشأة
يتذكر الحاج محمد الحسون، لحظة انتقاله من القرية إلى مدينة حلب، وكان ذلك في بداية العام 1970 قائلاً: لم نكن في وضع سيء لدرجة لم تعد الحياة معها ممكنة، لكن كنا أمام فرصة لتحسين ظروفنا على مختلف الصعد، وقد شجعنا من سبقنا من الأقارب والمعارف على هذه الخطوة يومها، ولم يكن أبناء قريتنا الوحيدين الذين قرروا خوض غمار الحياة الجديدة، بل كان موجة واسعة شملت ريف حلب كله تقريباً، حيث توزع القادمون على أحياء أقاموها في تلك الفترة عند مداخل كل منطقة في محيط المدينة، بحيث يسهل عليهم التنقل بين مكان إقامتهم الجديد وقراهم التي ظلوا مرتبطين بها بشكل موسمي على الأقل.
وبالفعل فإن إحدى أهم السمات التي تغلب على مناطق السكن العشوائي في سوريا أن كل منها تحتضن جماعة معينة، سواء على أساس عشائري أو مناطقي أو طائفي أو عرقي، إذ يمكن بسهولة تمييز كل منطقة بناء على هوية الغالبية العظمى من سكانها، ففي دمشق، مخيم اليرموك يضم بالأساس اللاجئين الفلسطينين، وناحية جرمانا يقطنها الدروز القادمون من جبل العرب، والمزة 86 وعش الورور معظمها يقطنها العلويين.
أما في حلب فإن الهلك هي منطقة يغلب عليها التركمان، والأشرفية والشيخ مقصود سكانهما من الأكراد، وبستان الباشا كانت مركز الفقراء الأرمن، بينما يقطن منطقة طريق الباب حتى المطار، القادمون من ريف حلب الشرقي، وينتشر أبناء الريف الجنوبي بين كرم الميسر والأنصاري، فيما تجمع القادمون من الريف الغربي بحي صلاح الدين، وهكذا.
ماسبق، سهّل المهمة، لاحقاً لاسيما بعد الثورة السورية. على النظام السوري في تعميم ممارساته تجاه منطقة بعينها، انتقاماً أو مكافأة، من خلال الاعتقالات بداية مروراً بالقصف وصولاً إلى محاولات استثمار حزم القوانين والتشريعات لسلب الأملاك.
-
ثالثا: الآليات
يأخذنا الحاج محمد إلى بدايات نشوء حي المرجة، يقول إن الحي كان حين وصوله مجرد كروم وبساتين، وهو واقع ينسحب على جميع أحياء ومناطق ما بات يعرف بحلب الشرقية، ويضيف أن مالك إحدى الأراضي وكانت مزروعة بالزيتون، قسم المزرعة وبدأ بيعها للوافدين.
ويكمل، بدأنا البناء دون التفكير حتى بالحصول على أي ترخيص، وما تزال هذه المناطق مسجلة حتى اليوم على أنها أراض زراعية، إلا أن بناء أحياء بالكامل، دفع الدولة حينها إلى تزويد المنازل بالمياه والكهرباء، ولاحقاً تم تخديمها بالصرف الصحي، ثم شق الطرقات وتزفيتها، وأصبحت بوضع مقبول نسبياً، لكن توسعة هذه المناطق لم تحظ بمثل هذه الخدمات، فحي المرجة بات يتبع له حي البلورة والشيخ لطفي على سبيل المثال، وبالقرب منه حي كرم حومد، وغيرها من الأحياء، وجميعها تجمعات سكنية جديدة ظلت دون خدمات، ولا زال حالها أكثر بؤساً من غيرها.
-
رابعا: التقسيم القانوني
بحسب عضو نقابة محامي حماة الأحرار، والمهتم بتوثيق الانتهاكات العقارية في سوريا، عبد الناصر حوشان، فإن الوضع القانوني للأراضي التي نشأت عليه العشوائيات تنقسم إلى ما يلي:
١ – الأراضي ذات الصفة الزراعية
أي الأراضي التي يحظر القانون تشييد المساكن عليها إلاّ وفق شروط خاصة جدًا، وبالتالي فهي أراضٍ غير مسموح لأصحابها أو غيرهم بتشييد المنازل عليها بقصد السكن، والتي يمكن وضعها في الفئات التالية:
الفئة الأولى: أراضٍ زراعية يقوم ملّاكها بتقسيمها وبيعها من دون أي موانع قانونية.
الفئة الثانية: أراضٍ زراعية مستملكة وفق قانون الاستملاك لصالح الوحدة الإدارية، يقوم ملّاكها بتقسيمها وبيعها لمن يرغب فيها من السكان استنادًا إلى سندات التمليك التي يحوزونها.
الفئة الثالثة: أراضٍ زراعية ” بديلة ” مستملكة من قبل محافظة دمشق، تم تقسيمها من قبل الوحدة الإدارية إلى مساحات صغيرة ووُزعتها على السكان الذين تم ترحيلهم من بعض الأحياء المخالفة لضرورات التوسع في خدمات المدينة.
الفئة الرابعة: أراضٍ زراعية مملوكة، تم وضع اليد عليها من قبل بعض السكان في أحوال طارئة (حرب 1967) أقام النازحون عليها مساكنهم دون تعويض مالي لأصحابها (مثل منطقة نهر عيشة في دمشق).
٢ – أراضي الأملاك العامة
وهي أراضٍ ليست ملكًا شخصيًا، كبعض التلال والسفوح المحيطة بالمدن والوحدات الإدارية والتي تم الاستيلاء عليها عن طريق “وضع اليد” كما هو حال الأحياء التي بنيت على سفح جبل قاسيون بدمشق.
٣ – الأراضي الحدودية:
تشمل مخالفات البناء على الأراضي المصنّفة أراضي حدودية ، ومخالفات البناء بدون ترخيص.
٤ – الأراضي الحراجيّة
وتشمل الأراضي التي ينبت عليها الحراج طبيعياً أو بمجهود بشري والأراضي المخصصة للحراج.
-
خامسا: أسباب التوسع والنمو
أرجع تقرير السكان الأول عن “حالة سكان سورية” الصادر عن (الهيئة السورية لشؤون الأسرة عام 2008) توسع ونمو ظاهرة السكن العشوائي في سوريا إلى جملة من العوامل أبرزها: قصور عملية التنمية، وافتقاد الرؤية التخطيطية بعيدة المدى، فضلاً عن أن القصور في التخطيط وفي إنجاز المخططات التنظيمية للمراكز الحضرية والمدن، نجم في جزء أساس منه عن آليات الفساد المستشرية ودور المتنفذين الباحثين عن الثراء السريع.
ويكاد يكون هناك اتفاق على أن نقطة التحول جاءت بعد قرار اتخذه حزب البعث في اجتماع اللجنة المركزية عام 1982، القاضي بتقديم الخدمات الأساسية لمناطق السكن العشوائي.
بل إن هذا القرار أوحى إلى الجميع بأن الدولة منحت هذه المناطق مظلة الحماية ونوعاً من الشرعية. وقد شجع ذلك تجار المخالفات على مضاعفة حجم أعمالهم، نظراً لارتفاع الطلب على هذه المساكن، مما ساعد في انتشار مناطق السكن العشوائي في سورية بشكل انفجاري وكارثي.
وترى ورقة بحثية بعنوان مناطق السكن العشوائي، نشرها مركز حرمون للدراسات المعاصرة، عام 2021،”إن غاية قيادة حزب البعث من هذا القرار هي تيسير ظروف السكن لمجاميع المتطوعين بالجيش الوافدين بمعظمهم من القرى الساحلية، لأن الضباط الذين حرضوهم على السكن في هذه المساكن حريصون على استقرار هؤلاء، ولهذا تم تمرير هذا القرار من الحزب القائد للدولة والمجتمع”.
نظرة على الأرقام
بحسب دراسة بحثية أعدّتها المديرية العامة للمؤسسة العامة للإسكان في العام 2007 فإن حجم السكن العشوائي على الشكل التالي:
– على المستوى الإجمالي الوسطي تشكل مناطق السكن العشوائي ” سكان، مساكن “بحدود 15 -20% من الإجمالي في سوريا، ريف وحضر ، و بحدود 25 -30% بالنسبة لمراكز المدن.
– ترتفع هذه النسبة إلى ما يزيد عن 30 إلى 40% في مراكز المدن الرئيسية.
– بلغ عدد المساكن في مناطق السكن العشوائي للمناطق المدروسة 486291 مسكن، ويمكن تقدير عددها الإجمالي الكامل بما يقارب 500 ألف مسكن، تعادل كقيمة عقارية بين 300 إلى 400 مليار ليرة سورية ( قبل الثورة).
– باعتماد معدل وسطي للكثافة السكانية في هذه المناطق 450 شخص/ هكتار، وعدد سكان إجمالي تقديري لهذه المناطق 2,500,000 نسمة، وبلغ عدد السكان المناطق المدروسة 2,423,056نسمة ، فيمكن تقدير المساحات التي تشغلها هذه المناطق بـ 5555 هكتاراً .
– من خلال مؤشر عمر المساكن في العشوائيات، يمكن استنتاج أن 55% من هذه المساكن شيدت في الفترة من 1965 و 1990، في مقابل 37 % تقريباً شيدت بعد عام 1990 وهذا يدل على التوسع السريع لهذه المناطق في ظل غياب المعالجات الجدية والبدائل .
السكن العشوائي وحزمة القوانين والتشريعات
أولاً: ما قبل عام 2011
كثيرة هي النصوص القانونية التي صدرت قبل الثورة من أجل معالجة أو احتواء ظاهرة السكن العشوائي، كما تتعدد مجالات عمل واختصاصات كل منها، ورغم أن المشرع بدا وكأنه يعمل على الاستجابة لجميع أوجه المشكلة من خلال هذا الكم الهائل، إلا أن الواقع أثبت أن الإفراط في الكم لم يزد المشكلة إلا تعقيداً.
بعض هذه القوانين عنيت بإزالة الشيوع والتعديات، وبعضها خصص لمنع إقامة أبنية مخالفة، ومنها ما خصص لتنظيم عمليات الهدم، وأخرى صدرت لمعالجة تشوهات المخططات التنظيمية التي تسبب بها السكن العشوائي، وهناك قوانين صدرت لتحسين الخدمات فيها، لكن النتيجة التي لا يمكن تجاهلها بأي حال هي أن الظاهرة استمرت بل وتفاقمت بشكل كبير بمرور الوقت.
أ – أما أبرز هذه القوانين:
والذي حدد في مادته الأولى صفات الأبنية المخالفة الواجب إزالتها، وخصوصاً تلك المتجاوزة على التخطيط المصدق والواقعة ضمن الأملاك العامة أو إذا تجاوزتها، والمشوهة للمنظر العام، وغير الحائزة على المتانة الكافية، مستثنياً في مادته الثانية بقية الحالات مع فرض غرامة على أصحابها. |
وهو قانون تقسيم وعمران المدن وقد بين الباب الأول وجوب توفر مستندات ملكية ثم فصّل فيما يجب أن تراعيه مخططات التقسيم، وقد اعتبر في مادته السابعة أن أي بناء مشيد خلافاً لهذا القانون فهو واجب الهدم، ومضى في فصوله اللاحقة يوضح تفاصيل إحداث المناطق التنظيمية وعمليات التقدير وحل الخلافات، وقد ألغي هذا القانون بعد نحو نصف قرن بمفعول القانون ٢٣ لعام ٢٠١٥. |
وهو قانون إعمار العرصات، المقصود بها كل أرض معدة للبناء أو ما هو في حكمها، حيث حدد شروط البناء على المقاسم والعقارات، وكذلك حدد سجلاً مؤقتاً يتضمن أسماء طالبي الترخيص مع أوصاف العقار وعقود البيع الأول أو اللاحقة له، واعتبر القانون أي بيع خارج هذا السجل هو بيع باطل واحتيال يعاقب عليه البائع أصيلاً أو وكيلًا. تم تعديل هذا القانون من خلال القانون 59 لعام 1979، وإلغائه تماماً بالقانون رقم 82 لعام 2010 . |
وهو قانون التوسع العمراني والذي حدد بمادته الأولى مناطق التوسع العمراني، إلا أن مستلزمات تطبيق القانون لتحقيق غاياته لم تتوفر، وكذلك قيام مالكي الأراضي بالتهرب من تطبيقه من خلال فرز أراضيهم خلافاً للتخطيط المصدق وبيعها وفق أسلوب الأسهم، ولاحقاً جرى تعديل القانون وفقا للقانون 26 لعام 2000. وأُلغي القانونان بموجب القانون 23 لعام 2015 |
القاضي بإزالة الأبنية المخالفة ومخالفات البناء كافة ومهما كان نوعها بالهدم وذلك مع مراعاة أحكام المواد 6/7/11 من هذا المرسوم التي تنص على أن يصدر وزير الإدارة المحلية والبيئة قراراً يتضمن تحديد أنواع المخالفات القابلة للتسوية وإمكانية معالجة أوضاع المخالفات في مناطق السكن العشوائي القائمة قبل تاريخ نفاذ القانون رقم 1 لعام 2003 مع الاحتفاظ بأحكام القانون 26 لعام2000. |
وهو قانون التطوير والاستثمار العقاري، والذي يعده الكثير من الحقوقيين والمتخصصين، أكثر القوانين الصادرة قبل عام 2011 خطورة، بوصفه أكثر القوانين تركيزاً و وضوحاً، والذي بموجبه لاحقاً ترتبت عليه مخاطر جسيمة بالنسبة للمهجرين من سكان مناطق المخالفات.
في المادة الثانية من هذا القانون استُحدثت الهيئة العامة للتطوير والاستثمار العقاري، والمرتبطة بوزير الإسكان والتعمير، وقد أسند إليها بموجب المادة الثالثة مهمة معالجة مناطق السكن العشوائي. والتي تحولت فيما بعد إلى سيف مسلط على رقاب المعارضين أو من تريد السلطة وضعه في هذه الخانة إرضاء لجهود ممنهجة في سلب الأملاك. |
ولتسليط الضوء على زخم القوانين ذات الصلة قبل عام 2011 أحصى فوكس حلب القوانين والمراسيم الإضافية التالية:
القانون 5 لعام 1973 : إعادة التجميل وإزالة الشيوع.
القانون 20 لعام 1974: الذي بين حالات الاستملاك وإجراءاته، و ألغي بموجب المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 1983 وهو القانون النافذ حتى اليوم. قانون 3 لعام 1976: تنظيم بيع الأراضي. المرسوم التشريعي رقم 41 لعام 1980: منح الدوائر العقارية جراء البيع أو البدل أو الرهن للعقارات ما لم تتضمن محضر تعريف. المرسوم التشريعي 31 لعام 1980: قانون الملكية الزراعية. المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 1983: وهو قانون الاستملاك الجديد والنافذ حتى اليوم والذي ألغى القانون 20 لعام 1974. قانون 55 لعام 2002: قانون هيئات شاغلي الأبنية ولجانها الإدارية. قانون 41 لعام 2002: تعديل قانون التخطيط العمراني رقم 5 لعام 1982. القانون 61 لعام 2004 : القاضي بتعديل بعض مراسيم تعديل الدولة للأراضي. قانون رقم 41 لعام 2004 :تحديد المناطق الحدودية، وتعديلاته في المرسوم 49 لعام 2008. القانون 41 لعام 2005: قانون ضريبة البيوع العقارية، وتعديلاته في المرسوم رقم 52 لعام 2006. قانون 14 لعام 2006: حول التقدير المالي النافذ للعقارات المستعملة. المرسوم التشريعي 53 لعام 2006: ضريبة ريع العقارات والعرصات. المرسوم التشريعي 19 لعام 2008: إعفاء الأشخاص الذين تجاوزت ملكيتهم الحد الأعلى لسقف الملكية الزراعية. التعليمات التنفيذية للمرسوم 59 لعام 2008: الخاصة بالأبنية المخالفة. القرار 66 لعام 2008 : الصادر عن وزارة الإدارة المحلية حول تسوية المخالفات وهدمها. القانون 33 لعام 2008 : القاضي بتثبيت ملكية العقارات المبنية وأجزاء العقارات غير المبنية. المرسوم التشريعي 35 لعام 2010: الذي يحظر استخدام العقارات والأماكن غير المرخّصة. القانون 26 لعام 2010: قانون التخطيط الإقليمي. المرسوم التشريعي 82 لعام 2010، قانون إعمار العرصات. القانون 34 لعام 2010، تعديل قانون التطوير والاستثمار العقاري. |
ب – أنواع المخالفات
وفق ما سبق، فإن القانون السوري حدد الأنواع التالية للمخالفات:
أولا: مخالفات خاضعة للإزالة:
1- مخالفات التجاوز على المخطط التنظيمي المصدق.
2- البناء على عقار يقع ضمن الأملاك العامة أو أملاك الدولة الخاصة ضمن الحدود الإدارية أو متجاوزاً عليها.
3- إذا كان البناء مشوهاً للمنظر العام ويعود تقدير ذلك للجنة فنية مختصّة.
4- إذا كان واقعاً ضمن المناطق الصادر بها صك استملاك أو ضمن مناطق التنظيم أو الممنوع عليها البناء.
5- إذا كان غير حائز على المتانة الكافية بحالة قد يتعرض معها البناء للانهيار وذلك بالاستناد إلى تقرير الدائرة الفنية.
6- إذا كان متعارضاً مع نظام البناء بإضافة طابق أو أكثر أو جزء من طابق غير مسموح ببنائها وفق نظام البناء النافذ أو تفريغ الأرض كلياً أو جزئياً أسفل الأبنية القائمة أو تعديل في الجملة الإنشائية، وفي هذه الحالة يعاد الوضع إلى ما كان عليه حسب الترخيص الممنوح.
ثانيا: المخالفات القابلة للتسويّة:
حدد القانون السوري الأبنية المخالفة القابلة للتسوية بتلك التي يحق للمجالس المحلية أن تستعيض عن هدمها بفرض غرامة على مرتكب المخالفة على أن تعادل الغرامة المفروضة ضعف المنفعة التي جناها المخالف أو كان في استطاعته جنيها، وتحدد هذه المنفعة بالزيادة التي طرأت على قيمة العقار أرضاً وبناء بسبب المخالفة، على أن تسوى المخالفات القائمة في مناطق السكن العشوائي بعد تأهيلها وتسوية أوضاع الملكيات القائمة عليها وإدخالها في المخطط التنظيمي بعد استيفاء الرسوم المقررة في القوانين والأنظمة النافذة.
ج – قوانين لم تغير شيئاً
كل تلك القوانين سابقة الذكر لم تتغير معها حقيقة أن هذه العقارات والمساكن ظلت خارج الاعتراف القانوني بها، إذ لم تخضع بأي حال لقانون السجل العقاري الذي يعتبر “المرجع الأساسي لتوثيق وحماية الملكية العقارية في سوريا”. وبطبيعة الحال، فإن مناطق السكن العشوائي ليست موثقة في السجل العقاري، كمبان وشقق سكنية على الأقل، وجزء منها غير ملحوظ نهائياً فـي تلك السجلات، ويلجأ أصحاب الحقوق فـي هـذه الحالة إلى العقود العرفية التي لا تكتسب أي صفة رسمية.
الجزء الأكبر من تلك العقارات مسجل كأراض زراعية وتأخذ شكل ملكيات على الشيوع، أي يكون العقار ملكاً لأكثر من شخص، وتكون ملكية كل واحد منهم عبارة عن حصة سهمية ضمن عقار غير مفرز. وحيث أن توصيف العقار بالسجلات العقاريـة، فـي أغلب الحالات، يكون على شكل أرض زراعية، يصبح من غير الممكن تثبيت/تسجيل أي أبنية أو إنشاءات تقام عليها.
ومثال على ذلك: حي جبل بدرو شرقي مدينة حلب، وهو حي عشوائي يقع داخل المخطط التنظيمي للمدينة، يجسد الحي بشكل صارخ أثر التباين بين محتوى السجلات العقاريـة وواقعها على الأرض. في هذه المنطقة تبلغ مساحة العقار الواحد وسطيا 40,000 م مربع، ويصل عدد المالكين إلى 500 مالك للعقار الواحد، فكل مالك يملك شقة سكنية غير مرخصة، أي موجـودة فـي الواقع وغير موجودة على السجل العقاري، وفق ما أوردته دراسة بعنوان “العشوائيات في سوريا: حصاد عقود من التجاهل”، التي نشرتها منظمة اليوم التالي، في كانون الأول 2020.
د – تثبيت الحقوق
بناء على مسابق،كان أصحاب المساكن العشوائية والمتعاملين بها يلجؤون إلى استصدار أحكام قضائية أو تسجيل إقرارات بيع وتنازل أمام المحاكم بعد إقامة دعوة قضائية شكلية، تنتهي بتوثيق إشارة دعوى في السجل العقاري. وبالنتيجة فلا يبقى ما يشير إلى حقوق الملكية في مناطق السكن العشوائي إلا مجرد إشارة دعوى قضائية موضوعة على صحيفة هذه الأرض الزراعية ضمن الآلاف من إشارات الدعاوى الأخرى.
يمكن القول إن ظاهرة الملكيات على الشيوع، والتي شكلت أبرز مظاهر التفاوت بين واقع الملكيات العقارية في البلاد وصورتها في السجلات الرسمية شكلت أيضا طريقة غير رسمية لتوثيق حقوق الملكية في مناطق السكن العشوائي. ورغم الثغرات التي تشوب طريقة التوثيق تلك، إلا أنها كانت الأكثر اتباعاً في مواجهة الاستعصاء القانوني الذي تمثله حالة مناطق السكن العشوائي”. وفق ما ورد في المصدر السابق.
الطريقة الأخيرة التي كان يلجأ إليها المتعاملون لتثبيت حقوقهم في مناطق السكن العشوائي، هي وثائق دائرة الكاتب بالعدل، والتي تقوم مهمتها على تثبيت وقائع التوكيل والبيع والتنازل وغيرها من العمليات التي تتم داخلها بين المتعاملين. لكن تلك الوثيقة تبقى غير مرتبطة بالسجل العقاري، ولا تحتاج هذه الوكالات إلى مطابقة أوصاف العقار في السجل العقاري وأوصافه على الحقيقة.
هـ – معضلة المخططات التنظيمية
بينما توصف حزمة القوانين والتشريعات السابقة على عام 2011 بهذه الخصوص بأنها “استراتيجيات قاصرة لحل هذه الإشكاليات”، حيث لم تتمكن خطط الحكومة من مواجهة الطلب الهائل للمسكن، ولم تبحث عن الحلول السريعة لإنجاز المخططات التنظيمية. وقد أدى ذلك إلى ندرة الشقق النظامية، ولجوء المواطن إلى تجار المخالفات لسد حاجته بالسكن، وأسهم ذلك في توسع العشوائيات.
وبالفعل فإن الحديث عن تأخر إصدار المخططات التنفيذية ينكأ جروح الذاكرة لدى الحاج محمد الحسون، الذي يروي لفوكس حلب كيف عاش هو وجميع سكان أحياء المخالفات سنوات طويلة من القلق والترقب، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي حتى اندلاع الثورة عام 2011 بانتظار صدور التعليمات التنفيذية والتفصيلية للمخطط التنظيمي للمدينة لكن دون نتيجة.
ويقول: توقف كل شيء بانتظار صدور المخطط التنظيمي الجديد لمدينة حلب، وحتى عام 2000 تقريباً لم يكن أحد مستعداً لصرف قرش إضافي جديد على منزله لخشيته من صدور تعليمات هذا المخطط وتنفيذ عمليات الهدم والترحيل، كما أن حركة البيع والشراء توقفت بشكل شبه كامل في تلك الفترة لأن أحداً لم يكن يدري أي العقارات واقعة داخل المخطط وأيها خارجه، لكن بعد ذلك لم يجد الناس بداً من تجاهل هذه المسألة والتصرف على أساس أن المخطط التنظيمي مجرد مزحة أو كذبة.
يتحدث الحاج محمد هنا عن المرار الذي عاشه سكان معظم مناطق الحزام الشرقي لمدينة حلب التي نشأت ضمن ظاهرة المخالفات في النصف الثاني من القرن الماضي، حيث بقي المخطط التنظيمي فيما يتعلق بهذا الجزء من المدينة شبه سري تقريباً، وخاضع للتلاعب من قبل المتنفذين بالسلطة من أجل تجيير تطبيقه في النهاية لصالحهم.
تأخر المخططات التنظيمية بحسب فراس المصري، العضو السابق في مجلس محافظة حلب، مرده هـو فساد المؤسسات الإدارية. ويضيف المصري في الورقة البحثية المنشورة في موقع اليوم التالي إنه: و “بعد صدور المخططات التنظيمية والتي تعتبر مخططات عامة، يجـب أن تصدر المخططات التفصيلية والتي تأخذ وقتاً طويلاً قد يمتد لسبع سنوات أو أكـثر، نتيجة الأنظمة والقوانين المعقدة،، فإن تلك العملية لم تكن تتم بمنأى عن تدخلات الأجهزة الأمنية، وحتى بعد صدورها، لا يمكن البـدء فـي أعمال الإنشاء ما لم يصدر (نظام ضابطة البناء) الـذي يسمح بالبناء و الذي يأخذ بدوره وقتا طويلاً هو الآخر” .
يذكر المصدر مثالاً عن مدينة حلب، فقبيل صدور المخطط التنظيمي للمدينة عـام 1979، قام رئيس البلدية مع مجموعة شركاء بشراء مساحات واسعة من الأراضي الزراعية غرب المدينة بأسعار زهيدة، ثم وجهت المخططات التنظيمية للتوسع نحو الغرب لتشمل الأراضي التي تم شراؤها، ولاحقاً قام أولئك المقاولون ببناء هذه الأراضي وبيعها بأسعار باهظة.
ويضيف المهندس فراس المصري: إذا نظرنا اليوم إلى خارطة مدينة حلب الحالية، نجد أن التوسع العمراني المنظم في غرب مدينة حلب، فيما تتواجد مناطق السكن العشوائي في شمال وشرق وجنوب مدينة حلب، وهذه المناطق لم تصدر مخططات تنظيمية لها إلا بعد نشوء أماكن السكن العشوائي.
ثانياً: ما بعد عام 2011
في مادة سابقة، تناول فوكس حلب في مادته المعنونة ” أرقام وإحصائيات.. شهية النظام المفتوحة على قوانين العقارات في سوريا” تشريحاً أولياً لطبيعة حزم القوانين من حيث أنواعها وفئاتها وارتباط إنفاذها بمناطق دون أخرى، فيما اصطلحنا عليه الفرصة الذهبية، التي استفادت من حجم عمليات التهجير والدمار والتغييب القسري والقتل، وقد أحصى فريق العمل نحو 430 مرسوماً وقانوناً وقراراً.
لتخلص المادة إلى أن القوانين تحولت إلى أداة استخدمت بذرائع متعددة منها التنظيم العمراني ومكافحة الإرهاب وإزالة الأنقاض، لتحقيق غايات منها معاقبة المناوئين والتغيير الديمغرافي ومكافأة الحلفاء من مافيات وذوي القتلى وإيجاد مصادر دخل إضافية للنظام.
ونستعرض فيما يلي أبرز هذه القوانين:
وهو تعديل القانون 41 لعام 2004 المتصل بأصول إنشاء ونقل وتعديل واكتساب الحقوق العينية في الأراضي الكائنة في المناطق الحدودية. |
بموجبه تم إحداث منطقتين تنظيميتين ضمن المصور العام لمدينة دمشق، الأولى: تنظيم منطقة جنوب شرق المزة والثانية: تنظيم جنوبي المتحلق الجنوبي، وأبرز الانتقادات تمثلت في اعتباره ذريعة لتنظيم العشوائيات في الوقت الذي استثنيت مناطق عشوائية قريبة منها مثل مزة ٨٦ التي تضم أغلبية موالية للنظام. |
قانون إزالة مخالفات البناء للحد من من البناء العشوائي والمخالف لنظام ضابطة البناء، والقوانين الأخرى التي تحدد وتصف الأبنية داخل المدن والبلدات والقرى من حيث ارتفاعها ومساحتها ومواصفاتها الهندسية اللازمة، ومدى متانتها وملاءمتها للشكل العام. إلا أن القانون فتح الباب واسعا أمام الرشاوى والفساد للتغاضي عن تنظيم المخالفات اللازمة والانتقائية في تطبيقه بحسب المنطقة. |
الذي يحدد حالات السماح وعدم السماح لمالكي الأراضي الكائنة ضمن حدود المخطط التنظيمي، ورغم أن المرسوم يمنح في ظاهره الحرية للمالك بالتصرف في عقاره حتى لو كان ضمن المخطط التنظيمي، لكنه فعلياً وضع استثناءات تقيد المالك وتحرمه من التصرف ذلك. |
يهدف إلى إحداث مناطق تنظيمية تضم مجموعة من العقارات بدمجها واعتبارها شخصية اعتبارية جديدة تؤلف الأملاك فيها ملكًا شائعًا بين جميع أصحاب الحقوق، وتفرض المادة (11) منه العقوبة على كل من يقوم بتقسيم أرضه خلافًا لأحكام هذا القانون بالعقوبات المنصوص عليها في قانون مخالفات البناء النافذ، وتعد الأبنية المشيدة على العقارات المقسمة خلافًا لأحكام هذا القانون واجبة الهدم. وأبرز الانتقادات لهذا القانون أنه يهدر حقوق المخالفين الذي بنوا فوق أراضي الأملاك العامة أو الخاصة أو المشترين منهم، إذ يقتصر حقهم على أخذ أنقاض أبنيتهم ولا يحق لهم سوى ذلك، وفقًا للمادة (51).
الظروف التي تعيشها سوريا غير ملائمة لتطبيق هذا القانون، نظرًا لغياب شريحة كبيرة من المالكين، مثل المعتقلين والمهجرين والمطلوبين أمنيًا، مما يستحيل مثولهم من أجل تقديم الثبوتيات ومستندات الملكية أو حضورهم للتصريح بحقوقهم وفق ما نصت المادة (18) من القانون، إلى جانب تخوف أقارب المهجرين والمطلوبين من تمثيلهم. |
القاضي بجواز إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية وذلك بمرسوم بناء على اقتراح وزير الإدارة المحلية والبيئة وتعديل بعض مواد المرسوم التشريعي رقم 66 لعام 2012. ويعد هذا القانون أكثر القوانين خطورة وإثارة للجدل، وجاءت الانتقادات عليه جارفة حتى من دوائر صنع قرار عالمية ومسؤولين أممين ومنظمات حقوقية دولية مستقلة.
ومن جملة ما أثير بشأن هذا القانون أن معظم المناطق المقصودة بالتنظيم هي عشوائيات، حيث الملكيات غير مُسجَّلة في سجل عقاري، وإنما يتمّ إثباتها بطرق مختلفة (فواتير الماء والكهرباء والهاتف)، أو وثائق غير رسمية مُوقَّعة بين أطراف تداولت شراء هذه العقارات، مع بقاء ملكية العقار -ومعظمها زراعي -باسم المالك الأصلي المتوفّى منذ عقود، وورثته لا يمكن تحديدهم ولهم الحق بالمطالبة بحقوقهم إضافة لحقوق واضعي اليد، أي أن الأمر يحتاج لمستويين من حصر الإرث على الأقلّ: للمالكين الأوليين أو الأصليين، وللمالكين بحكم وضع اليد، ومعروف أن هذه العمليات تستغرق وقتاً طويلاً يتجاوز عدة سنوات لإنجازها. |
يختص بإزالة أنقاض الأبنية المتضررة نتيجة أسباب طبيعية أو غير طبيعية أو خضوعها للقوانين التي تقضي بهدمها. من أوجه مخاطر هذا القانون تكريسه للقانون رقم 10 لعام 2018 آنف الذكر، والذي يحول مناطق بالكامل إلى أراض خالية، وفي حالة العشوائيات تعود إلى وضعيتها السابقة، مما يفتح الباب واسعاً أمام خسارة العقارات وخصوصاً في ظل ضياع أدلة إثبات ملكية المساكن في حالة فقدان المالك سندات الملكية.فيسهل على الوحدة الإدارية التحكم بمصير هذه المساحات الخالية. |
الثورة: خط فاصل في قضية العشوائيات
المحامي السوري عبدالناصر حوشان، وبناء على العديد من الدراسات والأبحاث التي تناولت حزمة القوانين الصادرة بعد عام 2011 بما يتعلق بالسكن العشوائي ومخالفات البناء خرج بالملاحظات التالية:
أولا: القوة القاهرة
القوانين الصادرة بعد عام 2011 لا تستند الى أسباب موجبة معقولة أو مقبولة قانونيّاً، لأنها استنساخ للقوانين السابقة مع إجراء تعديلات جوهريّة من الشروط و المهل القانونيّة، بهدف استغلال ظروف ” الحرب ” كقوة قاهرة لعدم تمكين أصحاب الحقوق من ممارسة حقوقهم الأساسية “التصرّف أو الحماية أو استردادها”، أو حتى ممارسة حق الاعتراض القانوني على الإجراءات الإدارية التي تتخذها السلطات الإدارية والتي تمسّ أصل هذه الحقوق.
ثانيا: العقاب الجماعي
من خلال استعراض مناطق السكن العشوائي التي طالتها الإجراءات التعسفيّة، وعمليات الهدم و التدمير، والتركيبة الاجتماعيّة للسكان وانتمائهم الطائفي، وجدنا أن أغلب المناطق التي تم استهدافها هي مناطق شهدت “مظاهرات أو احتجاجات” ضد النظام، بينما على الضفة الأخرى نشطت عمليات البناء و التوسع في العشوائيات التي تقطنها تجمعات موالية للنظام، وبهذا يمكن وصفها بأنها مظهر من مظاهر العقاب الجماعي ضد كل من عارض هذا النظام.
ثالثا: فريسة التطوير العقاري
لوحظ أن قوانين ما بعد 2011 حوّلت مناطق السكن العشوائي جميعها الى ملكيات على الشيوع، رغم وجود مناطق منظّمة أصولاً و وليست ضمن تصنيفات السكن العشوائي (مثل حي وبلدة جوبر بريف دمشق)، وفتحت الباب أمام شركات التطوير العقاري “السورية وغير السوريّة” والشركات القابضة التي تتبع الوحدات الإدارية، للدخول في مشاريع التنظيم والتطوير العقاري وتقاسم هذه العقارات مناصفة عن طريق لحظ 50% من ملكية هذه للمنشآت العامة و استملاكها بموجب قانون الاستملاك رقم “24” لعام 1983، و تمكين المطوّر العقاري “السوري و الأجنبي” من تملّك العقارات المذكورة سواء بالاتفاق مع المالكين على الشيوع، أو عن طريق البيع بالمزاد العلني في حال عدم إمكانيّة إزالة الشيوع الاختياري.
الهروب إلى البيع
دأب النظام السوري بعد عام 2011 على تعديل أو إلغاء قوانين متصلة بالعقارات، في حين أبقى على تلك التي يمكن من خلالها استغلال ظروف الحرب والدمار والتهجير، للوصول إلى الغاية الأكبر.
مثال ذلك، الإبقاء على قانون التطوير والاستثمار العقاري رقم 15 لعام 2008، وتفعليه بدرجة أكبر حتى من وقت صدوره إلى حين اندلاع الثورة، إذ “منح هذا القانون صلاحيات واسعة للهيئة العامة للتطوير والاستثمار العقاري، منها ما نصت عليه الفقرة 2 من المادة 5، المتعلقة بهدم وإعادة بناء أو تأهيل أو تجديد مناطق سكنية قائمة، ولم يمنح هذا القانون أي حماية لأصحاب المساكن والشقق الواقعة ضمن مناطق العشوائيات، لأنه اعتمد على مبدأ “المسح الاجتماعي” لتحديد حق الحائز على ملكية سكنه، وهو ما تناولته الورقة البحثية المنشورة في موقع اليوم التالي، المذكورة سابقاً.
خطورة هذا المبدأ في أن المسح لاجتماعي -في حال تطبيقه في الوقت الراهن -سيحرم معظم المهجرين والنازحين واللاجئين من أي حق في المساكن الواقعة ضمن العشوائيات، بسبب غيابهم عند إجراء عمليات المسح الاجتماعي، وعندئذ يتم تثبيت الحق بالمسكن (للساكن العرضي)، أو للحائز الذي يصدف وجوده أثناء المسح، وسيؤدي ذلك إلى حرمان المالكين الحقيقيين للمنازل، وإعطائها للجماعات الموالية للحكومة الذين يشغلون هذه البيوت في الوقت الراهن”.
عند عرض ما سبق على الحاج محمد أكد أن هذا هو الخطر ومكمن القلق والأرق الذي يتغشاه خلال الأشهر الماضية، والذي بدأ حين شاهد صدفة على التلفاز محامياً يحذر من خطر حقيقي يهدد أملاك المهجرين والنازحين واللاجئين من مناطق العشوائيات.
وعلق الحاج محمد قائلاً: أنا غير قادر على إخراج السكان المقيمين في بيتي حالياً لأني غير موجود في حلب بسبب موقفي السياسي من النظام، أضف إلى ذلك أن العائلة التي تسكن بيتي تنتمي للطائفة الشيعية، والمدعومة ليس فقط من النظام، بل ومن الميليشيا التي تسيطر علي حينا (حي المرجة) وهي ميليشيا لواء الباقر.
ومن ناحية أخرى، يضيف الحاج محمد أنه غير قادر على التصرف بالبيت أو ما تبقى منه، جراء تضرره جزئياً من القصف، وأيضا غير قادر على التصرف بالأرض التي بني عليها لأنه لا يملك إثبات ملكية، حاله حال معظم أو جميع سكان المنطقة، بل وجل سكان العشوائيات في سوريا.
وحين سألنا الحاج محمد عن الحلول، قال إن جميع الحلول غير مفيدة، فهو حتى لو استطاع إخراج العائلة بدفع مبالغ مالية كبيرة للميليشيات المتنفذة في المنطقة، إلا أن عدم قدرته على الوجود في البيت لن تحل المشكلة. ويضيف: “لم أجد سوى البحث عن مشتر يمكنه أن يدفع لي ثمناً مناسباً ويقبل، في الوقت نفسه، بتحمل مسؤولية إخراج القاطنين الحاليين في منزلي، لكن المفاجأة كانت بالسعر البخس جداً الذي عرض علي، والذي لم يتجاوز ثمانية ألاف دولار أمريكي، بينما كان سعر المنزل قبل الثورة نحو خمسين ألف دولار”.
الحاج محمد هو من بين مئات الآلاف من سكان مناطق المخالفات ممن هجروا من منازلهم بعد العام 2011، الذي اضطروا إلى خيار عرض منازلهم للبيع بأي شكل تجنباً لخسارة كل شيء، إذ شهدت السنتان الماضيتان حركة متصاعدة في سوق العقارات بهذه المناطق، مع إقبال الكثيرين على هذا الحل، كما تم رصد عدد كبير جداً من الإعلانات والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تعرض عقارات في أحياء حلب الشرقية للبيع بأسعار زهيدة، الأمر الذي يرى فيه المحامي عبد الناصر حوشان أنه إحدى نتائج التضليل المتعمد الذي لجأ إليه النظام ومشغليه من أجل استكمال مشروع التهجير والتغيير الديموغرافي والاستيلاء على أملاك وعقارات السوريين.
النظام اتخذّ من عمليات المسح الاجتماعي في قانون التطوير العقاري وسيلة لفرز المعارضين من الموالين وإعداد الخطط التي تضمن تجريد المعارضين من حقوقهم في مناطق المخالفات، سواء كانوا مالكين أو حائزين، من خلال تخصيص السكن البديل على أساس نتائج المسح الاجتماعي، وبالتالي لا يمكن للمتضرر من المهجّرين من عملية المسح الوصول إلى القضاء للمطالبة بحقوقه في ظل النظام القائم، إلا أن هذا محصور فقط في مناطق التطوير العقاري، أما المناطق الأخرى فتحكمها نصوص مختلفة، وجميعها بدايات مختلفة تؤدي إلى نهاية وغاية ومصير واحد، تجريد الناس من أملاكهم، أو دفعهم إلى بيعها لمنظومة النظام يرعاها ويديرها، بشكل مباشر أو غير مباشر.
هل من سبيل لحماية الأملاك في مناطق العشوائيات؟
من أهم النصوص القانونية التي تُنظِّم أحكام “أسباب كسب الملكيّة و أسباب نزعها” المادتان ” 825 و 826 ” من القانون المدني، والتي بحسبهما فإن أسباب اكتساب حق التسجيل في السجل العقاري بالأسباب الآتية: بالإرث والهبات والاستيلاء وبالتقادم المكسب وبالعقد.
أما إذا كان البناء المخالف مقام على على عقار ليس له مالك، فقد نظم المشرع السوري أحكام الاستيلاء على هذا العقار في المواد من 832 إلى 835 من القانون المدني، والتي يمكن إجمالها بما يلي:
1- ملكية الدولة للأراضي غير المزروعة غير المملوكة لأحد.
2-الالتصاق: الالتصاق أو ما يسمى أيضاً بالإلحاق أو الاتصال، هو اتحاد أو اندماج شيء بآخر متمايز عنه اتحاداً أو اندماجاً مادياً، بحيث يتعذر بعده فصل بعضهما عن بعض من دون تلف يلحق بكليهما أو بأحدهما. ومن وجوهه أن البناء في أرض الغير بمواد مملوكة للباني: إذا شيد شخص أبنية على أرض الغير، أو غرس فيها غراساً بمواد أو غراس عائدة له فإن مالك هذه الأرض يصبح مالكاً لهذه الأبنية أو الغراس بالالتصاق.
وقد حصر المشرع الإفادة من هذه الأحكام بالباني أو الغارس حسن النية، و معيار حسن النية ولا أهمية لتغير هذه النية بعد ذلك، كما أن الأصل في الباني أنه حسن النية، ومن يدع غير ذلك عليه إثبات ما يدعيه.
3–الوعد بالبيع العقاري: نظمّت أحكامه المواد ” 899 الى 901 ” من القانون المدني، وبما أن الكثير من الأراضي التي شيدت عليه أبنية المخالفات تمت بهذه الطريقة فإنها تخضع لأحكام مواد هذا القانون وهي في صالح المنتفع، حيث يتولد عن الوعد ببيع عقار ما حق عيني يخضع بهذه الصفة لجميع الأحكام التي تجري على الحقوق العينية ومنها النصوص القانونية المتعلقة بالسجل العقاري التي تطبق أيضاً على انتقال الوعود بالبيع وتظهيرها.
4-التملّك بالحيازة: أو ما يدعى بالتقادم المكتسب، تتضمنه المواد ” 917 الى 919 ” من القانون المدني، ومن وجوهه:
– من حاز منقولاً أو عقاراً غير مسجل في السجل العقاري دون أن يكون مالكاً له، أو حاز حقاً عيناً على منقول أو حقاً عينياً على عقار غير مسجل في السجل العقاري دون أن يكون هذا الحق خاصاً به كان له أن يكسب ملكية الشيء أو الحق العيني إذا استمرت حيازته دون انقطاع خمس عشرة سنة.
-إذا وقعت الحيازة على العقارات أو الحقوق العينية المبينة في المادة السابقة وكانت مقترنة بحسن النية ومستندة في الوقت ذاته إلى سبب صحيح فإن مدة التقادم المكسب تكون خمس سنوات.
والسبب الصحيح هو سند أو حادث يثبت حيازة العقار بإحدى الوسائل التالية: الاستيلاء على الأراضي الموات. انتقال الملك بالإرث أو الوصية. الهبة بين الأحياء بدون عوض أو بعوض. البيع أو الفراغ.
كما ينص القانون على أنه يكتسب حق تسجيل التصرف بالأراضي الأميرية غير الخاضعة لإدارة أملاك الدولة بمرور عشر سنوات من تاريخ الحيازة بسند أو بغير سند بشرط أن يكون الحائز قائماً بزراعة الأرض.
5-التملّك بالعقد: وهو ما عرّفته المادة 92 من القانون المدني: يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين.
كما يجب الانتباه إلى أن الدستور السوري لم يعترف بأي سبب من أسباب نزع الملكيّة الخاصة إلا الاستملاك للمنفعة العامة وفق ما أوردته المادة 15.
ملاّك المخالفات.. ليسوا سواء!
بناء على ماسبق، يمكن تقسيم حقوق “أصحاب المخالفات” وفقاً للنوع الشرعي للعقارات و أسباب الملكية، ويمكن تحديد آليات حفظ وحماية و استرداد هذه الحقوق وفقاً لنصّ المادة ” 15 ” من الدستور. وبالتالي تحدد أنواع المخالفات و النصوص القانونيّة الناظمة لها حسب أنواع الصكوك وفق ما يلي:
أولاً: إذا كانت مخالفات البناء على عقار يقع ضمن المخطط التنظيمي و مسجّل في الصحيفة العقارية على اسم “المالك” أو ما يطلق عليه “الطابو الأخضر” فنحن أمام خيارين:
1-أن تكون المخالفة من قبل المالك نفسه أو وكيله القانوني على عقار مسجل باسمه في الصحيفة العقارية: ففي هذه الحالة يبقى حق الإدارة العامة إما بتسويّة المخالفة و إما إزالتها وفق القواعد العامة المذكورة في القانون دون التعرّض لأصل الحقّ.
2-أن يكون المخالف مالكاً على الشيوع “وارثاً –أو شريك”: تنطبق عليه أحكام مخالفة المالك الباني في ملكه مع الأخذ بعين الاعتبار حفظ حقوق الشركاء.
ثانياً: أما بالنسبة لحالة الحيازة المستندة إلى ما يسمى “البيع بكلمة شرف”، وهي صيغة شعبية للبيع دون اشتراط نقل الملكيّة التي قد تكون غير ممكنة، والتي يباشر المشتري بعدها عمليّة البناء على مرأى ومسمع من الشركاء أو الورثة دون معارضة من قبلهم، وهي الصيغة التي تغلب على حالات التملّك في مناطق العشوائّيات، ففي هذه الحالة وضع القانون عدة نصوص تحمي صاحب الحيازة، شرط أن تكون الحيازة قانونيّة، وهي الحيازة “الهادئة ، المستقّرة ، العلنية، المستمرة”.
ويمكن لصاحب الحيازة ممارسة حقه في حماية حيازته وردّها أو منع التعرض من خلال ثلاث دعاوى تقوم على قاعدة “الحيازة سند الحائز في الملكية” وهي دعوى استرداد الحيازة، ودعوى منع التعرّض ودعوى وقف الأعمال الجديدة .
ملاحظة : بالنسبة لمن فقد حيازته بسبب القصف و التدمير والتهجير..، فإن كل هذه الأعمال تعتبر من قبيل القوة القاهرة والظروف الاستثنائية التي تقطع التقادم على المهل القانونيّة المحدّدة، سواء لإقامة الدعاوى أو مِهل التبليغ أو أي مهلة قانونيّة أخرى، وتنطبق على كل دعاوى الملكيّة ودعاوى الحيازة ودعاوى التعويض وغيرها من الدعاوى.
العيش في مناطق العشوائيات كان يزداد سوء بمرور الوقت، مع ازدياد عدد السكان فيها وعدم توفر مشاريع إسكانية يستطيع أي مواطن الحصول على منزل فيها، ما جعل الكثير من هذه التجمعات يغص بالشاغلين، بل ويستقبل أعداداً كانت تتزايد من خارجها، بسبب الارتفاع الكبير والمطرد في أسعار العقارات في سوريا، وتنامي نسب الفقر والبطالة، ما جعل أسعار المنازل في هذه المناطق مرتفعاً أيضاً، وكذلك تكاليف الآجار، الأمر الذي يؤكد وبشكل قاطع على الفشل المدوي لنظام البعث طيلة خمسين عاماً في التعامل مع هذه المشكلة، والتي شكلت إحدى البراكين التي انفجرت مع الثورة، ليستغلها النظام لاحقاً في مواجهة أهلها، وتكون إحدى أدوات رسم ملامح سوريا التي يشتهيها نظام الأسد. وهو ما سعى إليه من خلال القوانين والتشريعات والمراسيم التي تخص هذه المناطق لمعاقبة سكانها من جهة ولإرضاء الميليشيات وأمراء الحرب الذين وقفوا إلى جانبه، وسط ذلك سلبت الكثير من الملكيات العقارية، وضاعت حقوق مئات آلاف السكان غير القادرين على إثبات ملكياتهم لأسباب عديدة استغلها النظام السوري وسعى من خلالها لتقويض حقهم بالتصرف في ملكياتهم.