فتحت رياض الأطفال أبوابها في إدلب، مع بداية الموسم الدراسي لهذا العام في 17 أيلول (سبتمبر) الجاري، وهو الشهر الذي يشكل عبئاً كبيراً على شريحة واسعة من الأهالي، لتزامنه مع موسم المدارس وتحضير المونة والتجهيز لفصل الشتاء.
الطفل عمار العلي، ذو الخمس سنوات، مثل أطفال كثر في عمره، لم تسعفهم ظروف ذويهم بالتسجيل ضمن رياض الأطفال الخاصة لعجزهم عن دفع أقساطها، إضافة لعدم قدرتهم على الدخول في رياض الأطفال العامة القليلة لوجودها في مراكز المدن.
في صباح اليوم الأول، ظل عمار يراقب من نافذة بيته، صديقه المقرب أحمد، وهو يرتدي ثيابه الجديدة وحقيبته المدرسية، متجهاً إلى الروضة، وبقيت عينا عمار تلاحق خطوات صديقه إلى حين اختفائه تماماً، حسب ما روت والدته لنا.
تقول والدة عمار: “صرت أتهرب من الإجابة على سؤاله المتكرر عن سبب عدم ذهابه للروضة مثل باقي الأطفال، ونظرات الحزن في عينيه، إذ كيف سأشرح لطفل بعمره، عن عجز عائلته تحمل تكاليف أقساط الروضة؟”
يوجد في المنطقة التابعة لحكومة الإنقاذ شمال غربي سوريا نحو 242 روضة خاصة، بحسب تصريحات مدير التعليم الخاص في المنطقة جهاد حاج حسين، تتوزع في المدن الرئيسة وقسم من مناطق المخيمات أيضاً، ولكنها، بحسب الكثافة السكانية التي تتعدى أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، تعد نسبة قليلة جداً وغير كافية لاستيعاب الأطفال كافة.
معظم رياض الأطفال في المنطقة خاصة وهي مشاريع فردية استثمارية، يقول الحسين: ” عملت مديرية التربية على إحداث رياض أطفال عامة تتبع لوزارة التربية ضمن مدينة إدلب وبعض المدن، ويمكن تعميم التجربة على الأرياف لتغطي معظم المناطق مستقبلاً”.
وأضاف: “أن جميع رياض الأطفال الخاصة الموجودة؛ مرخصة أصولاً وفق الأسس والمعايير المحددة في التعليمات التنفيذية لنظام التعليم الخاص، وتشمل وفق آخر تحديث للإحصائيات 34389 طالباً وطالبة في عموم الرياض”.
أقساط رياض الأطفال
كانت أم شادي حريصة جداً على تلقي أطفالها الثلاثة تعليمهم بالشكل الأفضل، لكثرة ما تراه في محيطها من عدم اهتمام بالتعليم، وازدياد نسبة الأمية بين الأطفال. تقول إنها بالكاد وجدت روضة أطفال قريبة من منزلها الجديد لتسجل فيها ابنها الأصغر سناً، في بلدة أطمة شمالي إدلب، وذلك لقلة عدد الرياض التعليمية، رغم كثافتها السكانية، كونها منطقة تكتظ بالمخيمات، حسب ما روته لنا.
تقول: “بعد منزلنا عن موقع روضة الأطفال التي سجلت بها طفلي كلفني أقساطاً إضافية للمواصلات”.
تختلف أقساط رياض أطفال بين روضة وأخرى، وذلك تبعاً لاختلاف موقعها، وإمكانية استيعاب عدد الطلاب في الصف الواحد، والخدمات التعليمية المقدمة للأطفال وغيرها من الأمور التي تتحكم في القسط.
وبشكل وسطي تتراوح الأسعار بين 10- 20 دولاراً شهرياً للطالب الواحد، عدا عن أجرة المواصلات التي تتراوح ما بين 5-10 دولاراً شهرياً يتم دفعها على مراحل خلال الموسم الدراسي. أي أن متوسط تكلفة العام الكامل في الفصلين بين أقساط الرياض والقرطاسية، والكتب، والمواصلات، تصل إلى 250 دولار تقريباً للطالب الواحد، وهو مبلغ يعادل أجرة عامل مياومة لمدة ثلاثة أشهر في إدلب.
تقول السيدة أحلام الرشيد، وهي مديرة روضة ومدرسة “الأحلام التعليمية” الخاصة في بلدة أطمة شمالي إدلب: “أقدر الحالة المادية الصعبة لمعظم الأهالي في المنطقة، فقد خصصت جزءً مجانياً من رياض الأطفال للأيتام، وذوي الإعاقة، والأطفال المصابين بالحرب، وأبناء الشهداء، وحسماً لأبناء المعلمين والأشقاء من الأسرة الواحدة، إضافة إلى الطلاب المعوزين”.
فيما حددت أقساط الروضة لباقي الطلاب بعشر دولارات للطالب الواحد شهرياً، وذلك لتأمين رواتب للمعلمين ودفع التكاليف الأخرى، حسب قولها.
لم تحدد وزارة التربية أقساطاً ثابتة لرياض الأطفال، يقول الحسين، وذلك كونها “متفاوتة في خدماتها، ومميزاتها، مع العمل على وضع معايير لتصنيف المؤسسات التربوية بشكل عام، بحيث يتم وضع حد أدنى وحد أعلى للأقساط السنوية، وفق الترتيب لكل مؤسسة”.
مناطق تكاد تخلو من رياض الأطفال
تواجه الكثير من العائلات صعوبة في إيجاد رياض أطفال معنية بتأهيل الأطفال في سن مبكرة من 4 – 6 سنوات، وهي ما تعرف باسم “مرحلة التعليم قبل المدرسي”، ليست فقط مناسبة لوضعهم الاقتصادي والمعيشي، بل متوفرة في أماكن سكنهم أيضاً.
هذا ما حصل مع سلوى، مقيمة في منطقة “دير حسان” شمالي إدلب، إذ لم تتمكن من وضع ابنها في روضة قريبة من منزلها، بسبب قلة عدد رياض الأطفال الموجودة، فهي لا تتعدى الثلاثة فقط في منطقة مكتظة بالسكان، إحداها أغلقت أبوابها، لعدم قدرة الأهالي على تحمل التكاليف.
أطفال كثر يغيبون عن مقاعد رياض الأطفال، ليس بسبب الظروف الاقتصادية وعدم قدرة عائلاتهم على دفع الأقساط الشهرية فحسب، بل لأنهم لا يعرفون الاستقرار في مكان واحد، فأغلبهم من النازحين والمهجرين، الأمر الذي ينعكس سلباً على نسبة وأعداد الأطفال الملتحقين برياض الأطفال، من إجمالي عدد الأطفال الملتحقين بالمدرسة.
يقول المدرس أبو إبراهيم، مقيم في منطقة كفر لوسين: “ما تزال مرحلة التعليم ما قبل المدرسي غائبة عن مشاريع وخطط المنظمات الداعمة والحكومة المعنية، وهو ما يترك أثره على الواقع التعليمي للطلبة في المدارس التي تعاني في الأصل من هشاشة كبيرة”.
رياض الأطفال للعائلات ميسورة الحال فقط
يقول عدد من أولياء الأمور الذين التقيناهم إن مرحلة التعليم ما قبل المدرسي، لا تتعدى، حسب رأيهم، كونها “رفاهية زائدة”، وهي محصورة بالعائلات ميسورة الحال. يقول أبو سعيد الحلبي، وهو أب لثلاثة أطفال: “لم يتلق أي من أطفالي تعليماً قبل دخوله المدرسة، فرياض الأطفال باتت مقتصرة على فئة محددة من المجتمع، أما أنا وأمثالي بالكاد نستطيع تلبية متطلبات المدرسة المجانية، فكيف بمدارس ورياض أطفال خاصة تتجاوز أقساطها ضعف دخلي الشهري”.
لا تتفق السيدة أحلام الرشيد، مع رأي أبي سعيد، وتقول إن مرحلة التعليم قبل المدرسي مهمة للغاية، بوصفها مرحلة تأسيس للطفل، تساعده على اكتساب سلوكيات إيجابية وتنمي قدرته العقلية والفكرية وتساعده في التحضير لدخول المدرسة، حسب تعبيرها.
وتقسم الرشيد رياض الأطفال الموجودة إلى مرحلتين “الأولى ما قبل التحضيري؛ وهي تضم الأطفال من عمر ثلاث سنوات ونصف السنة إلى خمس سنوات، وتعتمد على الترفيه والأنشطة التوعوية والسلوكية، أما المرحلة الثانية؛ فهي مرحلة التحضير للصف الأول جزء كبير منها تعليمي إضافة إلى حفظ آيات من القرآن الكريم”.
وتضيف “أن عدد رياض الأطفال الموجودة في المنطقة قليل جداً، وكذلك المدارس أيضاً، والتي تعد منطقة ذات كثافة سكانية مرتفعة، لاحتوائها على عدد كبير من المخيمات، وكذلك ضعف إقبال الأهالي على تسجيل أطفالهم لعدم قدرتهم على تحمل تكاليف التعليم الخاص”.
رهبة الصف الأول
رافق الخوف والارتباك يوم الطفلة “وئام” الأول في المدرسة، تقول والدتها هبة، والتي رافقتها إلى صفها في إحدى مدارس إدلب المدينة، واضطرت للبقاء إلى جانبها عدة ساعات لتتمكن من نزع رهبة اليوم الأول والاعتياد على النظام المدرسي.
تقول هبة لفوكس حلب: “لم تدخل وئام روضة من قبل، هذه المرة الأولى التي أتركها لوحدها، شعرت بنظراتها الخائفة وكأنها تكتشف عالماً مجهولاً مليئاً بالأطفال والمعلمات وعليها الالتزام بقوانين محددة، غير معتادة عليها”.
لم تتمكن وئام من دخول الروضة والتحضير للصف الأول مثل عدد من صديقاتها في الصف اللواتي يبدو عليهن اندماجهن مع باقي الطلاب، كونهن تعلموا ذلك في مرحلة الروضة.
تخبرنا دعاء قوجة، معلمة صف أول في مدرسة “خالد الشعار” بإدلب المدينة، أن “العامين الماضيين شهدا نسبة تحسن كبيرة في أعداد الطلاب الذين تلقوا تعلمياً ما قبل مدرسي، مقارنة بالسنوات السابقة التي لم تتعدى نسبة الأطفال القادمين من رياض الأطفال نحو 5 في المئة فقط”.
تعزو ذلك إلى الاستقرار النسبي الذي حظيت به المنطقة، ما جعل العودة إلى التعليم أقوى من السابق ولكن كل حسب ظروفه المعيشية.
فجوة بين الطلاب
لاحظت المعلمة دعاء أن هناك فجوة واضحة بين الطلاب الذين التحقوا مباشرة بالصف الأول، وبين الذين تلقوا تعليماً مسبقاً بإحدى مدارس رياض الأطفال، إذ أن المناهج التحضيرية تكون مشابهة للصف الأول، وبالتالي يصبح الطالب بمستوى أفضل من باقي الطلاب، تقول: “هنا تقع المهمة على المعلمة في رأب تلك الفجوة بين مستوى جميع طلاب صفها، بالبدء بمرحلة الصفر للجميع، والتركيز على الطلاب الأكثر ضعفاً وتشجيعهم، وزيادة مشاركتهم بالصف، والمتابعة مع الأهل”.
تشرح لنا مسؤولة الحماية سمية الحسن، حالة الخوف والعزلة التي أصابت الطفلة وئام، والتي تصيب كثيراً من الأطفال في بداية العام الدراسي، تقول: “عانينا كثيرا كـ “كادر تدريسي” من الحالة النفسية التي تصاحب الأطفال، عندما يدخلون مباشرة إلى الصف الأول، من عزلة وخوف وضعف شخصية وانطواء وحب الأهل، والتعلق بالأم، عكس الأطفال الذين تلقوا تعليما مسبقاً بأحد رياض الأطفال، وتجاوزوا تلك المشاكل النفسية والسلوكية بمراحل سابقة، واستطاعوا الاندماج والتكيف مع النظام المدرسي منذ اليوم الأول لهم”.
وتضيف أن “أغلب أطفال الروضات لديهم اطلاع على المنهاج، وقدرة على مسك القلم والكتابة على السطر، ورسم الحروف، وسرعة اندماجهم أقوى من باقي الأطفال”.
وترى سمية أنه يمكن تجاوز هذه المشكلات من خلال تقديم جلسات وأنشطة الدعم النفسي للأطفال، وجلسات توعوية مع الأمهات، لإخراج الطفل من تلك الحالة، حسب تعبيرها.
ما يزال القطاع التعليمي الحكومي في شمال غرب سوريا بحاجة إلى دعم من قبل الحكومة والمنظمات الداعمة بشكل أكبر، ولعل إدراج رياض الأطفال ضمن أولياته أمر بالغ الأهمية، لما يتركه من أثر في تحصيل الطلاب العلمي وتعزيز ثقتهم بنفسهم ورأب الفجوة والفروق الفردية بين الطلاب، خاصة مع تحوّل قسم كبير من التعليم في المنطقة إلى مشاريع استثمارية، يؤكد ذلك زيادة المدارس والمعاهد التعليمية الخاصة، وتوقف جزء كبير من الدعم على قطاعات التعليم العام، ما سيجعل التعليم حكراً على ميسوري الحال وذوي الدخل المتوسط.