عقب اندلاع الثورة السورية، كانت ليبيا مثل غيرها من البلدان، إحدى وجهات السوريين الفارين من جحيم الحرب، حيث قصدها البعض بهدف الإقامة والعمل، بينما اعتبرها آخرون نقطة عبورٍ نحو أوروبا.
سرعان ما تراجعت أعداد السوريين الوافدين إلى ليبيا، وتحديداً بين عاميّ 2014-2017، بسبب سيطرة تنظيم داعش على مناطق واسعة من البلاد، واشتداد المعارك فيها، لتعود من جديد خلال السنتين الأخيرتين كوجهة مفضلة لسوريين كثر، خصوصاً الموجودين في مناطق النظام، والذين باتوا يفتشون عن أي وجهة تؤمن لهم أساسيات الحياة الكريمة، وتنقذهم من الاعتقال أو الخدمة الإلزامية.
وجهة سفر سهلة في عالمٍ مغلق
مطلع العام الحالي، توافدت أعداد كبيرة من السوريين إلى ليبيا، في ظل تقطّع كل السبل أمامهم، شجعهم على ذلك توقف المعارك فيها.
صبحي نويلاتي، من سكان حي الزاهرة في دمشق، وصل إلى ليبيا الشهر الماضي، بعد أن شارفت وثيقة تأجيل الخدمة العسكرية خاصته على الانتهاء، لم يعد أمامه خيار سوى السفر إلى أي وجهة خارج سوريا، هرباً من الانضمام إلى جيش النظام.
يقول نويلاتي لفوكس حلب: “في العام الماضي كنت أخطط للسفر إلى بيلاروسيا ومنها إلى هولندا، لكني أجلت الموضوع إلى الصيف الحالي، لحين التخرج من الجامعة، لكن ولسوء حظي لم يعد السفر متاحاً إلى هناك، والحال ذاته ينطبق على أربيل، وحتى الوصول إلى أوروبا عن طريق التهريب يُكلّف نحو 10 آلاف دولار، وقد لا يكون مضموناً ويتعرّض اللاجئ للاحتيال من المُهرّب”.
يضيف نويلاتي: “السفر إلى تركيا صعب جداً خصوصاً للأشخاص الموجودين في مناطق النظام، لذا لم يعد أمامي خيار سوى السفر إلى أي دولة عربية، وبالتحديد ليبيا، بعد أن أغلقت معظم الدول العربية الأبواب في وجه السوريين”.
وكانت بيلاروسيا قد شهدت توافد أعداد ضخمة من السوريين إليها، خلال العام الماضي، قادمين مباشرة من مطار دمشق الدولي، حيث كانت نقطة عبور لهم نحو أوروبا.
وفي تشرين الثاني 2021، فرضت بولندا، ومن بعدها دول الاتحاد الأوروبي، قيوداً صارمة لمنع مرور أي لاجئ سوري من بيلاروسيا إلى بولندا، فضلاً عن تعليق معظم الدول رحلاتها نحو بيلاروسيا.
كذلك كانت أربيل من الوجهات المتاحة أمام السوريين، إذ كانوا يقصدونها بغية العمل والدراسة، لكن حتى هذا الخيار خسروه مؤخراً، إذ قررت حكومة أربيل، في أيار الماضي، إيقاف إصدار تأشيرات دخول السوريين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و50 سنة، إلى إقليم كردستان العراق، واقتصار منح التأشيرة للعائلات والأشخاص الذين تجاوزوا 50 سنة.
الطريق إلى ليبيا يبدأ من أي مكان
الوصول إلى ليبيا يحتاج إلى فيزا يحصل عليها السوريون بسهولة، حيث يقدم الشخص طلب الحصول على فيزا من مكتب “أجنحة الشام” للطيران ضمن مناطق النظام، والذي يتطلب تقديم صورة جواز السفر ساري المفعول، وصورة شخصية، بجانب تسديد مبلغ 1500 دولار، وهي تكاليف استخراج الفيزا وتذكرة الطيران.
بعد هذه الإجراءات ينتظر الشخص نحو أسبوعين، حتى يراسل مكتب “أجنحة الشام” السلطات الليبية في بنغازي، للحصول على موافقة أمنية، إذ تسيطر على بنغازي قوات حفتر الموالية لروسيا والأسد.
إضافة إلى هذه الإجراءات، يحتاج الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و45 عاماً، إلى استخراج إذن سفر من شعبة التجنيد، ويتقاضى النظام مقابلها 50 ألف ليرة سورية، وبعد وصول الموافقة على الفيزا، يجب على الشخص إجراء فحص كورونا قبل يومين من السفر، والذي يُكلّف 150 ألف ليرة.
السفر إلى ليبيا لم يعد يقتصر على السوريين الموجودين في مناطق النظام، بل يمتد أيضاً إلى الموجودين في مناطق حكومتي الإنقاذ والمؤقتة أو تركيا.
أحمد المختار، لاجئ سوري كان يقيم في اسطنبول، لكنه خسر عمله وضاقت به الحال، فقرر السفر إلى ليبيا، يقول: “المعيشة أصبحت صعبة جداً في تركيا، بسبب التضييق على السوريين من جهة، وغلاء المعيشة وعدم توفر مصدر دخل من جهة أخرى، لهذا قررت السفر إلى ليبيا، بعد أن علمت من أصدقائي هناك أن المعيشة أرخص بكثير من تركيا، والعمال يتقاضون أجوراً جيدة، ومعاملة الشعب الليبي جيدة مع السوريين”.
يضيف المختار: “لكي تسافر إلى ليبيا يجب أن يكون لديك جواز سفر ساري المفعول، ومن ثم طلبت من أحد أصدقائي هناك تقديم طلب دعوة لي، والتي تشمل الحصول على موافقة أمنية”.
حين تصل الموافقة الأمنية، يجب على الشخص الراغب بالسفر إلى ليبيا استخراج إذن سفر من إدارة النفوس التركية، لكن ذلك يعني حرمانه من العودة لتركيا لمدة عامين، وإذا لم يكن لديه بطاقة حماية مؤقتة (كيمليك)، يجب عليه دفع غرامة قدرها 6500 ليرة تركية.
أمّا من يود السفر من تركيا إلى ليبيا، وليس لديه شخص هناك يُرسل له طلب دعوة، فيمكن له الاتفاق مع أي مكتب تسيير معاملات للحصول على الفيزا، والتي تبلغ تكلفتها 1350 دولار مع تذكرة الطيران.
“للعائلات فقط”.. تحديات العيش في مجتمع محافظ
حين يصل الشخص لوحده أو مع عائلته إلى ليبيا، عليه تأمين سكن بأسرع وقت، وهي مشكلة واجهها مصطفى ريحاوي، 23 سنة، من أهالي مدينة حلب، يقول: “الليبيون شعب محافظ، لذلك أغلب السكان هناك لا يقبلون تأجير السكن للشباب، بقيت عشرة أيام بلا سكن وأنام في الحدائق، إلى أن عثرت على عمل في ورشة حدادة، والسكن كان مؤمناً من قبل صاحب العمل”.
تتراوح إيجارات المنازل بالنسبة للعائلات، بين 600-1500 دينار، حسب إكساء البيت ومساحته وموقعه.
وتنقسم السيطرة على ليبيا بين حكومة حفتر المدعومة من روسيا ودول الخليج من جهة، وحكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركيا من جهة أخرى.
تسيطر حكومة حفتر على نحو 60% من ليبيا، لاسيما مناطق شرق ووسط ليبيا، والتي تشمل بنغازي، طبرق، درنة وسرت، إضافةً لمدينة “سبها” أكبر وأهم مدن الوسط الليبي.
في حين تسيطر حكومة الوفاق الوطني بشكلٍ شبه كامل على المنطقة الغربية بما فيها العاصمة طرابلس مع حدودها الإدارية، إلى جانب مصراته.
يتجه المقيمون في مناطق النظام أو دول الخليج إلى مطار بنغازي حصراً، كون الحكومة المسيطرة عليه موالية للنظام، ومن هناك يتجهون عن طريق التهريب إلى أي مدينة ليبية.
أما الموجودون في تركيا يتجهون إلى مطار طرابلس أو مصراتة، الواقعان تحت سيطرة القوات المدعومة تركياً، وبنفس الوقت هناك سوريون في تركيا يسافرون إلى مطار بنغازي.
الماء والكهرباء والبنزين بأسعار رخيصة
من الأمور المميزة في ليبيا انخفاض تكاليف الخدمات، وهو ما لمسه أحمد المختار، الذي انتقل للعيش من اسطنبول إلى العاصمة طرابلس، إذ أنه لا يدفع فواتير الكهرباء والمياه، فهي على عاتق صاحب البيت.
وأشار المختار إلى أنه حتى لو لم تكن تكاليف الفواتير على صاحب المنزل، فهي تعتبر رخيصة جداً، فاتورة الكهرباء شهرياً لا تتعدى 20 ديناراً.
ويعتبر وضع التيار الكهربائي في ليبيا جيداً، إذ تصل الكهرباء على مدار اليوم، لكن خلال الصيف ومع اشتداد درجات الحرارة، تقنن الكهرباء لنحو ست ساعات، لتخفيف الضغط على محطات التوليد.
مياه الشرب تعتبر رخيصة أيضاً، فسعر العبوة (بيدون) 16 ليتر نحو دينار فقط، أما أسطوانة الغاز بـ5 دينار، وأسعار المواد الغذائية كذلك ليست باهظة الثمن، إذ يتراوح سعر الكيلو غرام الواحد من الخضار والفواكه بين 1-5 دينار، وربطة الخبز بـ 1.5 دينار، وكيلو اللحم بـ 35 دينار.
كذلك تعتبر المواصلات رخيصة جداً، وتبلغ تكلفة ركوب السرفيس ديناراً واحداً، نظراً لانخفاض أسعار المحروقات، حيث أن ليتر البنزين بـ15 قرشاً فقط، أي أن كل سبعة ليتر بدينار، وبالتالي فإن أسعار السيارات رخيصة الثمن وفي متناول أغلب السوريين بالنظر إلى دخلهم.
نصائح للوافدين الجدد
تتفاوت أجور السوريين الذين يعملون في ليبيا حسب طبيعة المهنة وساعات العمل، وتتراوح أجرة العامل العادي بين 50-80 دينار يومياً، بينما تتراوح أجرة المعلم بين 120-150 دينار.
وتعتبر بنغازي وطرابلس ومصراتة أبرز المدن التي اتجه إليها السوريون عقب هجرتهم إلى ليبيا، نظراً لتوافر سوق عمل كبير، والنشاط التجاري المتنوع.
ولجأ سوريون إلى افتتاح مشاريع صغيرة أو متوسطة، لـ “أن العمل الخاص أفضل من العمل تحت إمرة رب عمل”، وفقاً لنصيحة معتز الناصر، بعد تجربته في سوق العمل بمدينة مصراتة.
معتز لاجئ سوري من مدينة إدلب، كان يعمل في ورشة لصيانة السيارات لدى شخص ليبي، لكنه عانى من قلة الراتب، وعدم الانتظام في دفعه، وبعد ثلاثة أعوام قرر افتتاح ورشة خاصة به، وانقلب وضعه المادي رأساً على عقب.
ويُفضّل كثير من السوريين قبل السفر إلى ليبيا، الاستفسار عن الوضع فيها من حيث المعيشة والعمل، ومن خلال رصدنا جروبات الفيسبوك التي تخص السوريين في ليبيا، فإن النصيحة الأولى التي يُوجهها من سافر إلى ليبيا لكل من يود السفر: “إذا ما معك مصلحة لا تجي”.
وأسس السوريون في ليبيا العديد من المشاريع، وأكثرها نجاحاً وانتشاراً كانت المطاعم، والتي تشهد إقبالاً من قبل العرب في ليبيا، نظراً لشهرة المطبخ السوري من حيث التنوع والجودة.
وتبلغ قيمة افتتاح مطعم بين 5-15 ألف دينار، حسب مساحته وموقعه وطبيعة إكسائه.
نقطة سوداء في بحر من الإيجابيات
رغم إيجابيات الحياة في ليبيا، من حيث رخص المعيشة وتوفر فرص العمل والدخل الجيد، فإنها لا تخلو من جوانب سلبية.
تحسّن الواقع الأمني في ليبيا مقارنةً بالسنوات الماضية، ومع ذلك فإنه لم يستقر تماماً، إذ يتعرض السوريون أحياناً لقطاع الطرق واللصوص، الذين يهددونهم بالسلاح لسرقتهم.
معتز الناصر كان أحد ضحايا اللصوص، الذين اعترضوا طريق سيارته يوماً وسرقوا هاتفه ونقوده، ثم تعرض لحادث آخر سرقت فيه سيارته.
وما يزيد الطين بلّة، بحسب معتز، أن أغلب السوريين لا يملكون أوراقاً ثبوتية، ما يحول بينهم وبين تقديم شكوى للشرطة، بعد تعرضهم للسرقة.
وتمنح ليبيا “بطاقة حصر” للسوريين الموجودين على أراضيها، بغية معرفة عددهم، كما يمكن للسوري الحصول على إقامة في ليبيا.
وتبلغ تكلفة استخراج بطاقة حصر أو إقامة 500 ديناراً، بينما تقدّر تكلفة تجديدها كل عام 150 ديناراً، وهو ما يجعل كثيراً من السوريين يعزفون عن التسجيل على الإقامة كي لا يدفعوا تكاليف استخراجها، ما قد يُعرّضهم في بعض الأحيان للسجن لفترة وجيزة، لكن يتم إطلاق سراحهم بكفالة من أحد الليبيين.
ونصح معتز الناصر من يود افتتاح مشروع في لبيبا، أن يكون لديه شريك أو صديق ليبي، بحيث يصبح واجهة المشروع، بغية إبعاد الأنظار عن السوري كمستثمر، حتى لا يصبح مطمعاً لقطاع الطرق واللصوص.
تضيق الخيارات أمام السوريين في الداخل أو في بلدان اللجوء المجاورة، مثل تركيا ولبنان، ما يزيد من بحثهم عن خيارات أكثر أمناً وأقلّ تكلفة، خاصة الدول التي ما تزال تمنح فيزا دخول للسوريين بطريقة سهلة بعد أن أغلقت في وجوههم معظم أبواب الدول وتعرضهم للإساءة في الكثير من البلدان التي وصلوا إليها.