فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

إحدى الصيدليات في مدينة عفرين- فوكس حلب

صيدليات بلا صيادلة .. من مكان للاستطباب إلى مشاريع استثمارية

فداء الصالح

قبل أيام قليلة أُدخلت طفلة تقطن عائلتها مدينة جنديرس بحالة إسعافية إلى إحدى مستشفيات مدينة عفرين، بريف حلب، الطفلة كانت مصابة بالتهاب الزائدة الدودية، وتم إعطاؤها مطهراً معوياً من قبل […]

قبل أيام قليلة أُدخلت طفلة تقطن عائلتها مدينة جنديرس بحالة إسعافية إلى إحدى مستشفيات مدينة عفرين، بريف حلب، الطفلة كانت مصابة بالتهاب الزائدة الدودية، وتم إعطاؤها مطهراً معوياً من قبل عامل في إحدى صيدليات المنطقة، وأخبر العامل والد الطفلة حينها أن “أمورها ستتحسن حتى الصباح”.

يقول الممرض في المستشفى الذي نقلت إليه الطفلة، ناصر إسماعيل: “هذا العامل في الصيدلية كاد أن يودي بحياة الطفلة، نتيجة ظنه أنها مصابة بالتهاب معوي”.

باتت الصيدليات اليوم عبارة عن عيادة وصيدلية، أو مجرّد “دكان لبيع الدواء”، فكون هذا المجال مغرياً للمستثمرين جعل كثيرين يقبلون عليه، وفي المقابل، شهدت المنطقة تراجعاً في أعداد الصيادلة من ذوي الاختصاص، وذلك لأسباب عديدة، منها الهجرة إلى تركيا وأوروبا، وتراجع عدد الخريجين من كليات الصيدلة في المنطقة.

يقطن ناحية جنديرس وحدها نحو 45 ألف نسمة، وتتوزع في مركز المدينة أكثر من 30 صيدلية، منها التي يشرف عليها مختصون وغير المختصين، لكن تكثر ظاهرة وجود غير المختصين في القرى البعيدة عن مركز المدينة. “تركت كل الفساد الموجود في المنطقة وعم تدور ورانا لأننا عم نشتغل بصيدلية” بتلك العبارة المختصرة ردَّ عامل في إحدى صيدليات جنديرس، عند سؤاله عن الشهادة التي يحملها، والخبرة التي بموجبها بدأ العمل في صيدلية، فيما امتنع كثير من العاملين عن الحديث عن الحديث معنا.

يعلّق عبدالله المحمد، مهجر من محافظة الحسكة إلى ناحية جنديرس، ترخيص مزاولة المهنة الذي حصل عليه قبل 20 عاماً في صيدليته، بدلاً من الترخيص الذي حصل عليه من المجلس المحلي في جنديرس والمكتوب باللغة التركية، يقول: “يمكن لأي شخص اليوم استئجار شهادة صيدلي بمبلغ 150 دولار شهرياً، ويحصل بموجبها على ترخيص العمل من المجلس المحلي الذي لاهمَّ له إلا تلقي رسم سنوي من كل الصيدليات العاملة في المنطقة”.

رقابة متراخية

تزور الصيدليات في جنديرس لجنة تفتيش بين الفينة والأخرى إلا أن خبرها يصل الجميع ليغلقوا صيدلياتهم المخالفة، أو التي لا تملك ترخيصاً، حيث يتجاوز عدد تلك المخالفة نصف الصيدليات الموجودة، بحسب “المحمد”. ويضيف “أكثر ما تبحث عنه لجنة التفتيش الأمور الفنية مثل مساحة الصيدلية وطفاية الحريق وجهاز الأوكسجين وخزنة الأدوية النفسية”.

كما تجري مديرية صحة عفرين جولة على الصيدليات في جنديرس مرة واحدة  كل ثلاثة أشهر، بحسب شمس الدين حوطو مدير المكتب الطبي في جنديرس، الذي قال: “منحنا الصيدليات في آخر جولة مهلة ثلاثة أشهر لإلزام الصيدلاني الذي تم الترخيص باسمه على الدوام الكامل في الصيدلية، وستكون هنالك رقابة على الأدوية عموماً، والنفسية خصوصاً، من خلال دفتر الدواء النفسي الذي ستلزم الصيدليات به”.

أبو أحمد مهجر من دير الزور، حاصل على شهادة تمريض ويعمل في صيدلية الحكمة في جنديرس برفقة صيدلي مجاز، أي حاصل على الشهادة العلمية، يقول :إن عادة أخذ الدواء دون وصفة طبية منتشرة جداً في سوريا حتى بات الصيدلاني يوصف بأنه “أشطر من دكتور” إذا ما كانت لديه القدرة على تحديد نوع المرض، والدواء المناسب له.

الصورة من إحدى الصيدليات في مدينة جنديرس.
الصورة من إحدى الصيدليات في مدينة جنديرس.

تعرض أبو أحمد لموقف منذ سنتين جعله يحجم عن إعطاء أدوية داخلية أو أدوية للأطفال دون وصفة طبية، يقول: جاءني طفل رضيع بعمر ستة أشهر يعاني من ارتفاع حرارة شديد، ويبدو عليه التعب، رفضت إعطاءه دواءً وطلبت من والده أن يذهب به إلى المستشفى، إلا أن مرافق والد الطفل أخبره أن هنالك صيدلانياً شاطراً، في الواقع كان عاملاً في الصيدلية، وليس صيدلانياً، أعطى العامل الطفل حقنة “روسيف” و”ديكسا” وأجرى له جلسة رذاذ ومن ثم أرسله للمنزل. بعد عدة أيام عاد والد الطفل وأخبرني بوفاة طفله، ورفض حينها تقديم شكوى، واعتبر أن “ذلك قضاءً وقدراً”.

يرفض حسين، المهجر من دمشق، تلقي أي علاج دون الرجوع لطبيبه من أجل التأكد من ملاءمة الدواء مع حالته المرضية، يقول حسين: “أعاني من مرض مزمن في القولون يعرف بـ”داء كرون”، ولا يلائمني أي دواء، لأنه قد يسبب لي مضاعفات أخرى، وهذا ما يدفعني لسؤال طبيبي عن ملاءمة الدواء لحالتي الصحية”.

يمتنع الصيدلي عبد الله المحمد، العامل في الصيدلية و”أبو أحمد” عن إعطاء الأدوية التي اعتبرها “هادمة للمجتمع”، كأدوية الإجهاض والأدوية النفسية والأدوية المخدرة، ويقول المحمد: “لا أحضر الأدوية النفسية والمخدرة أو التي تسبب الإدمان للصيدلية، وأمتنع عن بيع أدوية الإجهاض، إلا بموجب وصفة طبية رسمية من قبل طبيب معروف وبتاريخ حديث حصراً، وأكتب في دفتر ملاحظات عندي، اسم المريضة واسم الطبيب الذي وصف الدواء، كما أكتب ملاحظة على الوصفة أنها صرفت بتاريخ يوم صرفها”.

اعتبر أبو أحمد أن الطلب على أدوية الإجهاض ارتفع كثيراً، ولا يمكن أن يكون مشاركاً في قتل جنين، أما الأدوية المسببة للإدمان فلا يحضرها بسبب سوء الوضع الأمني، ومنعاً لتكرار ما حدث في عفرين العام المنصرم من إطلاق النار على صيدلاني نتيجة امتناعه عن بيع دواء لشخص يرتدي الزي العسكري.

تشترط مديرية الصحة في عفرين لافتتاح الصيدليات، أن يكون ترخيص أي صيدلية صادر عنها، إضافة إلى التباعد المكاني بين الصيدليات وشروط فنية أخرى داخل الصيدلية، منها المساحة، بحسب أحمد العيسى مسؤول الصيادلة في مديرية صحة عفرين.

وفي تصريح لـ “فوكس حلب” قال العيسى: هنالك أربع صيدليات غير مرخصة في جنديرس (على عكس ما رصدنا، وما أخبرنا به عاملون في ذات المجال)، تعهد أصحابها بالإغلاق من تلقاء أنفسهم. وأما بخصوص الممرضين، فأشار إلى أنهم مخولون للحصول على رخصة مزاولة مهنة الصيدلة، في المناطق الريفية.

أصيب علي، مهجر من حمص، بقرحة معوية منذ سنوات واضطر إلى مراجعة المستشفى، بعد أن أعطاه عامل في صيدلية دواء “ديكلون”، يقول: “بالرغم من إخباري للعامل أن لدي قرحة معوية أعطاني ديكلون قائلاً “عند الضرورة لا يؤثر” ما تسبب لي بآلام شديدة وإقياء، اضطراني لزيارة المستشفى بحالة إسعافية”.

“ما معي شهادة بس عندي خبرة أربع سنوات” يقول علي الحسين، المهجر من دمشق،  والعامل في إحدى صيدليات جنديرس، ويضيف “أتعرف على حالة المريض من خلال الحديث معه، إضافة إلى التشخيص السريري، ومن ثم أصف له الدواء، لافتاً إلى أن هنالك أمراض أعراضها واضحة ويمكن لمن يمتلك الخبرة أن يشخصها، ويصف الدواء المناسب لها. في نفس الوقت يقول “إنه يمتنع عن إعطاء الدواء للأطفال دون سن ستة أشهر، أو الحالات التي لا يستطيع تشخيصها”.

الصيدليات تحوّلت إلى مشاريع استثمارية

تُعد الصيدليات مشاريع استثمارية مربحة لذلك يقبل عليها مستثمرون، ويتعاقدون مع صيدلاني للعمل في الصيدلية، إلا أن قلة عدد الصيادلة جعلت كثيرين منهم يتحولون إلى صيادلة، بعد أن يحفظوا أسماء الأدوية، ولماذا توصف، ليحلوا مكان الصيدلاني والطبيب، بحسب الدكتور يحيى طباع، العامل في إحدى مستشفيات عفرين.

يقول الطباع: “لا تكمن المشكلة في أن يعطي الصيدلي أو حامل أي شهادة طبية أدوية لحالات بسيطة مثل الرشح ونزلات البرد وغيرها دون وصفة، فهنا تنتشر ثقافة أن الصيدلاني هو الطبيب. لكن نرى حالات يتم فيها إعطاء أدوية لحالات مرضية تحتاج  تشخيصاً طبياً وربما تحاليل وتصويراً شعاعياً مثل الأمراض الداخلية والأمراض المزمنة كالضغط والقلب، أو في حالات مرضية لدى الأطفال نظراً لحساسية أجسادهم مع الأدوية.

ويضيف: “يمكن في مثل هذه الحالات أن تتسبب الأدوية في وفاة المريض، ومن يتحمل المسؤولية هم الصيادلة الذي يقومون بتأجير شهاداتهم لأغراض مادية، كما أن مديريات الصحة في الشمال المحرر تبحث عن الترخيص قبل البحث عن شهادة الصيدلي، الذي يعمل في صيدلية مسجلة على اسم صيدلي آخر”.

الصورة من إحدى الصيدليات في مدينة جنديرس.
الصورة من إحدى الصيدليات في مدينة جنديرس.

وعن إمكانية عمل غير المختصين في مجال الصيدلة، يقول الطباع: “لا يمكن لأي شخص أن يمارس مهنة دون أن يكون لديه خلفية أكاديمية عنها، حتى لو كان لديه فترة عمل طويلة، لأنه يجب أن يدرس كل مادة دوائية وآلية عملها ومضادات استطبابها وهذا ما لا يستطيع تعلمه في المتاجرة بالأدوية”.

وقد منع المرسوم التشريعي رقم 12 للعام 1970 من مزاولة أي مهنة طبية إلا إذا كان الشخص حائزاً على الشهادة الخاصة بالمهنة التي يزاولها، وأن يكون مسجلاً  لدى وزارة الصحة وحاصلاً على ترخيص منها بمزاولة المهنة بصورة دائمة أو مؤقتة.

يطلب بعض الأطباء من مرضاهم رؤية الدواء بعد شرائه للتأكد من صحته تجنباً للخطأ الذي يمكن حدوثه نتيجة وجود أعداد كبيرة من العاملين في مجال الصيدلة من غير المختصين، بحسب عبد الله المحمد الذي قال: “هذا الطلب يجعل المريض في أمان من الأخطاء ممكنة الحدوث من قبل العامل في الصيدلية، وتعطي الطبيب فرصة اختيار البديل الدوائي في حال فقدان الدواء أو عدم توفره”.

أجمع من التقيناهم من أطباء و صيادلة على أن تحول مهنة الصيدلة إلى مهنة تربح مادي، كأي مشروع تجاري آخر، دون وجود صيدلي مختص للعمل بها يشكل خطورة على حياة المرضى، وما يزيد الوضع سوءاً ضعف الرقابة الطبية على الصيدليات.

حلول مقترحة

أحمد الموسى، يعمل في إحدى صيدليات قرى جنديرس، يقول: “أنا مع منع غير المختصين من العمل في الصيدليات، لكن من أين سنأتي بصيادلة لكل صيدليات المنطقة، وخاصة في القرى النائية، التي يرفض كثير من الصيادلة العمل فيها .. هل نترك السكان دون طبابة، ونحرمهم من حق الحصول على الدواء؟”.

وأضاف: “المنطقة بحاجة كبيرة للصيادلة، حيث تخرّجت ثاني وآخر دفعة من كلية الصيدلة بجامعة إدلب في عام 2021 وبلغ عدد الخريجين 87، وهؤلاء، إن بقوا في سوريا، سيذهبون للعمل في المدن، وما يؤكد صحة وجهة النظر هذه أن صيدليات المدن الكبرى كأعزاز والباب يشرف عليها صيادلة مختصون، ودائماً ما كان الريف يعاني من قلة عدد الصيادلة، وكان سابقاً يتوجب على خريج الصيدلة، حسبما ينص القانون السوري، الخدمة في الريف لمدة سنتين قبل أن يتمكن من نقل ترخيصه إلى المدينة”.

ويرى الموسى أن الحل هو إنشاء معهد لتدريب مساعدي صيادلة، أو إقامة دورات تدريبية تمكّن الراغبين بممارسة هذه المهنة من إتقانها، من أجل توفير حق الاستطباب والحصول على الدواء للسكان، لأن إغلاق هذه الصيدليات لا يعتبر حلاً، وقد يزيد المشكلة تأزماً، حسب تعبيره.

يتفق كثيرون ممن التقيناهم مع وجهة نظر الموسى، منهم من رأى أن هذا المقترح  قد يكون حلاً مؤقتاً، لمشكلة قلة عدد الصيادلة المختصين في القرى النائية، لكن يرى أحمد عيسى، وهو مسؤول الصيادلة في مديرية صحة عفرين، أن الحل بإغلاق الصيدليات المخالفة التي لا يعمل بها صيادلة، حيث يؤكّد أن عدد الصيادلة يكفي الصيدليات الموجودة، ويشير إلى، أنه يوجد عدد كبير من الصيدليات وخاصة في مراكز المدن، وأن تخفيض أعدادها ستكون له فائدة من ناحية توجيه العدد الفائض الذي يمتلك تأهيلاً علمياً مقبولاً، باتجاه الأرياف التي يعتبر وضع الصيدليات فيها “مزرياً”.