شكّلت أزمة الخبز في لبنان، والتي بدأت منذ منتصف 2020 وتفاقمت في الشهر الماضي، بداية انهيار منظومة الدعم التي تغنى بها سياسيو لبنان والأحزاب التي تسلمت وزارة الاقتصاد في العقود الماضيّة، ليغدو رغيف الخبز خارج حسابات الخطوط الحمراء. وأصبحت قصّته، بدء من استيراد قمحه وطحنه وتوزيعه على الأفران وإنتاجه وتحديد ثمنه وصولاً للطوابير المصطفة للحصول عليه وتحديد هوية الواقفين عليها وجنسيّتهم وعدّ ربطاتهم، بما فيها خبز السوريين في لبنان، هي الحائز الأبرز على اهتمام وسائل الإعلام في لبنان ومواقع التواصل الاجتماعي.
عين السلطة على رغيف السوريين
تأخذ قصة الخبز، خاصة خبز السوريين في لبنان، أبعاداً اقتصادية واجتماعية وحتى أمنيّة، جميعها متشابكة. فمن جهة، ينتقد لبنانيون الطبقة السياسيّة التي أبقت على أقل من 50% من الدعم، وكانت السبب في دمار (اهراءات =صوامع) القمح في تفجير المرفأ وبقاء لبنان بدون مخزون استراتيجي، ولا تسعى لاستيراد القمح وتخزينه كجزء من الأمن الغذائي مثل باقي الدول التي تستورد قمحها من الدول المتحاربة(روسيا وأوكرانيا)، بل على العكس تبقي المطاحن فارغة، والتي تعمل في الأصل بنصف طاقتها الإنتاجية لشح القمح ولعدم توفر الوقود ولإضراب العمال فيها باستمرار.
كما تتوجه أصابع الاتهام لأصحاب الأفران الذين يستغلّون الطحين “المدعوم” لصنع معجنات أخرى غير الخبز العربي، ويبيعون الطحين في السوق السوداء للتجار الذين يهرّبون كميات كبيرة منه إلى سورية كما يشاع.
ومن جهة أخرى لا تجد الطبقة السياسيّة سبيلاً لرد الاتهام سوى توجيهه نحو اللاجئين السوريين، خاصة بعدما كثر الحديث عن نصف مليون ربطة أو أكثر أو أقل يستهلكها السوريون في لبنان، ما جعل شريحة كبيرة من اللبنانيين تذهب للاعتقاد ذاته، “ماذا لو لم يكن هناك سوريون في لبنان”؟، “نصف مليون ربطة ستكفينا وستجنّبنا الوقوف في الطابور لساعات”.
يقول آدم وهو ناشط لبناني في مجال حقوق الإنسان إن السلطة اللبنانيّة تتعمّد إحداث ارتباط بين أزمات البلد المتتالية ووجود اللاجئين السوريين، إذ تلجأ كلما “حشرت” وتعرضت للانتقادات والاتهامات بالتقصير والإهمال والفساد إلى إخراج ورقة اللجوء السوري، ومؤخراً استغلّت أزمة خبز السوريين كحجّة منطقيّة لتبرير عودة السوريين إلى بلادهم ولإلهاء الناس عن المسبّب الحقيقي للأزمة، وهذا ما يفسّر حديث وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام للجزيرة نت عن 400 ألف ربطة يستهلكها السوريون يوميّاً، أي بمعدّل 40إلى 50% من القمح الذي يدخل إلى لبنان.
موقع درج قال إن لبنان يستورد بين 600 و650 ألف طناً من القمح سنويّاً، 80% منها من أوكرانيا، موضحاً أن استيراد القمح تضاعف ست مرات منذ بداية الحرب في سورية عام 2011 بحسب بيانات المرفأ، هذه الكميات تكفي لأضعاف عدد سكان لبنان، ولفت درج إلى الانتباه عن أن الكميات لم تجد طريقها إلى الأفران التي تشكو من شح استلام الطحين، متسائلاً: “أين ذهبت هذه الكميّات إذن”؟
الأفران تختار زبائنها
على الأرض شارفت كميات الطحين على النفاد في الأفران ما أدى لتوقّف قسم منها عن العمل، كما امتنع معظمها عن تسليم الخبز للبقاليات ومراكز بيع المواد الغذائيّة ما حصر الحصول على رغيف الخبز في الأفران والوقوف في الطوابير، الطوابير ذاتها وقف فيها اللبنانيون والسوريون على أبواب الصيدليّات حينما كانوا يبحثون عن أدوية وحليب أطفال، وهي الطوابير ذاتها على محطات الوقود، لكن المساس برغيف الخبز أمر شديد الحساسيّة، ذلك ما أرادت السلطة ومن وقف معها إيصاله، وهذا ما يفسّر المشادات الكلامية والمشاجرات الفردية التي حصلت بين سوريين ولبنانيين على أبواب الأفران.
سجلت ربطة الخبز تضاعفاً سريعاً في سعرها، فمنذ منتصف 2020 والأعوام التي سبقته كانت تباع بـ 1500 ليرة لبنانية لكنها وصلت الآن إلى نحو 15 ألف، ومن المحتمل أن تسعّر بـ 40 ألف، في حال رفع كامل الدعم عن القمح المستورد حسب تقديرات اقتصاديّة.
ووفقاً لشهادات سوريين تحدّثوا لفوكس حلب فقد انقسمت الأفران في لبنان إلى أربعة أقسام: أفران امتنعت عن تسليم الخبز لغير اللبنانيين، إذ كانت تطلب الهوية من أي زبون يريد دخول الفرن. عدد هذه الأفران قليل جداً مقارنة بغيرها. وأفران تبيع الخبز بطابور للسوريين وآخر للبنانيين، وطابور للنساء السوريات وآخر للبنانيّات، مع الأخذ بالاعتبار أن الأفضليّة للبناني، إذ كانت تبيع مثلاً عشرة زبائن لبنانيين مقابل زبون سوري.
وأفران أغلقت أبوابها معتذرة لزبائنها عن ذلك. أما القسم الرابع، فهو لأفران باعت الخبز للجميع دون قيد أو شرط، هذه الفئة تشكل الأغلبية رغم جميع الدعوات والتجييش الإعلامي بعدم بيع أي ربطة خبز قبل أن يأخذ جميع اللبنانيين حصّتهم اليوميّة.
هذا الخبز لي
يقول أبو خالد وهو أحد العاملين السوريين في أحد أفران مدينة صيدا ومسؤول قسم الإنتاج فيه، إنه نفّذ إضراباً بسبب الدعوات التي وصفها بـ “العنصرية”، والتي أطلقها الزبائن لعدم بيع الخبز لغير اللبناني. يتابع “أعمل هنا منذ ثلاثين سنة، أكثر من 90% من العمال والموظّفين سوريين، سمعنا شيئاً لا يتقبله العقل من قبيل “خلي المفوضية تجبلن خبز” و “لبنان ما عاد فيه يحمل أكتر من هيك” و”الخبز اللبناني للبنانيين” ما دفعنا لإيقاف خط الإنتاج والبيع، لكن صاحب الفرن تدخّل وأنقذ الموقف متعهّداً أنه لم يلق باله لهذه الدعوات العنصريّة.
“نحن لسنا عنصريين، هذا حقّنا ولن نسمح لأحد أن يأخذه منّا” يقول وسام وهو مواطن لبناني في حديثه لفوكس حلب مدافعاً عن الذين يطالبون بتسليم الخبز المدعوم فقط للبنانيين، معتبراً أن المفوضيّة هي من تتكفل بتأمين احتياجات السوريين الذين عليهم أن يطالبوها بتأمين خبز وأفران خاصة لهم، ويضيف “نحن في أزمة، والأزمة باختصار أن القمح لا يكفينا، فليرحمنا اللاجئون السوريون والفلسطينيون، لا يعقل أن نعطي شيئاً لغيرنا ونحن بحاجةٍ ماسّة إليه”.
يرفض لبنانيون آخرون هذا الطرح، ويتهمون أصحابه بـ “العنصرية والتجرد من واجباتهم الأخلاقية والإنسانية”، تماماً كما فعلت السلطة التي جعلت اللاجئين شمّاعة أزماتها كما أخبرونا، يقول نزار البتكجي (ناشط لبناني في حقوق الإنسان)إن الخبز حق طبيعي لكل من يعيش على الأراضي اللبنانية وواجب على الدولة تأمينه للجميع، كما أن اللاجئين يشترونه بمالهم، ويتابع “الجميع يعرف أن السلطة ستتجه لرفع الدعم، وهذا ما حصل مع الأدوية وحليب الأطفال والمحروقات والاتصالات، عندها ستجد الخبز في معظم دكاكين لبنان كما كان سابقاً”
وين في خبز
تبدأ القصة مساء كل نهار بالحديث عن أخبار الخبز على مجموعات فيسبوك وواتس أب أنشأها السوريون لمعرفة الأفران التي تبيع الخبز دون سوابق بحصول إشكالات على أبوابها، مع جرعة نصائح بعدم ذهاب النساء كي لا يسمعن كلاماً غير لائق والأطفال أيضاً كي لا يتعرّضوا للضرب أو الاستغلال، بالإضافة إلى تسمية الأفران التي امتنعت عن بيع الخبز للسوريين أو حصلت مشادات كلامية ومشاجرات على أبوابها والطلب من اللاجئين عدم الاقتراب منها.
يقول سوريون تحدّثنا إليهم إن تذمر اللبنانيين من صعوبة الحصول على خبزهم هو أمر مشروع وحق لهم، فالخبز يأتي في مقدمة الاحتياجات الإنسانية وهو ضرورة للحياة، لكن اعتبار السوريين جزء من الحرب على رغيفهم هو أمر غير مقبول ومبالغ فيه، فالسوريون مثلهم يقفون في الطوابير ويعز عليهم تأمين خبزهم، ويتلقّفون مرارة أزمات هذه البلاد كما سكانها، ثمّ إنه لا يوجد أي قرار أو قانون يمنع شراء السوريين للخبز المدعوم في لبنان.
إلى جانب ذلك هناك حسابات جديدة لتأمين الرغيف غير الانتظار في الطابور تحت حرارة الشمس اللاهبة، يقول أبو غيث وهو لاجئ سوري في لبنان “لا ينبغي لك أن تنظر في وجه أحدهم، عليك أن تبقى محدّقاً أمامك، كما ليس لك أن تبدي اعتراض أو أي تذمر ولو بتعابير وجهك إن اعترض أحدهم على وقوف السوريين أمام الفرن، بعضهم ينظرون إليك وكأنك تسرقهم، وإن حصل مشادة كلامية أو شجار عليك العودة للمنزل حتى وإن لم تؤمن لقمة عيشك اليومي”.
“اللبنانيون أنفسهم يسمونها طوابير الذل، فلماذا يسعى قسم منهم لإذلالنا بلقمة عيشنا”، تقول أم حسن، وهي لاجئة سورية في لبنان، تخبرنا أن كرامتها التي تحفظها بعد شيبتها أغلى من أرغفة الدنيا، فمنذ شهر لم تطأ قدمها أي فرن لبناني، اشترت كيس طحين وصاجاً يعمل على الغاز من حوالة مالية أرسلها أبناؤها في ألمانيا.
الآن اختفت الطوابير بشكل شبه نهائي بعد قدوم باخرة قمح من أوكرانيا، إلا أنها ستعود في أزمات لاحقة وأشد لحين رفع الدعم، وهو أمر غير مستبعد وفق المعادلة التي بات يعرفها اللبنانيون “رفع الدعم يعني اختفاء الطوابير، وهذا ما حصل مع المحروقات والدواء وغيرها من السلع” بحسب أبو خالد مسؤول الإنتاج في أحد أفران صيدا.
لا تشبه الأفران اللبنانية مثيلاتها في سورية، لا من جهة ملكيتها ولا شكلها الداخلي والخارجي ولا نوعية الخبز، ففي سورية تعود ملكية قسم من الأفران للدولة وفي لبنان يستحوذ عليها القطاع الخاص، معظمها تبدو مثل المولات أو السنترات من حيث التصميم، أبواب زجاجية تفتح أوتوماتيكياً وموظّفو استقبال بثياب نظيفة وطاولات وأرف فاخرة تعرض البيتيفور والخبز الإفرنجي وأنواع الكعك والكيك والكاتو وأصناف الحلويات اللبنانية بالإضافة إلى الخبز العربي الذي يعرفه السوريون بالخبز السياحي، فيما تشتركان بأن صانعي الخبز هم العمال السوريون، وهم كما يصفهم نقيب أصحاب المخابز اللبنانيّة السابق كاظم ابراهيم أساس هذه الصنعة التي لا تحوي عمالاً لبنانيين لأنها شاقّة، قائلاً “إذا لا يوجد سوري، لا يوجد خبز في لبنان”.
يصبح خبز السوريين في لبنان شماعة أخرى وألماً جديداً يضاف إلى مشكلات كثيرة يعيشها للاجئون في دول الجوار، وهو ما يزيد الضغط عليهم لإجبارهم على العودة غير الآمنة إلى سوريا أو البحث عن بلدان جديدة بطرق تفضي بكثير منهم إلى الخطر والموت، الأهم من ذلك أن يقف المواطن عاجزاً أمام الحصول على رغيف خبز، تلك هي المعادلة التي يعيشونها دون حل للتخفيف منها.